تُصنّف التجربة اللبنانية في خانة الأنظمة القائمة على تقاسم السلطة (power sharing). وفي الأدبيات حول لبنان يُعتمد تعبير التوافقية (consocialism) لتعريف نظامه السياسي. والباحثون يرون أن هذين التعبيرين يعنيان الشيء ذاته (روتشيلد ورودر، 2005: 30). ما هي الخيارات الممكنة لإصلاح النظام السياسي وكيف ينعكس ذلك في ميدان تكوين الإدارة العامة؟ وقد يفاجأ البعض بأن النص يستظل سقف الأدبيات حول الأنظمة «التوافقية» في البلدان المتعدّدة «الإثنية»، ويتعاطى مع مسألة الإصلاح من دون الخروج على هذا السقف. وأنا ممن كانوا أيام الشباب ينظرون إلى هذه الأدبيات باحتقار شديد. لكن الدهشة ستكون أقلّ حين نتذكّر أن لبنان اعتمد نظاماً توافقياً منذ نحو 160 عاماً، أي منذ عام 1864. وهذا النظام ذاته كان قائماً أيام الرئيس شهاب. أما مأثرة شهاب التي ستظل مفخرة للبنان، فهي انتزاع الإدارة العامة من أيدي السياسيين. وهو ما ينبغي التركيز عليه كمحتوى للإصلاح وهدف له.

1- الانقسام الطائفي في التجربة المعاصرة
جمع الباحث ميلتون إيسمان الأهداف التي يمكن أن تذهب إليها النخبة في مجتمع متعدّد الإثنيات تحت خمسة عناوين (إيسمان، 1999). ويمكن أن تطالب النخبة بالانفصال (secession) عن البلد الأم إذا توفّرت قاعدة جغرافية تجتمع ضمنها إثنية بعينها. ويجتمع في هذه الحالة العاملان الإثني والجغرافي لتسويغ المطالبة بالانفصال. وهو ما خبرته دول فيدرالية عديدة خلقت في مرحلة ما من تاريخها المعاصر كيانات ضمن الفيدرالية سمحت للنخب بالمزايدة إثنياً. وهو ما حصل في الباكستان وأندونيسيا ونيجيريا ولاحقاً يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي (هال، 2004). وحين تكون الأقلية الإثنية مشتّتة جغرافياً ضمن البلد الواحد تذهب النخبة إلى المطالبة بحقوق الأقليات (minority rights). وهي ثلاث، المشاركة في المؤسسات التمثيلية وفي الإدارات العامة وضمان حرية التعليم والتعبير عن الخصوصية واعتماد قوانين للأحوال الشخصية خاصة بها. وتذهب النخبة إلى المطالبة بتقاسم السلطة (power-sharing) حين تطالب باعتماد النسبية في التوزيع، أي أن تكون حصص الإثنيات في التمثيل السياسي وفي الإدارة العامة متناسبة مع حصتها النسبية في الجماعة الوطنية. وتقع على نقيض هذا التقاسم الأنظمة التي تقوم على السيطرة (domination) والتي تحصر التمثيل السياسي والإدارة العامة بإثنية بعينها قد تكون أغلبية أو أقلية، وتحجب ذلك عن الإثنيات الأخرى. وقد شكّلت تجربة جنوب أفريقيا بين عامَي 1948 و1992 حالة قصوى على هذا الصعيد، حيث بلغت نسبة البيض في الفئات الخمس الأولى لموظفي الإدارة العامة 97 في المئة من المجموع (إيسمان، 1999: 361). وتذهب النخبة إلى خيار الاندماج (integration) حين يكون الهدف إقامة تمثيل سياسي وإدارة عامة لا يعترفان بحقوق خاصة للإثنيات ولا يمنحانها حقوقاً كإثنيات وحين تعتمد مساواة كاملة بين الأفراد في هذه الحقوق.

إيغور مورسكي (بولونيا)

وكائناً ما كان النظام المعتمد في الأساس، بدا أن الاتجاه ينحو في غالبية البلدان المتعددة الإثنية منذ النصف الثاني من القرن العشرين نحو اعتماد أنظمة تقاسم للسلطة، أي اعتماد النسبية في توزيع الحقائب السياسية ومواقع الإدارة العامة. وتعطي الهند مثالاً على الانتقال من نظام قائم على الاندماج الكامل لم يكن يعترف بأية خصوصيات إثنية في بداية عهد الرئيس نهرو وحزب المؤتمر، إلى خلق كيانات داخل الدولة على أساس لغوي عام 1956، وصولاً إلى الاعتراف لاحقاً بحقوق أوسع للأقليات. وذلك من خلال منح هذه الأخيرة استقلالاً ذاتياً ضمن الكيانات اللغوية القائمة. وقد بقي خيار الانفصال محرّماً على الجميع (إيسمان، 1999: 358).
وأعطت دولة جنوب أفريقيا خلال تسعينيات القرن الماضي تجربة فذّة وفريدة في الانتقال في ظل الرئيس مانديلا وحزب المؤتمر من نظام سيطرة يحتكر فيه البيض التمثيل السياسي والإدارة إلى نظام قائم على الاندماج. وهو لا يعترف بأقليات إثنية ولا تعبّر أقاليمه السياسية عن إثنيات بعينها ويتعامل مع مواطني هذا البلد على قاعدة المساواة التامة بينهم في السياسة وفي الإدارة (إيسمان، 1999: 360).
وقد أخذت مؤسسات بحثية بعد انتهاء الحرب الباردة في أميركا وبريطانيا على وجه الخصوص على عاتقها بلورة تصورات لكيفية تطبيق التقاسم وضعتها برسم النخب خصوصاً في البلدان الخارجة من حروب أهلية طاحنة ذات طابع إثني (روتشيلد ورودر، 2005: 35). وتناولت المقترحات شكلَي التقاسم، أي ضمن دول من دون فيدرالية أو مع فيدرالية. وكان أول من وضع تصورات لتقاسم السلطة تحت عنوان التوافقية هو ليبهارت منذ أواخر الستينيات. وقدّم آخرون كـ هورويتز خلال الثمانينيات مقاربات مماثلة.
ومع تمدّد شكل الحكم هذا أظهر الباحثون أنه ليس الأفضل في ميدان تحقيق الديمقراطية، بل وأكثر من ذلك بكثير، أنه المدخل بامتياز لانفراط الدول وتجدّد الحرب الأهلية فيها. وأظهروا أن فرز الناخبين في هذا النظام على قاعدة إثنية يسهّل تحكّم النخب الإثنية بهم ويجعل هذه الأخيرة أكثر قدرة على منع تداول السلطة. والأخطر من ذلك أن تقاسم السلطة هذا يمنح النخب الإثنية القدرة على استخدام مؤسسات التقاسم القائمة للمزايدة إثنياً وممارسة لعبة شد الحبال واللجوء للفيتو بما يجعل اتخاذ القرار متعذّراً. وهو يجعل اهتمام النخب منصبّاً على قضايا توزيع السلطة والموارد ويبرر لها المطالبة الدائمة بإعادة النظر بالاتفاقيات المعقودة. ويصبح الأمر أكثر حراجة حين يأتي الجيل التالي من السياسيين مع أجندات أكثر تطرفاً لإزاحة الطواقم التي وقّعت هذه الاتفاقيات (روتشيلد ورودر، 2005: 38).
وركّز الباحثان سيسك وستيفيز على عنصرين في التوافقية يجعلان أنظمتها أكثر قابلية للفشل منها للنجاح، هما الفيتو المتبادل واقتصار التوافقات على النخب. وتؤدي ممارسة الفيتو المتبادل إلى المراوحة في المكان على المستوى السياسي (immobilism). ويؤدي اقتصار التوافق على النخب إلى إبقاء المجتمع وقواه الحية خارج سياق بناء الاعتدال (moderation) والتعاون (cooperation) اللذين لا يمكن من دونهما بناء السلم وديمومته (سيسك وستيفيز، 2005: 297).
