عن عالم «ما قبل كورونا» أساساً نتحدث، إذ ننتقل من مجال الفكر الاقتصادي، إلى مجال هو إلى علم الاقتصاد الدولي أقرب. ذلكم حديث ما يُسمى بسلاسل العرض، أو ـــــ بحسب ملفوظ آخر ـــــ «سلاسل الإمداد». ذلك أنّه من بين أهم الاتجاهات السائدة في مجال الاستثمار الدولي في التكنولوجيا المتقدّمة، في الآونة الراهنة، و خلال العقدين الأخيرَين على الأقل، هيمنة نمط الاستثمار والتبادل المشترك بين دول عدّة في وقت واحد، أقلّها ثلاث. يعكس ذلك طابع التجزئة المتزايدة لعملية الإنتاج السلَعي والخدمي؛ حيث تخضع السلعة أو الخدمة الواحدة لمراحل عديدة متعاقبة، تجري عملياتها في مواقع متناثرة على رقعة الجغرافيا الكوكبية، وفق القاعدة الذهبية للمزايا النسبية المكتسبة بحسب الصيغة السائدة غير المتكافئة لتقسيم العمل الدولي. في هذه الصيغة، تختصّ بلدان معيّنة، نامية على الأغلب، في الأجزاء البسيطة نسبياً، من السلسلة الإنتاجية والتكنولوجية، خلال مرحلة الإنتاج العيني أو الصلب، الحلقة الوسطى من السلسلة، وهي البلدان الأعلى تطوراً ضمن البلدان النامية نفسها على كل حال، ومثالها الأبرز الصين، بينما تختصّ الدول الصناعية المتقدّمة بعمليات «القلب» التكنولوجي الناعم، في مرحلتَي ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج، الحلقتين الأولى والأخيرة من السلسلة. فماذا يبقى للبلدان «القادمة أخيراً» Late Comers إلى الحلبة التكنولوجية بقمّتها المدببة، وخاصة في حقل المعلومات والاتصالات، تلك البلدان مثل مصر ومعها الجمع الغفير من البلدان العربية والأفريقية؟هنا، تكشف الدراسات النظرية والأعمال التطبيقية عن اتجاهات عديدة تصبّ في غير صالح عموم البلدان النامية، وخصوصاً البلدان العربية، بما فيها مصر، مثل تركّز الاستثمارات التكنولوجية داخل حواضن السلاسل العالمية، في قلاعها الحصينة داخل أكثر البلدان النامية قوة من حيث معدلات النمو ودرجة «التصنّع» ومستوى التقدّم التكنولوجي والابتكاري، كما على صعيد التطور العلمي و«البحث والتطوير» R&D، وعلى وجه التحديد في منطقة آسيا الشرقية، ما يهدّد بقية البلدان النامية بالتهميش.
لقد بات أكثر من ثلثَي التجارة العالمية يُجرى عبر «سلاسل القيمة»، حيث يعبر الإنتاج حدود الدولة الواحدة، ويمرّ عبر دول عدّة، قبل أن تدخل السلعة المتاجَر بها مرحلة التجميع النهائي، ومن ثم تجهيزها للاستخدام الإنتاجي أو الاستهلاكي الأخير. وفي عام 2017 مثلاً، كان توسّع سلاسل القيمة أسرع من نمو الناتج المحلّي الإجمالي. وقد أدّت الزيادة في حجم ومقدار التجارة المرتبطة بسلاسل القيمة العالمية، إلى إحداث نمو اقتصادي ملحوظ في العديد من دول العالم عبر العقدين الماضيَين، مدفوعاً بانخفاض تكلفة النقل والاتصالات وتقلّص الحواجز التجارية. ولكنّ هذا النمو المرتفع صحَبَته آثار توزيعية سلبية، من شأنها عدم وصول منافع التجارة إلى الجميع، ما يدفع إلى توليد قوة مضادة للعولمة وتصاعد الحمائية وتهديد اتفاقات التجارة العالمية والإقليمية.
