حضرة الرئيس،أودّ في البدء توجيه تهنئة حارة لك على صدقك. فلم يخِب ظنّي بك لكونك ذهبت مباشرة في الموضوع إلى النقطة الأخيرة منه، وهي النقطة المركزية التي لا تحتاج إلى زينةٍ أبجدية أو لفظية لإخفاء حقيقتها لطالما هي السبب المباشر لفوزك بالمهمّة في لبنان، وأقصد بذلك موضوع سلاح المقاومة.
صورة مركّبة انطلاقاً من لوحة شهيرة لجان لوي دافيد (1800 - 1803) تستبدل نابليون بالرئيس ماكرون

فلم يطُل بالك كثيراً حتى اعترفت جهاراً بنصف ما يهمّك من أمر لبنان. وأمّا النصف الآخر فيُلخّص بهاجس الفوز بعقود استملاكٍ لما تبقى من ثروةٍ غير منقولة للدولة وللشعب: من المرفأ الشهيد إلى المطار المهدّد بالمصير نفسه، إلى الكهرباء، إلى المياه، إلى الهاتف النقال، إلى البنى التحتية، وصولاً طبعاً إلى ما تختزنه أرض لبنان اليابسة ومياهه من نفط وغاز، حيث لشركة الطاقة العملاقة توتال مركز الصدارة. وما عدا ذلك من عبارات ذات بعدٍ إنساني وإصلاحي وأخلاقي فلا تتعدى حدود ووظيفة التبرّج والأناقة. وأمّا الذين توقّعوا منك عكس ذلك ففوجئوا مفاجأةً اعتبروها غير سارة، وتلك مشكلتهم، لأنّ الوعود في قاموس الدول لا تلزم سوى من يصدقها.
وإلى جانب التهنئة لا بدّ من الخوض معاً، كلٌ من معسكره، في موضوع المواجهة المباشرة مع القوى الرافضة للحملة الاستعمارية التدميرية التي أُطلق عليها عنوان «الربيع العربي». وللتذكير يا حضرة الرئيس، فإنّ هذه العبارة سبق واستخدمَتها الحكومات الفرنسية قبل 172 سنة حين قالت إن تأسيس شركة «بوديكور» المشؤومة هي بداية لربيع الشعوب. وكانت مهمة هذه الشركة تقضي باقتلاع اللبنانيين الموارنة من أرضهم ونقلهم إلى الجزائر.
على طريقتك في اختصار المسافات، جاء مؤتمرك الصحافي يوم الأحد 27 أيلول/ سبتمبر 2020 ليؤكّد على ما سبق لك أن أعلنتَه قبل ساعات من زيارتك الثانية للبنان. لقد أضفتَ سحابة كثيفة من الغموض في فضاء العلاقات اللبنانية الفرنسية. سحابة تضاف إلى الحقبات الغامضة التي تقود إلى قراءة مختلفة لمسيرة العلاقات بين البلدين، ما يجعلها بعيدة كلّ البعد عن الدعاية المحيطة بتلك الأسطورة من العشق والحنان. هذه المرة أعدتَنا بالذاكرة إلى زمن يُفترض به أن يكون قد انتهى، لكنّك أنت فيه اليوم أقرب إلى مفوّض سام، إنّما بصلاحيات أقلّ من تلك التي كان يتمتّع بها أسلافك في هذا المنصب. إذ كانت مرجعيتهم باريس، فيما مرجعيتك الفعلية تقع في مكان ما من «العالم الجديد». وهذا ليس غريباً عنك على الإطلاق. فأنت ابن نهج سياسي يختار فرنسا الأوروبية على فرنسا الفرنسية. وإذا ما خُيّرتَ بين أوروبا الأوروبية وأوروبا الأطلسية، سيذهب خيارك إلى أوروبا الأطلسية. ولن أذهب إلى حيث يصل بعضهم في القول عن تفضيل الانتماء إلى الولايات المتحدة