في يوم 28 كانون الثاني / يناير 2020، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكان يقف بجانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مبادرة سُميت بـ«صفقة القرن» من أجل إنهاء الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. لا يمكن تفسير طرح هذه المبادرة بتقاربات بين طرفَي الصراع، تحاول هذه المبادرة تجسيرها، وإنما بأمر آخر يتمثّل، على الأرجح، بقراءة أميركية ــــــ إسرائيلية، تفيد بأنّ هناك بيئة من الأزمات المتفجّرة في بلدان عربية عدّة تنتج حالة ملائمة لواشنطن وتل أبيب، من أجل إنهاء صراع رسم الخريطة السياسية للمنطقة، داخلياً وإقليمياً، وأتاح إنهاء نفوذ دولي في إقليم الشرق الأوسط (بريطانيا وفرنسا)؛ كذلك، أتاح دخول وحلول نفوذ دولي جديد في الإقليم (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)، بعدما رأتا بأنّ تلك الأزمات العربية، التي نتجت عن انفجار البنى الداخلية لبلدان عربية عدّة، تتيح أرضاً خصبة لتمرير «صفقة القرن». هنا، يجب التذكير بأنّ المبادرات الدولية تجاه الصراع العربي ــــــ الاسرائيلي كانت تأتي دائماً إثر انكسارات عربية (القرار 242 بعد خمسة أشهر من هزيمة حرب حزيران ــــــ مبادرة كيسنجر في سياسة «الخطوة خطوة» عامَي 1974 و1975، بعدما لمس لدى الرئيس أنور السادات اتجاهاً مصرياً انفرادياً بمعزل عن السوري في حرب 1973 ــــــ «مشروع ريغان» بعد حرب اجتياح لبنان عام 1982 ــــــ مؤتمر مدريد بعد هزيمة العراق في حرب 1991 ـــــ «خريطة الطريق» التي طُرحت من قبل واشنطن لحلٍّ فلسطيني ــــــ إسرائيلي بعد أسابيع ثلاثة من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003).على الأرجح، ليس هناك فقط قراءة أميركية ــــــ إسرائيلية، تقول بأن نضوجاً قد حصل في انهيار أوضاع داخلية عربية عدّة (سوريا ـــــ لبنان ــــــ العراق ــــــ ليبيا ــــــ اليمن)، مصحوباً بأزمة وجودية مصرية تواجهها القاهرة مع السد الأثيوبي الذي يمكن أن يمسك بمفتاح صنبور نهر النيل، بالترافق مع عجزها عن أن تكون فاعلة في أزمات السودان وليبيا، وإنما أيضاً هناك استغلالٌ أميركي ـــــ إسرائيلي، من أجل تمرير «صفقة القرن»، لما تشعر به دول عربية عدّة في الخليج، بأنّ الخطر الإيراني هو أخطر من الإسرائيلي، وللميل الحاصل هناك منذ سنوات عديدة نحو اعتبار أنّ هناك تلاقيات يمكن أن تنشأ بين تلك الدول وواشنطن وتل أبيب، من أجل مواجهة التمدّدات الإيرانية في الإقليم. يضاف إلى ذلك لما تراه واشنطن وتل أبيب من صراع سعودي ـــــــ تركي في عموم المنطقة، ومصري ــــــ تركي يتجسّد الآن في الأزمة الليبية، يمكن أن يجعل دولاً عربية عدّة تفكر في الصراع مع أنقرة، إضافة إلى طهران، بأنه «تناقض رئيس»، وفق تعبير ماوتسي تونغ.
وفق التصريحات الإسرائيلية المعلنة لن تكتفي تل أبيب بضمّ الكتل الاستيطانية وغور الأردن لفصل شرق الأردن عن الضفة الغربية


تحضرني، هنا، واقعة حصلت في آذار / مارس 1978: عندما تمّ عرض «مشروع موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)» على الأستاذ إلياس مرقص، قام الأستاذ الياس بإبداء اعتراض على عبارة: «إسرائيل تريد تسوية انفرادية للصراع العربي ــــــ الإسرائيلي بعد الاستفراد بالتسوية مع مصر»، شارحاً بأنّ إسرائيل تريد تعفُّن الجسم العربي وانهياره، بعد فصل الرأس المصري عنه، وأنّها لا تريد أيّ تسوية مع باقي العرب بمن فيهم الفلسطينيون، بل تريد أن تكون سيدة المنطقة الضعيفة والمنقسمة بوصفها «مخفر الغرب الأميركي ـــــ الأوروبي». عندما أبدى الأستاذ مرقص تلك الملاحظة، كانت زيارة السادات إلى القدس قد مضى عليها أربعة أشهر، وكان كلّ العرب بمن فيهم ياسر عرفات، يظنّون بأنّ الهدف من الاستفراد بمصر هو إنشاء وضع إسرائيلي أفضل، من أجل الاستفراد بالعرب الآخرين كلّ على حدة عبر تسويات انفرادية. يمكن لاتفاقية أوسلو ومسارها عبر سبعة وعشرين عاماً، منذ 13 أيلول / سبتمبر 1993، أن تؤكد صواب رؤية الأستاذ إلياس مرقص. أيضاً، تؤكد ذلك طريقة تعامل إسرائيل مع الوضع اللبناني، بين عامَي 1982 و2000، وكذلك طريقة تعاملها مع الأزمة السورية طوال السنوات التسع الماضية. يمكن للصواريخ الإسرائيلية المضادة للطيران من طراز Spyder-mr، التي تمّ نصبها على جسم السد الأثيوبي (نشرة «أراب ويكلي»، 20\7\2019) أن تعطي صورة على ما تريده إسرائيل من مصر، غير مكتفية من عزلها عن الجسم العربي، مع إفقادها كلّ دور في آسيا العربية، في فترة ما بعد اتفاقيات «كامب دافيد»، في أيلول / سبتمبر 1978، بل تريد أبعد من ذلك في تعطيشها وتجويعها.
هنا، وفق التصريحات الإسرائيلية المعلنة، لن تكتفي تل أبيب بضمّ الكتل الاستيطانية وغور الأردن، لفصل شرق الأردن عن الضفة الغربية، وإنّما تريد أن يكون مرفأ حيفا مركزاً لأنابيب نفط وغاز من الخليج والعراق ولسكك حديد وأوتوسترادات لتفادي المرور في مضائق هرمز وباب المندب، ولتهميش قناة السويس ومرفأي اللاذقية وبيروت. يجب، هنا، التذكر بأنّ أنبوب نفط كركوك ـــــ بانياس(وفرعه لطرابلس) قد تمّ بناؤه من قبل شركة نفط العراق، في فترة 1949 ـــــ 1952، بعدما أصبح متعذّراً العمل بخط كركوك ــــــ حيفا، بعد قيام دولة إسرائيل. لن يكون هناك عملياً بعد تنفيذ خطة الضم الإسرائيلية، تلك التي تشمل ثلث الضفة الغربية ومعظم مياهها، والتي كان مقرراً أن تتم في 1 تموز / يوليو 2020 ثمّ تأجّلت لحسابات أميركية ـــــ إسرائيلية، أي شيء ممّا كان يسمّى بحلّ الدولتين في اتفاقية أوسلو، بل معازل فلسطينية مقطّعة الأجزاء كما كانت معازل السود في دولة جنوب أفريقيا التي اتبعت سياسة الفصل العنصري.
بتكثيف: لا تريد إسرائيل وضعية «القلعة المنعزلة»، كما قال بعض العرب في فترة ما بعد بناء شارون لـ«السور الواقي»، بل تريد أن تستعيد وضعية «المخفر اليهودي للغرب الأميركي ــــــ الأوروبي»، كما كانت في حروب 1956 و1967 و1982، وأثناء ضرب المفاعل النووي العراقي، عام 1981. شعرت إسرائيل بعملية تقلّص أهميتها بعد انتهاء الحرب الباردة بين الأميركيين والسوفيات، بين عامَي 1947 ـــــ 1989، وبعدما أتى الأميركي إلى المنطقة بعسكره في حربَي 1991 و2003، متخلّياً عن الوكيل الإسرائيلي في نزع «الشوك الأميركي». كما شعرت تل أبيب بضعف دورها عندما جرّبت واشنطن، مع تعثّر مشروعها في المنطقة، استخدام الوكيل الإسرائيلي من جديد في حرب 2006 وفشل. تريد تل أبيب عبر «صفقة القرن» تحقيق «إسرائيل الكبرى»، ليس عبر الجغرافيا، بل عبر الدور في المنطقة.

* كاتب سوري