ولعلّ هذا يكمن، في جانب منه، من وراء النزعة «الحمائية» للرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الصين، وفق ما تكشّف من أزمة شركة الهواتف المحمولة «هواوي». فماذا حلّ بشركة «هواوي» بفعل الإجراءات الحمائية العقابية الأميركية، كمثال دالّ؟
في أيار / مايو 2018، أدرجت وزارة التجارة الأميركية العملاق التكنولوجي الصيني «هواوي»، و70 من الشركات التابعة لها، في القائمة السوداء، حيث منعت الشركات الأميركية من أن تبيع لها بعض المنتجات التكنولوجية «العالية» بدون موافقة حكومية. وهذا قد سلّط الضوء على عنق زجاجة مهم وهو «الشرائح الدقيقة»؛ فإن «هواوي» لا تستطيع العمل بدون الرقائق المصمّمة في الولايات المتحدة. وبالرغم من أن «هواوي» لديها رصيد من «المواد شبه الموصِّلة»، مثل الشرائح السيليكونية، فإنها لا تزال تستورد معظم ما يلزمها منها، وقد أنفقت 11 مليار دولار في عام 2017 على استيرادها من أميركا بالذات. وتقوم الشركة الأميركية «كوالكوم» Qualcomm، في مدينة سان دييغو، بتصنيع حوالى نصف ما يوجد في العالم من رقاقات الـ«مودم» التي تدير الاتصالات البعيدة، والمعالِجات الدقيقة. كما أنّ شركة «إنتل» الأميركية تُصنّع عملياً كل الشرائح الخاصة بالخوادم المستخدمة في مراكز البيانات العالمية، وذلك على أساس تصاميم مرخّصة من قبل شركة بريطانية تسمى «آ.ر.م» ARM، وقد أبدت هذه الشركة الاستعداد لتقييد المبيعات إلى «هواوي»، خشية السقوط في عواقب الحظر الأميركي.
لقد بات يُجرى أكثر من ثلثَي التجارة العالمية عبر «سلاسل القيمة» حيث يعبر الإنتاج حدود الدولة الواحدة ويمرّ عبر دول عدّة


وفي ما يخص شركتَي «كوالكوم» و«آرم» ومصمّمي الشرائح الدقيقة الآخرين، فإنهم يعتمدون على مسابك متخصّصة لتحويل السيليكون إلى معالجات صغيرة micro processors. وأكبر تلك المسابك تملكه «شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات» TSMC، وهي واحدة من أصل ثلاث شركات فقط قادرة على تصنيع «المعالجات الصغرى» المتطوّرة. والشركتان الأخريان، هما «إنتل» الأميركية، و«سامسونغ» الكورية الجنوبية. ويلاحظ أنّ المعالجات الدقيقة المستخدمة في هواتف «آي فون» مصنّعة في «شركة تايوان» المذكورة TSMC. وتعتمد «إنتل» و«سامسونغ» و«شركة تايوان»، فى المقابل، على مجموعة منتقاة من مصنّعي ومورّدي المعدّات المتخصّصة، ومن هؤلاء شركة ASML الهولندية، وهي الوحيدة في العالم المصنِّعة لمعدات الطباعة الحجرية، والتي تستخدم الأشعة فوق البنفسجية القصوى في تصنيع ترانزيستورات صغيرة بالقدر الكافي لاستخدامها فى الجيل القادم من الرقائق المطورة. وقد أنفقت ASML مليارات الدولارات، خلال عقود، من أجل تصنيع هذه المعدّات التكنولوجية، والماكينة الواحدة العاملة في إنتاج هذا النوع من المعدات تزن 180 طنّاً، وسعرها 120 مليون يورو (135 مليون دولار). وقد اشترت كلّ من «إنتل» و«سامسون» و«شركة تايوان» عدداً منها. كما أنّ شركة SMIC ـــــ وهي شركة صينية لصناعة الرقائق ـــــ طلبت واحدة منها؛ وإذا تمّ منع SMIC، أو أي شركة صينية أخرى، من شراء مثل هذه الماكينات، فإنّ طموح الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق المتطورة يمكن أن ينهار، بحسب تقدير بعض المحلّلين.
وبعد كل ما سبق، هناك البرمجيات. فإنّ ثلاثة أرباع «الهواتف الذكية» في العالم، بما في ذلك «هواوي» تستخدم نظام تشغيل الموبايل «غوغل أندرويد». وبرغم أن «هواوي» احتفظت بميزة استخدام نسخة «أندرويد» ذات مصدر مفتوح، إلا أنّ «غوغل» الأميركية تعهّدت بأنها لن تقدّم إلى الشركة الصينية المميزات المخصوصة، مثل «مركز التطبيقات» و«تحديثات الأمان».
والحق أنّ ما جرى أميركياً لشركة «هواوي» يندرج في سياق أوسع، تمثّله السيطرة النسبية للولايات المتحدة على المسارَين العيني والمالي لسلاسل العرض العالمية بوجه عام. وتتأكّد هذه السيطرة عملياً، عن طريق الوجود والنفوذ العسكري الأميركي المباشر وغير المباشر، في مختلف مناطق العالم، من خلال مبيعات الأسلحة المتطوّرة وتكنولوجياتها المعقّدة، وكذا ارتكازاً إلى القواعد والنقاط العسكرية المتناثرة على أجزاء «رقعة الشطرنج» العالمية، على امتداد القارّات، في كلّ من أوروبا (الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية) وآسيا: شمالاً شرقياً (اليابان)، وشرقياً (كوريا الجنوبية) وجنوبياً (باكستان وأفغانستان)، وفي غرب آسيا أيضاً. وفي قارتَي أفريقيا وأميركا اللاتينية، يتكثّف ويتنوّع الوجود والنفوذ العسكري والسياسي الأميركي، بما يسمح للولايات المتحدة بسيطرة نسبية عالية على مسارات النقل البحرية اللازمة لسلاسل العرض إلى حدّ بعيد، برغم الوجود الاقتصادي الصيني المتزايد في كلّ من القارّتَين.
