من المحزن والمؤسف في آن، في الوضع الفلسطيني خاصة، والعربي عامة، أن يتحوّل مناضلون سياسيون إلى «ناشطين اجتماعيين»، في مؤسسات ما يسمّى بالمجتمع المدني، أو في منتديات ثقافية واجتماعية يفرغون فيها طاقاتهم.أعادتني هذه الحالة إلى فيلم شاهدته منذ أكثر من عامين بعنوان «شيوعيين كنا»، تحدث فيه «شيوعيون» لبنانيون، عن تجاربهم، وتحوّل بعضهم إلى أحزاب أخرى، أو «مؤسسات» مختلفة يمارسون من خلالها نشاطهم.
التجربة السياسية لإبراهيم الأمين وماهر أبي سمرا وحسين علي أيوب وبشار عبد الصمد كما يرويها الشريط، تتشابه مع تجارب «شيوعيين فلسطينيين»، وآخرين من تنظيمات فلسطينية ماركسية.
إذا تحدثنا عن الوضع الفلسطيني بالملموس، سنجد أن الغالبية من منتسبي الأحزاب اليسارية تحديداً، قد غادروا صفوف تنظيماتهم، لخيبة أملهم بتلك الأحزاب التي تحوّلت إلى واجهات ويافطات خالية من المضمون، تبحث عن مكان في سلطة بلا سلطة، و/أو لتحوّل قادة في تلك التنظيمات إلى مديرين في مؤسّسات تتجاوز رواتبهم رواتب وزراء في السلطة الفلسطينية!
مغادرو الأحزاب اليسارية ليسوا مجرد أعضاء يمكن تعويضهم، بل إن غالبيتهم العظمى هم قادة وكوادر متقدّمة، وأصحاب تجربة غنية في مجالات نظرية وسياسية وكفاحية، كان لهم دور بارز في تنظيماتهم، وفي المعارك الوطنية والطبقية في فترة ما من نضال الشعب الفلسطيني، لعل أبرزها الانتفاضة الباسلة التي يؤرّخ لبدايتها في 09/12/1987.
إذا ما حاولنا البحث عن أسباب هذه الحالة فسنجد عدداً من العوامل المترابطة والمتداخلة التي يصعب الفصل ما بينها:
1- انهيار دول «المنظومة الاشتراكية» في شرق أوروبا، الذي تبعه الانهيار المدوّي للاتحاد السوفييتي، وما شكّله ذلك من خيبة أمل لدى أحزاب وقوى كانت تعتمد على دعم الاتحاد السوفييتي بأشكال عدة، إضافة إلى ضرب فكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، بما يعنيه ذلك من غياب سند دولي.
2- تخلّي الكثير من الأحزاب الشيوعية والتنظيمات التي كانت تتبنّى الماركسية، عن الماركسية - اللينينية، واتجاهها نحو «اللبرلة»، وتحولها إلى أحزاب «مائعة»، لا لون ولا طعم لها، ما دعا كثيراً من كوادرها إلى مغادرتها، بعد أن صاروا «غرباء» في أحزابهم وتنظيماتهم، بسبب تمسّكهم بالمبادئ.
3- نشوء السلطة الفلسطينية، التي احتكرت «فتح» الغالبية الساحقة من وظائفها، خصوصا العليا منها، وتخلّي «السلطة الفتحاوية» عن روحها الكفاحية، لصالح «الحل السلمي»، واعتماد المفاوضات مع المحتل الإسرائيلي، باعتباره طريقاً وحيداً نحو التحرر من الاحتلال!
4- التشجيع الأوروبي والأميركي لقيام وتشكيل «منظمات المجتمع المدني»، وإغداق التمويل عليها، وسلخ جزء كبير من مناضلي الأحزاب والقوى اليسارية عن تنظيماتهم ليلتحقوا بهذه «المنظّمات»، وتغيير وضعهم الاجتماعي من «كادحين» إلى «متبرجزين» ذوي رواتب مرتفعة، وتحويلهم إلى «كتبة تقارير» لمموّليهم الّذين وجدوا فيها «كنوزاً» لا تقدّر بثمن، لما تحويه من معلومات عن دقائق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفلسطينية، وبثمنٍ بخس.
5- ضغط الوضع الاقتصادي، وانفلات غول الأسعار عموماً، من دون رقابة ولا رادع، ما دعا الكثيرين إلى البحث عن سبل العيش، بعيداً عن الالتزامات السياسية والتنظيمية.
6- استشراء الفساد الممأسس في مفاصل السلطة والمجتمع الفلسطيني بشكل عامّ، ما أشاع جوّاً من الإحباط وانعدام الثقة.
7- انسداد الآفاق لوجود حل سياسي يحقق للشعب الفلسطيني حدّاً أدنى من الاستقلال والتحرر من الاحتلال وإجراءاته القمعيّة.
8- الهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة العربية، والدعم اللامحدود الذي تقدّمه الولايات المتحدة الأميركية للاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، القطب المقابل، والذي كان يلعب دوراً كابحاً للولايات المتحدة الأميركية، مهما اختلفنا على نسبته.
9- انكفاء الدول العربية على ذاتها، بعد إغراقها في مشاكلها الداخلية، بعد ما يسمى «الربيع العربي»، خصوصاً أن بعض القوى الفلسطينية، ومعها جزء لا يستهان به من أبناء الشعب الفلسطيني كانت تراهن على الدعم العربي في تحرر الفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي، ما أصاب الكثيرين بالإحباط، الذي لم ينجُ منه «يساريون وشيوعيون».
10- الهرولة المخزية (مؤخراً) لعدد من الدول العربية، خصوصاً الخليجية منها، نحو تطبيع علاقاتها بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وإخراج علاقاتها السرية معها إلى العلن، مع العلم بأن «الدعم المالي» للفلسطينيين منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي لمنظمة التحرير، وتالياً للسلطة الفلسطينية، كان من تلك الدول، وهو ما لعب دوراً تخريبياً بعيد المدى.
كل العوامل السابقة، قديمها وحديثها، فعلت فعلها في المجتمع الفلسطيني، وطالت قواه السياسية، لتصل بعدد كبير من مناضلي أحزابه، إلى البحث عن سبل لتفريغ طاقاتهم في التعبير عن قدراتهم وخبراتهم، في منتديات ومؤسسات ثقافية واجتماعية ليحوز الواحد منهم لقب «ناشط اجتماعيّ»!
* كاتب فلسطيني