على الانتماء إلى أوروبا الأطلسية. وربما هذا هو السبب الذي يجعلك لا تتوقّف، ولا للحظة، عند موضوع خطير كموضوع المقاومة التي تحمي ما استطاعت لبنان من الوحش العنصري الصهيوني، فيما أنت تضع بمصاف الخطيئة المميتة عدم احترام ذكرى المقاومة الفرنسية. إن موضوع مقاومة الاحتلال والدفاع عن الأوطان أمرٌ مبدئي ـــ إنساني ـــ حقوقي ـــ أخلاقي يتمتع بحالة قريبة من القداسة. فهل تعتبر أنّ من الرصانة بمكان أن تتناوله عندنا كما أنت فاعل؟! أودّ أن ألفت نظرك إلى أنّ استخفافك بهذا الشأن الخطير، شأن المقاومة، يقود بعضهم إلى التساؤل عمّا كان موقفك الحقيقي من المقاومة الفرنسية ومن فيشي لو قُدّر لك العيش في تلك الحقبة الأليمة من التاريخ الفرنسي؟ إنّ كلامك عن المقاومة اللبنانية أتى بمثابة طعنة خنجر في صدر العديد من اللبنانيين. ربّما لم تكن تقصد ذلك، وربّما كنت قد أصغيتَ في هذا الموضوع أكثر من اللزوم إلى مستشاريك وأصدقائك، فورّطوك بأمر يؤثّر بقوة على التاريخ المشترك بين لبنان وفرنسا حاضراً ومستقبلاً.
حضرة الرئيس،
لم أستغرب إهمالك الكامل لتجربة موريس كوف دو مورفيل، رجل الدولة الفرنسي المحترم، في تعاطيه مع الملف اللبناني. الفارق بينكما فوارق، ليس في الزمن والخبرات والثقافة فحسب، وإنما في الانتماء أيضاً. فهو كان في ريعان الشباب حين التحق بقائد فرنسا الحرة، وصار يعمل في إذاعتها المقاومة، وظلّ مقرباً من الجنرال ديغول طيلة حياته، وزيراً للخارجيّة ثم رئيساً للحكومة الفرنسيّة. لذا كان حريصاً على عدم الدخول كفريق بين اللبنانيين في خلافاتهم، وبالتالي عدم تشجيعهم على تدمير بلدهم. وبطبيعة الحال، لم يسمح له تاريخه فيما بعد، أن يعترض على وجود ونشاط المقاومة التي طردت الوحوش الصهاينة من العاصمة بيروت، أول عاصمة عربية يحتلّها الجيش الإسرائيلي يوم لم يكن حزب الله قد وُلد بعد. إن حزب الله ولد من رحم تلك المقاومة. نعم من رحم تلك المقاومة المظفّرة التي كسرت أنياب الوحوش الصهاينة وطردتهم من هذه البيروت التي زرتَها أنت وتجوّلت في شوارعها.
كان يُفترض بك أن تتعرّف إلى هذه الحقائق التاريخية، قبل أن تستخدم تعابير جارحة بحقّ هذه المقاومة، وذلك بغضّ النظر عن موقفك المبدئي منها، بسبب التزاماتك الأطلسية ـــ الصهيونية. ثمة اعتداء على كرامة الوطن اللبناني يُفترض منك الاعتذار. من حقك بالكامل أن تكره المقاومة، وأن تحاربها، لكن لا يحقّ لك التجريح بها فيما أنت تتعاطى في الموضوع اللبناني تحت عنوان الصداقة.
تصوّر الأمر معكوساً، كأن يقف لبناني في وجهك ويجرّح بالمقاومة الفرنسية، ماذا سيكون ردّ فعلك؟! أتوقّع منك أن تثور ثائرتك غضباً، بمعزل عمّا يمكن أن يكون عليه رأيُك الضمني بالمقاومة الفرنسية، وهو أمر يخصّك وحدك.
فكيف أن تصوّر هذه المقاومة اللبنانية كزارعة للرعب في سورية، على حدّ تعبيرك؟
هذه المقاومة اللبنانية، شئت أم أبيت يا حضرة الرئيس، هي رأس الحربة في التصدي الميداني للإرهاب ابتداء بتنظيمات الإرهاب الأطلسية، أي داعش والنصرة والسلطان مراد والزنكي ومشتقاتها كافة، وهي كلها تحت رعاية حلفكم الشمال الأطلسي، وبتمويل من الخزائن الخليجيّة المحتلّة من جيوشكم الأطلسية. أكثر من مئة وسبعين ألف إرهابي من أوروبا وغير أوروبا أدخلتموهم إلى قلب الجغرافية السورية لتمزيقها من الداخل، وذلك في أوحش الحملات الاستعمارية التي عرفها التاريخ على اختلاف حقباته. إنها المنظّمات التي «تقوم بعمل جيد»، حسب قول وزير خارجيتكم ذات يوم. لذلك تجرّحون بالمقاومة اللبنانية ربّما لكونها أسهمت إسهاما جباراً في الدفاع عن الوجود المسيحي في أرض سورية المقدسة، فيما حلفكم الذي يُتقن جلد الشعوب، وإنكار أبسط حقوقها الإنسانية، يعمل ليل نهار لمحو آثار المسيحية من أرض الثائر الفلسطيني ـــ الإنساني الأول السيد يسوع المسيح، رأس الأسرة التي تضمّ محمد الدرة وأخواته وأخوته.
وأغلب الظن، يا حضرة الرئيس أن هذا هو السبب الذي جعلك ترى تناقضاً غير مفهوم، بين مقاومة حزب الله لإسرائيل وحقه في أن يكون حزباً محترماً في لبنان! يعني كأن يقول لك لبناني أن أية قوة فرنسية تقاوم النازية تفقد حقها بأن تكون حزباً سياسياً محترماً داخل فرنسا!
إن شعب المسيح مضطهد، كما المسيح مضطهد. ألم يندّد البابا بنديكتوس السادس عشر بالاضطهاد الذي تتعرّض له المسيحية في أوروبا؟ اقرأ يا حضرة الرئيس رسالة بنديكتوس في مناسبة يوم السلام العالمي، مطلع سنة 2011، السنة التي أطلقتم فيها عرس الدم بواسطة ربيعكم العربي. في الفقرة الرابعة عشرة من تلك الرسالة الخطيرة، اعتبر المفكر جوزف راتزنغر أن حواراتكم مع العالم ينقصها الصدق. اقرأ يا صاحب الفخامة هذه الفقرة فقط، فأغلب الظن أنك غير مولع بالمطالعة.
كنت أتأمّل فيك وأنت تدلي بدلوك في مؤتمرك الصحفي. شعرت كم هو بارد هذا المؤتمر، على الرغم من لغة الجسد الدائم الحركة. بارد غير معني بالطلب اللبناني الذي سُلم إليك، طلب الحصول على صورة لأرض الانفجار الكبير وفضائه يوم حدوث الجريمة العدوانية المركّبة ضد وجود لبنان من أساسه. إنّ كلامك الذي تفضلت به كلّه فارغ بلا قيمة، طالما أنت تتهرب من تلبية طلبنا لمعرفة حقيقة من أدار التفجير الهيروشيمي لمرفأ بيروت، وأزاحه من درب المنافسة مع مرفأ حيفا المحتلة في فلسطين. نريد الحقيقة. الحقيقة من أجل لبنان. هل سمعت يا من يسمح لنفسه بتوجيه الدروس لنا، ويتظاهر بشتم سياسيينا اللصوص ليخطب ودّنا، ويأخذ ثقتنا، فيما هو يواصل التفاهم معهم، عبر تغييب الفاعل. دائماً يتم رفع الأصوات، فالتعميم، فالسجالات حتى تغييب الفاعل. هذه التقنية يا حضرة الرئيس، تنطلي فقط على من يصدّق كلام الدول.
أكرر السؤال: أين صور القمر الصناعي؟ ما هو سبب عدم كشفها؟ عذراً يا حضرة الرئيس، إن كنت قد نسيت أن هذه هي قاعدة الشفافية ـــ الديمقراطية ـــ الحقوق إنسانية التي تحاضرون بها، تحاضرون بفصاحة لا يجاريها إلّا فصاحة المصرفيين العتات، شرواكم يا صاحب الفخامة، حين يقنعون الزبائن بوضع أموالهم وادّخارات عمرهم في خزائن البنوك بحيث يفعل البخار فعله عندما تدقّ الساعة لتنفيذ النهب الكبير، وتدمير الأسر بغطاء من هذه الثورة الملونة أو تلك... تماماً كما حدث ويحدث في لبنان! وأنت من أسياد العارفين، يا صاحب الفخامة، وربما لأنك كذلك تجاهلت بالكامل الاعترافات الفظيعة، والفظيعة، والفظيعة التي أدلى بها الدبلوماسي الأميركي الشديد التهذيب والمحبّ للسلام والوئام بين البشر، والمواكب لعرس الدم اللبناني منذ عشرات السنين. أتحدّث عن الشهادة التي أدلى بها ديفيد هيل أمام الكونغرس الأميركي قبل ساعات معدودة فقط من مؤتمرك الصحفي العظيم. قال إن إدارته أنفقت على من تثق بهم في لبنان مبلغ عشرة مليارات دولار، توزّعت على منظمات غير حكومية، وعلى أتباع صالحين في أوساط السياسة والإعلام المنافق. ويتمّم كلامه هذا كلاماً سابقاً للدبلوماسي الأميركي المواكب أيضأ لمجريات عرس الدم اللبناني منذ سنين والذي أكد بصريح لسانه، ومن المنبر ذاته، أن إدارته المحبة للسلام والكارهة للمذابح والاغتيالات، دفعت ذات سنة نصف مليار دولار في قلب لبنان من أجل تشويه صورة حزب الله.
آذانهم يا حضرة الرئيس تصغي أولاً إلى زملائك المصرفيين الدوليين، وعينهم على المصرف المركزي اللبناني، وهم يعتزمون تجريده من حقّه الحصري في إصدار العملة. والحجة جاهزة : مصرف لبنان لم يعُد مؤتمناً على إصدار العملة، لذا لا بدّ من إسناد هذا الامتياز إلى بنوك خاصة. وبما أن البنوك الخاصة فقدت صدقيتها بالكامل، بتواطؤ من حاكم المصرف المركزي (وهو بمثابة ادغار هوفر المالي) وكبار لجنة المصارف الذين يمضون نصف أوقاتهم في باريس بعيداً عن الأضواء الكاشفة لبعض اللبنانيين الوطنيين... إذاً لا بدّ من إسناد الامتياز إلى بنوك دولية. وبنك أوف نيويورك، كبير البنوك المالكة للاحتياطي الفدرالي الأميركي بات يملك 34 بالمئة من أكبر المصارف اللبنانية وذلك عبر عملية لصوصية خاطفة في أواسط عام 2019 حجب أمرها «الإعلام اللبناني الحر»، أي الإعلام الممول من العشرة مليارات دولار آنفة الذكر، والمروّج لما يسمّى بالثورة، ثورة التدمير الذاتي التي نفّذت باسم محاربة الفساد.
وهل يعقل يا حضرة الرئيس، المحاضر بالنزاهة والعفة، أن تتجاهل هذه السرقة الكاملة لشعب بأكمله من قِبل المصارف؟ مدهش أمرك يا حضرة الرئيس، كيف تنسى أو تتناسى أمراً بهذه الخطورة تماماً، كتناسيك للصور الفضائية التي من شأنها أن تسهّل بشكل حاسم وقاطع تحديد المسؤولية عن التفجير الهيروشيمي.
حضرة الرئيس،
صعب عليّ تصديق الرأي القائل بأنك لست على علم بكل ذلك، كما يصعب عليّ تصديق عدم علمك بأن طائرات حلفك الأطلسي تقوم بعمليات إحراق ممنهج لحقول الحبوب والمزروعات الخصبة في سورية، لكي يموت السوريون من المجاعة، فيما يحرمهم الحصار الأطلسي من وسائل التصدي لاجتياح الوباء. فيا ابن العالم المتمدن ـــ الحقوق إنساني ـــ الشفاف. وطبعاً، وقبل كل شيء، الديمقراطي... عليك أن تعتذر. اعتذر من اللبنانيين، منا نحن، يا حضرة الرئيس، معيب ألّا تعتذر. لبناننا كان وسيبقى لنا، وهو ليس للبيع، وسوريانا كانت وستبقى لنا، وفلسطيننا كانت وستعود لشعب السيد المسيح... شعبنا.

*كاتب وباحث لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا