هناك في التاريخ السوري الذي يصحّ توصيفه بأنه أقرب إلى «الشفوي» الذي يتناقله باحثون اعتماداً على روايات شهِدوها أو هم سمعوها بالتواتر، منه إلى «الموثق»، وهو بالمطلق يحتاج إلى مزيد من الإسناد حتى يرقى إلى مستوى «الحقيقة التاريخية»، الكثير مما يجري تداوله حول مفاهيم عدة مثل «الأقلية» و»الأكثرية»، و»الطائفية» في سوريا، ومجمل المطارحات الواردة حولها تفعل فعلها على المستويين الشعبي والمناطقي، وصولاً إلى دوائر ذات صلة بأرحام صناعة السياسة في بلاد تعتبر الغالبية الساحقة فيها مسيّسة بشكل أو بآخر.
من وحي الجرح السوري، عمل لإدريس إلبا من وحي جدارية شهيرة لـ بانسكي

هنا نسمح لأنفسنا بإيراد بعض ما يجري تداوله في هذا السياق نظراً إلى تأثيراته الكبيرة التي راحت تفعل فعلها داخل دوائر واسعة من شرائح المجتمع السوري في ظل أزمة عصفت بكل بنيان المجتمع، ولربما كان من الطبيعي، والأزمة تشتد عصفاً، قيام شرائح بتسويق تقارير ونشر معلومات تعزز من مواقعها عبر تسويق تلك الروايات، ولا بدّ هنا من القول بأن تلك المواقف، حتى ولو كانت ضعيفة الإسناد، فإنها تلعب في مرحلة ما، كتلك التي نمر بها، دور «الحقيقة التاريخية» أقلّه في شرائح تجد نفسها في موقع الدفاع عن نفسها عبر التهم الموجهة إليها من نوع «أقلية حاكمة» بل وهي تستند إلى «الطائفية» في استمرار حكمها.
بدأ الصدام «البعثي - الإخواني» مبكراً بعد وصول حزب البعث إلى السلطة بثلاثة عشر شهراً، حيث ستشهد مدينة حماة «المحافظة» التي وجدت في ذلك الوصول قطيعة ثقافية ومجتمعية مع تاريخها الإسلامي العريق، بفعل «العلمانية» التي كانت بارزة من خلال تصريحات زعمائه بدرجة أكبر مما تحتويها أدبياته التي كانت تمثل -مثلاً - سقفاً منخفضاً لتلك التي احتوتها نظيرتها عند الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكنّ الفرق هنا كان الوصول إلى السلطة، حيث ستشهد تلك المحافظة في نيسان/أبريل 1964 تمرداً عُرف باسم أحداث «جامع السلطان» التي قمعتها السلطات انطلاقاً من الشعارات التي رفعتها والتي كانت تتعارض مع تلك التي رفعها حزب البعث الحديث العهد بالسلطة آنذاك، لم تكن تلك الصدامات تعبيراً عن حالة طائفية بقدر ما كانت تعبيراً عن حالة صدام فكرية، إلا أن الدفة ستشهد انحرافاً واضحاً في طبيعة الصدام ما بعد 23 شباط/فبراير 1966 الذي أوصل إلى السلطة قيادات «علوية» بدا وكأنها تفضل إدارة الدفة من وراء الكواليس بدلاً من تصدّر المشهد، وعندما تغيّر ذلك «التفضيل» مع وصول الرئيس حافظ الأسد إلى رأس هرم السلطة رسمياً في آذار/مارس من عام 1971 بدا وكأن السماء السورية راحت تستجمع الكثير من الغيوم تمهيداً، أو نذيراً، بإمكان هبوب العاصفة.
كانت أولى المحطات مع إقرار الدستور الجديد في آذار/مارس 1973، والذي قيل إن مسودته كانت تريد تجاهل البند الأول، الذي أقره الدستور حين صدوره، والذي يقضي بأن «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام»، والإقرار جاء كمحاولة لتحاشي احتجاجات الغالبية على مذهب الرئيس الجديد، الأمر الذي جرى تجاوزه بفتوى الإمام موسى الصدر التي أصدرها في تموز/يوليو 1973 ومفادها أن العلويين هم فرقة من الإسلام على مذهب الاثني عشرية، ليتخذ الصدام، الذي لاحت تباشيره مع الدخول العسكري السوري إلى لبنان 1 حزيران/يونيو 1976 بفعل خارجي استوجبه تنامي الدور الإقليمي السوري، شكلاً جديداً يقوم على ذريعة «حكم الأقلية»، حيث سيستمد التمرد الحاصل ما بين عامَي 1979-1982 من هذا المصطلح الأخير جذوته التي راحت تشتد على وقع محاولات الشدّ من عصب الطائفة السنية، والفعل سيتسع بدرجة أكبر في غضون الأزمة التي عصفت بالبلاد ما بعد آذار/مارس 2011 فصاعداً.
إن استخدام مصطلحات كـ «أقلية» و«أغلبية» في مجتمعات لم تبلغ النضج اللازم ولا تحتكم إلى قوانين الدولة الحديثة هو «سيف ذو حدين»، بل «سيف ذو نصلين»


يروي الباحث السوري د . محمد فريد عيسى في منشور له هامّ، ونحن نعتبره من نوع التاريخ الشفوي الذي يحتاج إلى وثائق لإثباته، لكنه أيضاً من النوع الذي يفعل فعله على ضفتَّي الصراع، أن السبب الأساسي لسلخ لواء اسكندرونة السوري عام 1939 ليس التآمر الفرنسي التركي، وإنما كانت قاعدته ترتكز على رغبة سياسية لدى قادة سوريين على رأسهم تاج الدين الحسيني، المتأثر بأفكار حسن البنا، والذي شغل منصبَي رئيس الوزراء أولاً ثم رئيس الجمهورية لاحقاً، حيث سيرسل الحسيني وفداً، وفق المنشور الذي يستند إلى شهادات لنخب لوائية مثل المفكر صدقي إسماعيل والشاعرين سليمان العيسى ونديم محمد، لمقابلة الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك، والطلب إليه العمل على ضم اللواء إلى تركيا، والطلب يرمي، وفق هؤلاء، إلى جعل العلويين أقلية بعد فصل هذا الأخير عن البلاد بعدما نجحت تركيا عبر اتفاقيتَي أنقرة الأولى والثانية في سلخ مساحة 60 ألف كم مربع من سوريا التي كانت مساحتها في صك الانتداب 245 ألف كم مربع، ثم يتابع المنشور أن اتاتورك لم يكن متحمساً للفكرة خصوصاً أنه كان يدرك أنها ستصطدم برفض فرنسي يمليه صك الانتداب عليها، الأمر الذي حصل فعلاً، وعندها تفتّقت عبقرية الحسيني عن حل هو الآتي «بما أن سوريا دولة مستقلة، وأن فرنسا دولة منتدبة لتطوير سوريا، فليس لها حق رفض الاتفاقيات الثنائية بين سوريا وتركيا»، ثم توصلت الأطراف الثلاثة إلى تفاهم يقضي بإجراء استفتاء كان قد جرى في عام 1938وكانت نتيجته لمصلحة العرب الذين فازوا بـ 38 مقعداً من أصل 40 مقعداً، فيما كان نصيب العلويين منها هو 34 مقعداً، بعدها رفضت تركيا نتائج الاستفتاء، ثم سارت الأمور باتجاه «الجراحة» التي قادت نحو فرض الأمر الواقع بعد دخول الجيش التركي، والجدير ذكره هنا هو أن الدولة العثمانية المنهارة كانت قد اعترفت بعروبة منطقتَي اسكندرونة وكيليكيا وارتباطهما بالبلاد العربية في معاهدة سيفر 1920 ( المادة 27). وجاء في رواية الأديب السوري «أبو الحسن»: «حدّثني الشاعر نديم محمد أن الشيخ محمد علي البوغا، وهو من وجهاء اللواء، كان قد قصد رئيس الحكومة جميل مردم بيك على رأس وفد وقال له: «اللواء رح يروح من إيدينا يا دولة الرئيس»، فأجابه مردم بيك: «يا شيخ محمد هون إسلام وتركيا إسلام، وين المشكلة يروح اللواء إنت شو فارقة معك»، وبعد خروج الشيخ من مجلس رئيس الحكومة، وفق الرواية، التفت مردم بيك إلى الحاضرين وقال: «خلينا نرتاح من شوية علوية بروحة اللواء أحسن إلنا بالانتخابات».