أما عن السلسلة المالية الموازية لشبكات العرض، فإنّ السيطرة الأميركية على آلية «سويفت» وأذرعها المالية تجلّت، أخيراً، على سبيل المثال، من خلال حملة الضغط على أوروبا للامتناع عن تفعيل آلية أوروبية بديلة لتحويل الأموال إلى إيران (آلية «إنستكس»)، لقاء مبيعاتها المحتملة من النفط والغاز الطبيعي إلى شركائها التجاريين. فضلاً عمّا سبق، تميل شبكة المبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بوجه عام، لصالح الولايات المتحدة، حيث تقدّر نسبة صادرات الصين إلى أميركا بحوالى 4% من الناتج المحلّي الإجمالي للصين، مقابل 0,5% كنسبة للصادرات الأميركية إلى الصين من الناتج المحلّي الإجمالي الأميركي. ولكن من الملاحظ أنّ درجة التعرّض المباشر للمخاطر التجارية، عبر سلاسل العرض، تتّسم بتماثل نسبي بين البلدين، أميركا والصين. ذلك أنّ قطع السلسلة من الطرف الصيني باتجاه الولايات المتحدة، كلياً أو جزئياً، يمكن أن يكلّف الاقتصاد الأميركي أعباء مرتفعة من جراء انقطاع الواردات من السلع الرخيصة المنتجة في الصين، أو الحدّ منها ، سواء كمنتجات نهائية أو كسلع وسيطة، أو كآلات ومعدّات وأجهزة مختلفة. وفي المقابل، فإنّ قطع السلسلة من إحدى نقاطها الحرجة باتجاه الصين، يرجّح أن تكون له آثار محتملة قوية في مجال الإمداد بالتكنولوجيا غير المجسّدة، وبالمواد ذات الأهمية الخاصّة لصناعة الإلكترونيات والإلكترونيات الدقيقة، على وجه الخصوص. فإلى أي مدى يمكن أن تمضي لعبة «عضّ الأصابع» بين الطرفَين، وما كُنْه التأثير المحدّد في حركة الإنتاج المدوّل في إطار النظام الاقتصادي العالمي للرأسمالية؟ وهل من بديل عالمي ممكن وموثوق؟
هذا سؤال بالغ الأهمية قبل «كورونا»، ثم بعده على الخصوص. ونمسك عن التكهّن الدقيق بما يمكن أن يجري على وجه التحديد، فذلك أمر يحوطه قدر غير قليل من «عدم اليقين»، رغم خوض رهط كثيف من الباحثين في هذا الحديث هذه الأيام، من دون تحوّط كافٍ في ما يبدو. ولكن من المرجح أنّ سلاسل العرض الممدودة على الصعيد العالمي بشكل عام، وبين أميركا والصين بشكل خاص، سوف تثير قلقاً عظيماً لدى دوائر صنع القرار الاستراتيجي في الدولتين، خلال المرحلة الانتقالية الحرجة القادمة. وأكبر الظن أنّه سيجري نوع من «تهذيب السلاسل»، وإعادة النظر بشكل انتقائي في مساراتها الجغرافية، وفق معطيات استراتيجية وسياسية لا تخفى. وهذا ما يمكّننا من ترجيح إدخال تغييرات وتعديلات على سلسلة العرض محليا و«أقاليمياً» للطرفين: أميركا والصين، ولغيرهما، وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي واليابان، ولا سيما في ضوء ما برز من «نقاط الاختناق» (القاتلة) في سلاسل الإمداد المتعلّقة بالمعدّات الطبية والمواد الصيدلانية وتجهيزات الصحّة العامة بشكل أساسي، خلال «أزمة كورونا» الراهنة.
ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن تتحقّق إعادة النظر في السلاسل العالمية، وفي أيّ اتجاه، ومن أي نقاط مواقع إنتاجية وتكنولوجية؟ هذا ما نفضّل تركه لمزيد من العمل في حقل بحوث الاقتصاد الدولي التطبيقي لفرَق العمل التخصّصي الدقيق في مختلف المناطق والبلدان، بما فيها المنطقة العربية، وما حولها، وفي جمهورية مصر العربية على وجه التعيين.

* أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية في «معهد التخطيط القومي» (القاهرة)