وهناك جملة من الشروط هي غالباً غير متوافرة، ينبغي أن تتحقّق لينجح التقاسم. وهي تبدأ بمقدرة النخب الإثنية على حشد تأييد في كل إثنية لمصلحة التوافق، ووجود ثقافة توافق (accomodation) تتيح بناء الثقة وتُشعر المتحاورين بأن الأمر ليس مجرّد كسب للوقت بانتظار قلب الطاولة. وتتطلّب على وجه الخصوص أن تثبت الدولة مقدرة إدارية وتنموية وأن يكون نظام التقاسم مدخلاً إلى مزيد من الاستقرار والازدهار ويُشعر الجميع بأن ثمة عدالة أكبر في توزيع الموارد. كما يتطلّب أن لا يكون هناك تفاوت كبير في معدلات النمو الديمغرافي بين مختلف الإثنيات. ويتطلّب النجاح أخيراً أن يكون هناك دعم خارجي أو توافق دولي يستند إليه نظام التقاسم (روتشيلد ورودر، 2005: 48).

2- الانقسام الطائفي في التجربة اللبنانية
وأول من أبدى تحفظاً على «اتفاق الطائف» كنظام توافقي بعد الحرب في لبنان هو بول براس. وقد انتقد التوافقية بشكل عام لأنها تقيم فرزاً على أساس إثني ولا تعترف بغير ذلك كعامل انقسام. وهو فرز يؤدي إلى عزل مكوّنات المجتمع عَمودياً عن بعضها ويعزّز مع الوقت القناعة بأن لا حاجة إلى البقاء معاً. وانتقد نظام «الطائف» لأنه جعل القوى التي صنعت الحرب وانخرطت فيها المستفيد الأول من تقاسم السلطة خلال حقبة السلم (براس، 1991: 341).
ورأت الباحثة زهار أن الصفة الأكثر انطباقاً على لبنان منذ المتصرفية هي أنه «محمية» (protectorate) تتولى قوة خارجية أو تحالف قوى حماية النخب ونظام تقاسم السلطة فيه (زهار، 2005: 235). ورأت أن هذا السبب بالذات هو أهم عوامل تردّي نظام التقاسم. ذلك أن القوة الخارجية أياً كانت تستعجل الوصول إلى اتفاق على القضايا غير الخلافية وتترك القضايا الأساسية جانباً بحيث تنفجر هذه الأخيرة لاحقاً وبأسوأ صورة في وجه الجميع. ومن ذلك الاختلاف على هوية لبنان خلال حقبة الانتداب (زهار، 2005: 239). ويتيح وجود حماية خارجية أن تتمادى النخب في لعبة شد الحبال وأن تعطي الأولوية لقضايا تقاسم السلطة والإدارة على حساب الاهتمام بالشأنين الاقتصادي والتنموي.
وتصلح العناصر أعلاه لتوصيف مآل النظام اللبناني الراهن. فليس هناك تداول للسلطة بعد عام 1990. بل أظهر النظام قدرة عالية على استيعاب القوى التي كان يمكن أن تشكّل خروجاً عليه. وهناك أولوية معطاة للصراع على اقتسام المواقع في السياسة والإدارة. وتسهم هذه النظرة للأمور في تراجع الإدارة العامة وكفاءتها إلى الحضيض وفي انهيار المقدرة التنموية للدولة.
ويستمر الشغور الحكومي راهناً بسبب الخلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف حول صلاحية التوقيع والتأليف التي تنص عليها المادتان (53) و (64) من الدستور. ورأت الباحثة هالة أبو حمدان أن التشكيل لا يقتصر على رئيس مجلس الوزراء وأن رئيس الجمهورية يتشارك مع رئيس الحكومة في هذه الصلاحية. وذلك بحكم الخصوصية اللبنانية التي تجعل رئيس الجمهورية ممثلاً لأحد مكوّنات المجتمع. ورأت أن من بين ثغرات الدستور، عدم تحديده مهلة دستورية للتشكيل (أبو حمدان، 27/ 1/ 2021). وعاد الباحث محمد طي في ما يخص المهل المعطاة للتشكيل إلى اجتهادات مجلس شورى الدولة في فرنسا وقراراته. وهي اعتمدت مبادئ «المهلة المعقولة» و»استمرار عمل الحكم» و»استمرار الحياة الوطنية» لتأكيد أن المهل لا يمكن إلا أن تكون محدودة (طي، 2/ 2/ 2021).