قد لا يكون مهماً هنا، في حال ثبوت صحة تلك الروايات، إذا ما كان سلخ اللواء قد تمّ بفعل التآمر الفرنسي التركي، أم بفعل طلب الحكومة السورية من نظيرتها في أنقرة القيام بذلك الفعل، وقد لا يكون مهماً إذا ما كان هذا الأخير قد شكّل ذريعة إسنادية للفعل الأول، بقدر ما هو مهم نهج السياسة التي مورست آنذاك، الذي أتاح لشرائح من السوريين وسم ذلك الفعل بـ «الطائفية»، ولربما جاء ذلك نبشاً في ماضٍ للاستعانة بمحتوياته رداً على اتهامات كانت قد وُجهت إلى عهد الأسدين، الأب والابن، بممارسة الطائفية في حكم البلاد عبر تمكين العلويين من السيطرة على المؤسستين العسكرية والأمنية، والعملية، أي نبش الماضي، ترمي للقول: من هو البادئ إذاً؟
ولربما من المهم أن نعرض هنا لشهادة مؤرّخ بارز مثل حنا بطاطو كان قد أوردها في كتابه «فلاحو سوريا «، وفيها يقول: «لا وجود لأدلة على أن الأسد (يقصد حافظ الأسد) كان قد أعطى في سياساته الاقتصادية تفضيلاً ملحوظاً لطائفته، أو أن معظم العلويين يتمتعون بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري»، ومن الجائز هنا أن الاستنتاج والجزم، طالما أن لا وجود لتفضيل اقتصادي، بأن الأسد إذا كان قد ارتأى، لحماية نظامه أمنياً، الاعتداد بعصبية معينة هي العلوية، وهناك فرق كبير بين أن يعتدّ نظام ما بعصبية معينة، وبين أن يوصَم ذلك النظام بأنه طائفي، وذاك فعل مارسه أسلافه كلهم تقريباً، يذكر المؤرخ الهولندي نيكولاس فان دام في كتابه «الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة» أن «حسني الزعيم اعتمد على الشركس والأكراد لتثبيت أركان حكمه، وكذلك فعل سامي الحناوي، وكلاهما من جذور كردية، ومثلهما فعل أديب الشيشكلي الذي اعتمد على ضباط من مدينته حماة»، ولربما من المفيد لتكوين نظرة أوسع عن المجتمع العلوي بما يخص «الطائفية» إيراد الشهادة التي قدّمها «مايكل كير + كريغ لازكين» في كتابهما «العلويون في سوريا» التي جاء فيها عن العلويين «الدين عندهم غير مهم بدرجة كبيرة، والأمر يتعلق أكثر بالولاء والتماسك الاجتماعيين، حيث المذهب هنا ضرورة لإيجاد تكتل اجتماعي قادر على الصمود، وبشكل عام العلويون في غالبيتهم غير مؤمنين» ، أما في ما يخص «ترييف الجيش» الذي عنى عند العديدين «علونته» فإن بطاطو نفسه يفسر ذلك بالقول: «كان البدل (وهو المال الذي يُدفع للإعفاء من الخدمة الإلزامية) في الجيش السوري في الستينيات بحدود 500 ليرة سورية، وأغلب السنة كانوا قادرين على دفعه، في حين كان أغلب العلويين غير قادرين على ذلك».
على الضفة الثانية، يمكن أن نرى تبريراً للاعتداد بالعصبية السنية في كلتا الأزمتين، أي 1979-1982 و2001 حتى اليوم، والفعل يرد عند عديدين، ففي سياق الأولى يقول الباحث محمد سيد رصاص ما معناه: «عندما تفقد الأغلبية السلطة في مواجهة الأقلية فإن ذلك يعطي الصراع صبغة طائفية»، وفي الثانية يقول تشارلز ليس في كتابه «الجهاد في سوريا» الصادر عام 2017 ، أي أنه يتناول الأزمة الراهنة، «في حرب طويلة لا يمكن للناس أن يظلوا معتدلين بالكامل، ولربما كان ذلك هو أصل التطرف»، يقول ذلك ثم يشير إلى أمر هام مفاده أن الفكر السياسي الغربي لا يحتوي تعريفاً محدداً بالضبط لمعنى كلمة «الاعتدال»، لكنّ التطرف كان قد ارتبط بالإسلاميين، وهم في جلّهم من السنة، في ذلك الفكر.
ما نريد قوله هنا إن استخدام مصطلحات من نوع «أقلية» و»أغلبية» و»طائفية» في إدارة أي صراع في مجتمعات كمجتعاتنا التي لم تصل إلى درجة النضج اللازمة لاحتكامها لقوانين الدولة الحديثة، هو فعل يتعدى «السيف ذا الحدين» ليصل إلى «السيف ذي النصلتين» بمعنى أن الفعل الذي تمارسة هنا شريحة معينة، أياً يكن نوعها حزبية أو مذهبية، لتعزيز مواقعها في الصراع، سوف يرتدّ عليها، لأن الضفة المقابلة سوف تراكم المزيد منه، بل وستعطي مفاهيم جديدة لتلك المصطلحات التي لن يكون مهماً إذا ما كانت صحيحة أم لا، فالمهم هو أنها ستصبح راسخة لدى الشريحة المتضررة، كأن نسمع أحدهم - مثلاً - يقول : عن أي أغلبية سنية يتحدثون؟ وهل للسنة كيان مجتمعي وديني متجانس؟ ثم يجيب على السؤال بـ : لا ليس لهم ذلك الكيان، فهناك سنة متدينون وسنة علمانيون، وهناك سنة عرب وسنة أكراد وآخرون تركمان، ثم هناك سنة أصوليون وسنة يساريون، والمتوالية لا تنتهي، وكلا الفعلين، على كلتا الضفتين، لن يفضيا إلا إلى مزيد من التهتّك في النسيج المجتمعي الذي يستهدفه الصراع، وماذا يفيد ربح هذا الأخير إذا ما وصل الأول إلى درجة من التهتّك يصبح «الرتق» فيها غير ممكن.
*كاتب سوري