وقد قارن الباحث الصحافي نقولا ناصيف بين حقبتَي ما قبل 2005 وما بعدها. وخلال عهدَي الرئيسين الهراوي ولحود لم يتجاوز مجموع أيام الشغور الحكومي في كل عهد 36 يوماً. لكن هذا الشغور بلغ ما مجموعه سنة وتسعة شهور أيام الرئيس سليمان، أو أقل بقليل من ثلث العهد. وبلغ في عهد الرئيس عون وحتى مطلع 2021 سنة وخمسة شهور. وامتد الشغور الرئاسي طيلة سنتين ونصف سنة بعد انتهاء عهد الرئيس سليمان. ولم يكن هناك قبل عام 2005 حقائب سيادية وغير سيادية وحقائب مدرارة وأخرى ثانوية. كما لم يكن هناك ثلث معطّل لأي طرف. وقد ضمن السوريون أكثرية الثلثين في كل مجلس وزاري (ناصيف، 6/ 2/2021).

3- أيّ إصلاح سياسي للبنان؟
اقترح الباحثان باسل صلوخ ورنكو فرهيج تعديلاً لنظام التقاسم الراهن. وميّزا بين نوعين من تقاسم السلطة هما «التوافقية بين كيانات قائمة على أساس الهوية» (corporate consociation) و»التوافقية الليبرالية» (liberal consociation) (صلوخ وفرهيج، 2017). ويكون التقاسم من الفئة الثانية حين يسمح النظام الانتخابي بتشكّل كيانات سياسية جديدة ليست بالضرورة ذات طابع إثني أو طائفي تنضم إلى نظام التوافق. ويُجمع الباحثون على أن النظام اللبناني كان ينحو على مدى الحقبة الممتدة من عام 1864 إلى اليوم إلى مزيد من التشدّد في الحفاظ على الكيانات الطائفية القائمة وضمان حصصها في نظام التقاسم (identity-based-power sharing) (صلوخ وفرهيج: 155؛ زهار: 239). واقترح صلوخ وفرهيج اعتماد اللامركزية مع نظام انتخابي على قاعدة النسبية كحل وسط (hybrid consociation) بين التوافقية على الطريقة اللبنانية والتوافقية الليبرالية. ومن شأن ذلك أن يوسّع قاعدة التوافقية بإفساح المجال أن ينضم إليها اللبنانيون الراغبون بالخروج من الاصطفاف على أساس الهوية.
ويجري التداول راهناً في مقترحات لتثبيت أو تعديل نظام التوافق القائم. ويقترح البعض مؤتمراً تأسيسياً في هذا المجال. ولا تبدو إعادة النظر بـ»اتفاق الطائف» أو «اتفاق الدوحة» من بعده خياراً يستحوذ على أغلبية. كما لا تبدو المطالبة بالخروج من نظام التقاسم إلى نظام أكثري ذات قبول لدى غالبية اللبنانيين. ونظام التقاسم في لبنان ليس محدثاً. وقد ازداد تصلّباً كما سبقت الإشارة. من ذلك أن «اتفاق الطائف» نصّ على اعتماد التوزيع الطائفي للمناصب في الفئة الأولى للموظفين فقط. في حين أن ما حصل بعد عام 1990 هو تعمّم هذه الممارسة من أعلى الهرم حتى أدناه.
ويبدو الحديث عن «الدولة المدنية» طحناً للكلام بدون طائل. فالدولة في لبنان هي دولة مدنية. ولا ينزع عنها مدنيتها وجود أحكام دستورية خاصة بالطوائف (اللحام، 1/ 10/ 2020). ويمكن إدخال جملة من التعديلات التي تتناول الثغرات الدستورية الموجودة في النظام. ومن ذلك إعادة النظر بصلاحيات رئيس الجمهورية لجهة إعطاء هذا الأخير مزيداً من الصلاحيات من مثل حق إقالة الحكومة، ووضع مهلة دستورية لرئيس الحكومة المكلّف من أجل إنجاز مهمته. كما ينبغي إزالة غبن بعض المكوّنات التي برزت بعد الطائف. ويقول الوزير السابق وئام وهّاب إنه قد جرى ربط إنشاء مجلس شيوخ بشرط إلغاء الطائفية السياسية خلال اجتماعات «الطائف»، الأمر الذي حرم طائفة الدروز من رئاسة هذا المجلس، والتي كانت ستعوّض بقيمتها الرمزية ضعف حصة هذا المكوّن في المحاصصة المبنية على النسبية (مداخلة، 20/ 12 / 2020).
ولو توقفنا عند هذه النقطة لبدا الأمر كما لو أن الإصلاح هو مجرد مراجعة لنظام التقاسم. وفي هذا اختزال لموضوع الإصلاح. ويقتضي الإصلاح الفعلي إيجاد الآليات التي تسمح بالخروج من النظام السياسي ذي المؤسسات الضعيفة (weakly-institutionalized polity) وجعل السياسيين وعلى الأخص الأقطاب «تحت القانون»، وتفعيل الآليات التي تتيح المحاسبة (accountability) العَمودية والأفقية والمجتمعية (داغر، 2017)، كما وانتزاع التعيينات في الإدارة العامة من أيدي السياسيين وكفّ أيديهم بالكامل في هذا المجال.

4- الإدارة القانونية والتدخّلية
وفي النصوص التي كتبها باحثون في علم السياسة، يوجّه النقد إلى نظام تقاسم السلطة لأنه يناقض استمرار السلم الأهلي ويدفع نحو عودة التقاتل أو انفراط الدولة، ولأنه يتعارض مع المساواة في الحقوق بين عموم المواطنين. وهذه حال باحثين مثل روتشيلد ورودر وسيسك وستيفيز وزهار وصلوخ وفرهيج وآخرين.
وجاء تركيز باحثين آخرين على أن النقص الفادح هو في القدرة التنموية لدولة الزبائنية السياسية المتخلّفة. وبيّن باحثون مثل جان-فرنسوا ميدار ودانيال باش أن وجود نظام سياسي يحمي الإدارة العامة، خصوصاً تلك المولجة بالشأن الاقتصادي من تدخلات السياسيين هو ما يُحدث فرقاً بين الدول النامية (ميدار، 2000؛ باش، 2011). أي أن الأنظمة الرئاسية التي استطاعت توفير حماية واستقلالية للإدارة العامة تجاه النخب، كانت الأنجح اقتصادياً وتنموياً.
وفي الإدارات العامة في بلدان أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثمانينيات، كان التنسيب إلى الإدارة العامة من اختصاص أجهزة حكومية أهمها «مجالس الخدمة المدنية». وكانت المباريات والامتحانات الوطنية تعتمد في التنسيب. وكان الموظف الحكومي خاضعاً لموجبات التحفّظ في الإدلاء بمواقف سياسية. وأعطى الأخذ بهذه المبادئ الإدارة العامة الاستقلالية التي تحتاج إليها تجاه ضغوطات السياسيين. وشهد عقد الثمانينيات بدء اكتساح النيو-ليبرالية للعالم وإخضاع الإدارات العامة في العديد من هذه البلدان للتدخّلات السياسية (درايفوس، 2000).
التجارب التنموية الناجحة تضع التمويل والحماية ودعم الاستثمار في عهدة الحكومة، وتستند إلى نصوص اشتراعية يقرّها البرلمان، ومراسيم تطبيقية تجعل هذه النصوص أساساً لبناء الأجهزة الإدارية الجديدة


ولم يكن ممكناً خلال عهدَي شهاب وحلو أن يتدخّل الوزير في تعبئة الملاكات الإدارية لوزارته. وكان التنسيب إلى الإدارة العامة من اختصاص جهاز حكومي هو «مجلس الخدمة المدنية» (داغر، 23 / 7/ 2020). وذلك من خلال مباريات وامتحانات وطنية. ولم يكن الموظف الحكومي قادراً على التعبير عن مواقف سياسية لأنه كان ممنوعاً عليه الانتماء إلى أحزاب. ويستطيع لبنان أن يفخر بتجربته في ميدان بناء الإدارة العامة قبل الحرب.
وينبغي أن تكون استقلالية الإدارة العامة وانتزاع هذه الأخيرة من نفوذ السياسيين هدف الإصلاح السياسي والإداري. وقد أظهرت العقود الثلاثة الأخيرة تحوّل ميزان القوى لمصلحة السياسيين وضد الإدارة العامة. وهو ما عبّر عنه طغيان التعيينات الحزبية داخل الإدارة العامة وتراجع دور وأداء هيئات الرقابة الإدارية وتفشّي الشغور داخل إدارات الدولة ومؤسساتها (داغر، 19 و 26/ 4/ 2021). وقد جعل الفراغ الإداري (administrative vacuum) الهائل الناجم عن الشغور، الإدارة العامة اللبنانية عاجزة عن القيام بالحد الأدنى من الواجبات المطلوبة منها.
ومن وجهة نظر تقنية، ميّز إيسمان بين طرق ثلاث لتعبئة مِلاكات الإدارة العامة (إيسمان، 1997). وفي الحالة الأولى تلجأ النخب المسيطرة إلى ملء المِلاكات الإدارية بمن ينتمون إلى إثنياتها حصراً على حساب الآخرين (systematic preferences). ويكون هناك إغفال للعامل الإثني في التنسيب والتعويل حصراً على السوق (market/merit processes) حين تُجرى المباريات الوطنية من دون تعيين حصص لأي طرف إثني أو طائفي. وتُبرّر هذه المقاربة باعتبارها الأفضل لضمان إدارة حكومية قائمة على الكفاءة والاستحقاق (إيسمان، 1997: 530). ويكون هناك تقاسم (power sharing) إذا جرى العمل بمبدأ المباريات الوطنية مع اتفاق مسبق على تعيين حصص المكونات الإثنية أو الطائفية في الإدارة العامة. ويرى إيسمان أن الحل الأفضل في مجتمعات منقسمة إثنياً هو دمج المبدأين معاً. أي مبدأ الاستحقاق الذي يضمنه التنسيب بواسطة المباريات، ومبدأ التقاسم الذي يحفظ حصص الإثنيات ويؤمن تمثيلية الإدارة العامة (إيسمان، 1999: 365). وكان رالف كرو قد اعتبر عام 1966 أن التوزيع الطائفي والمذهبي للمواقع في الإدارة العامة اللبنانية الذي يحقق تمثيلية الإدارة (representative bureaucracy) هو أحد عناصر شرعيتها (كرو، 1966: 176).
وما لا يمكن تكراره في تجربة الإدارة العامة اللبنانية هو قصر دورها على «التثبّت من الالتزام بالقانون» (regulatory state)، وحرمانها من نصوص وتشريعات توفّر لها صلاحيات تدخّلية في الاقتصاد (state developmental) (داغر، 23 / 7/ 2020).
وقد بيّنّا في مقالات سابقة الحاجة الملحّة إلى موازنة حكومية للاستثمار تنطوي على محور متعلّق بتطوير البنى التحتية ومحور متعلق بتطوير القطاعات التكنولوجية التي تنتج سلعاً معدّة للتصدير (داغر، 3 و10/ 6/ 2019). واستعدنا هذه الأفكار مع التركيز على أهمية إقامة «مجلس تخطيط مركزي» كجهاز إداري يشرف على السياسة الصناعية (داغر، 9/ 12/ 2019.). ثم قدمنا هذا البرنامج الاستثماري البديل كجزء من برنامج اقتصادي متكامل. واشتمل هذا الأخير على عناصر تناولت تثبيت سعر صرف الليرة، واعتماد سياسة حمائية الهدف منها جعل القطاعات التكنولوجية الجديدة قادرة على «التعلّم» مقدمة للتصدير، وبناء الأجهزة الحكومية التي ينبغي أن تتولى إدارة العملية برمّتها (داغر، 18 / 9/ 2020).
ولا يختلف ما هو مطروح هنا عن ما عرفته كل التجارب التنموية الناجحة منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وهي وضعت التمويل والحماية ودعم الاستثمار في عهدة الحكومة. وينبغي ترجمة هذه التوجّهات إلى نصوص اشتراعية يقرها البرلمان. وينبغي إثر ذلك إصدار مراسيم تطبيقية تجعل هذه النصوص أساساً لبناء الأجهزة الإدارية الجديدة.

ملاحظة ختامية
تنتظر الطبقة السياسية بكل أجنحتها أن يحصل تدخّل خارجي لإعادة إنتاج التوافق، أي إعادة تثبيت نظام التقاسم وتوفير الشرعية له. وهذا التوافق لن يؤدي إلى تحسين شروط حياة اللبنانيين واستعادتهم لثقتهم ببلدهم ما لم ينطوِ على محور رئيسي يتناول بناء الإدارة العامة القانونية والتدخّلية وفق ما ورد أعلاه. ولن يحصل ذلك ما لم يعبّر اللبنانيون بأنفسهم عن رأيهم في ما يُرسم لهم. ومن المؤسف أن يبقوا في موقع المتفرجين وأن لا يتداعوا لطرح المشروع البديل وفرضه بالنضال فرضاً.

* أستاذ جامعي

المراجع
Bach Daniel, «Patrimonialism and Neopatrimonialism: Comparative Trajectories and Readings», in Commonwealth and Comparative Politics, July 2011.
Brass Paul R.,» Ethnic Conflict in Multiethnic Societies: The Consociational Solution and its Critics», in P. Brass, Ethnicity and nationalism: theory and comparison, New Delhi, India : Sage Publications, 1991, pp. 333-348.
Crow Ralph, “Confessionalism, public administration, and efficiency in Lebanon”, in L. Binder (ed.), Politics in Lebanon, N.Y.: John Wiley and sons, 1966.
Dreyfus F., L›invention de la bureaucratie : Servir l›Etat en France, en Grande Bretagne et aux Etats Unis (18ème - 20ème siècle), Paris: Editions-La Découverte, 2000, 290 pages.
Esman Milton, “Public administration and conflict management in plural societies: the case for representative bureaucracy”, Public Administration Review, October, 1999, pp. 353-366.
Esman Milton, “Public Administration, Ethnic Conflict, and Economic Development” Public Administration Review, 57(6), 1997, pp. 527-533.
Hale Henry, “Divided We Stand: Institutional Sources of Ethnofederal State Survival and Collapse,” World Politics, January 2004, pp. 165-193.
Médard J-F, « L›Etat et le politique en Afrique », Revue Française de Science Politique, 50(4), 2000.
Rothchild Donald and Philip G. Roeder, “Power sharing as an impediment to peace and democracy”, in Philip G. Roeder and Donald Rothchild (eds.), Sustainable peace: power and democracy after civil wars, Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 2005.
Salloukh Bassel F., Renko A. Verheij, “Transforming Power Sharing: From Corporate to Hybrid Consociation in Postwar Lebanon”, Middle East Law and Governance, 9, 2017, pp. 147-173
Sisk Timothy, Christoph Stefes, “Power sharing as an Interim Step in Peace Building: Lessons from South Africa”, in Philip G. Roeder and Donald Rothchild (eds.), Sustainable Peace : Power and Democracy after Civil Wars, Ithaca : Cornell University Press, 2005, pp. 293-319.
Zahar Marie-Joelle, “Power Sharing in Lebanon : Foreign Protectors, Domestic Peace, and Democratic Failure,” in Donald Rothchild, Philip Roeder (eds.). Sustainable Peace : Power and Democracy after Civil Wars, Ithaca : Cornell University Press, 2005, pp. 219-240.

ألبر داغر، «الإدارة العامة في لبنان قبل عام 1990»، الأخبار، 23 / 7 / 2020.
ألبر داغر، «النخبة فوق القانون»، في ألبر داغر، لبنان المعاصر: النخبة والخارج وفشل التنمية، (بيروت: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، 2017)، 223 صفحة، ص. 149–159.
ألبر داغر، «برنامج اقتصادي برسم الحراك»، الأخبار – ملحق رأس المال – 9/ 12 / 2019.
ألبر داغر، «بيان من أجل برنامج اقتصادي بديل» الأخبار، 18 / 9 / 2020.
ألبر داغر، «دولة الزبائنية السياسية النهّابة: نموذج لبنان»، الأخبار– ملحق رأس المال، 19 و 26 / 4 / 2021.
ألبر داغر، «كيف نحمي الشعب من خفض الإنفاق العام»، الأخبار – ملحق رأس المال، 3 و10/ 6/ 2019.
محمد طي، «نقاش مع هالة حمدان حول أزمة الحكومة ... إما التشكيل أو سحب التكليف»، الأخبار، 2/ 2/ 2021.
مداخلة على قناة الجديد، 20/ 12 / 2020.
نقولا ناصيف، «من حكومات الطائف إلى حكومات الدوحة: الإرث السيّئ»، الأخبار، 2021/2/6.
هالة أبو حمدان، «أزمة تشكيل الحكومة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء»، الأخبار، 27/ 1/ 2021.
وسام اللحام، «الدولة في لبنان ... الآن مدنية»، الأخبار، 1/ 10/ 2020.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا