استطاعت المقاومة من خلال تجربتها الطويلة منذ عام 1982 إلى اليوم تغيير الكثير من المعادلات السياسية والعسكرية، سواء في لبنان أو في المنطقة. وقد اعترف لها بهذه القدرة حتى العدو الإسرئيلي، الذي لم يعد يُخفي مدى صعوبة قدرة الردع التي تواجهه في التعامل مع هذه المقاومة. لقد قيل الكثير، منذ انتصار أيار عام 2000 وما بعده في تموز عام 2006، عن قدرات حزب الله وعن تكتيكاته العسكرية التي يدمج فيها بين الجيش النظامي وحرب العصابات، وعن تحكّمه في منظومة إدارة الحرب والعمليات، وعن ثبات مقاتليه، وعن مشاريع أخرى سياسية واستراتيجية، كانت إسرائيل والولايات المتحدة تتطلّع إليها وأفشلتها المقاومة، مثل مشروع الشرق الأوسط الجديد. لكنّ ما أنتجته تجربة هذه المقاومة، من مفاهيم استراتيجية تتعلّق بالصراع مع العدو، لم يحظَ بما يستحق من اهتمام، خصوصاً أن مثل هذه المفاهيم، لم تكن موجودة في كتب قرأتها المقاومة وطبّقتها على أرض الواقع، بل إن ما جرى كان العكس تماماً. فقد أنتجت المقاومة مفاهيمها الخاصّة للصراع بعد تراكم تجربة طويلة وعملية، حقّقت إنجازات واضحة، وتغييرات عميقة في طبيعة المواجهة ومستقبلها مع العدو الإسرائيلي. وقد عبّر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة وفي أكثر من احتفال بذكرى النصر أو التحرير عن هذه المفاهيم والمصطلحات الاستراتيجية التي تحتاج برأينا إلى تسليط الضوء عليها، وإلى التوسّع في قراءتها وتحليلها استناداً إلى التحوّلات التي أحدثتها المقاومة في طبيعة وعيِنا لهذا الصراع من جهة، ووعي عدوّنا له من الجهة المقابلة.

المفهوم الأول: «ولّى زمن الهزائم»
كرّر السيد نصر الله، منذ سنوات، شعار «ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات». وقد ردّد الكثيرون هذا الشعار، تارة من منظور تعبوي وإعلامي، وتارة لتأكيد أننا في وضع أفضل في الصراع مع إسرائيل. لكنّ هذا الشعار/ المفهوم، يتجاوز على المستوى الاستراتيجي الجوانب التعبوية والمعنوية وهي جوانب صحيحة وحقيقية. لأن هذا المفهوم يلخّص في ثلاث كلمات: «تجربة عربية ماضية»، كانت تجربة هزائم على مستوى الوعي بقدرات الذات وقدرات العدو، وعلى مستوى ثقافة الإحباط وثقافة التراجع وعدم الثقة. ويستند هذا التوصيف لزمن الهزائم إلى الواقع وليس إلى المبالغات. يحتاج زمن الهزائم الذي ولّى، إلى البحث والتحليل والمراجعة. ما هي عناصر هذا الزمن السياسية والعسكرية والميدانية والنفسية وسواها...؟ وكيف انتقلنا إلى الوجه الآخر لهذه المقولة الاستراتيجية «وجاء زمن الانتصارت»؟
يلخِّص «زمن الهزائم» الذي ولّى و«زمن الانتصارات» الذي أتى مرحلتين تاريخيّتين في الصراع. مرحلة أفلت، يفترض أن تأفل معها مفاهيمها وقيَمها من الأدبيات السياسية والاستراتيجية والإعلامية العربية. ومرحلة انتصارات راهنة ومُعاشة، تلخِّص تحولاً استراتيجياً عميقاً في واقع الصراع مع عدوٍّ كان لا يُقهر، ومع أمة كانت تعيش الهزائم، ويريد «زمن الانتصارات» أن ينتقل إلى وعيِنا بقدراتنا التي يجب أن تتجاوز زمن الهزائم الذي ولّى.

المفهوم الثاني: «أوهَن من بيت العنكبوت»
أطلق السيد نصر الله هذا الشعار الشهير من مدينة بنت جبيل، غداة التحرير عام 2000. كان الاحتفال مدوياً في تلك اللحظات التاريخية مع انسحابٍ إسرائيلي من أرض لبنانية عربية تحت ضربات المقاومة من دون قيد أو شرط أو تفاوض. ربّما فاجأ السيد نصر الله العدو قبل جمهور المقاومة بهذا الشعار الذي أطلقه. لأنّ بيت العنكبوت كما هو معلوم، وكما جاء توصيفه الذي استعاره السيد من القرآن الكريم هو «أوهَن البيوت»، أي الذي لا يصمد حتى أمام أيّ نفحة هواء، على الرغم من دقّة خيوطه المتشابكة والمتراصة.
أدرك الإسرائيليون لاحقاً الدلالات السياسية والنفسية والعسكرية التي قصدها السيد من هذا التشبيه وانعكاساته المعنوية المحتملة عليهم وعلينا. وهذا يفسّر لماذا أصرّت القيادة العسكرية الإسرائيلية في عدوان تموز 2006 على احتلال بلدة بنت جبيل، حيث أطلق السيد هذا الشعار، وتسمية هذه العملية بـ«خيوط الفولاذ»، كردّ مباشر وواضح على «بيت العنكبوت». لكنّ محاولات احتلال بنت جبيل المتكرّرة فشِلت، ما عزّز لاحقاً، بالنسبة إلى المقاومة، التأكيد على «زمن الانتصارات».
مصطلح «أوهن من بيت العنكبوت» على الرغم من بساطته ووضوحه، يعني أنّ تجربة المقاومة كشفت في الميدان، وطوال سنوات من المواجهات، أنّ علينا تغيير نظرتنا إلى كيان العدو كقلعة مدجّجة بالسلاح لا يستطيع أحد قهرها أو الدخول إليها. كانت النظرة العربية إلى إسرائيل، طوال عقود، تتلخّص في جبروت هذه القلعة، التي لا يمكن اختراقها أو النيل منها أو إضعافها. وكانت إسرائيل في نظر نفسها، ونظر جنودها ومستوطنيها، أيضاً قلعة وسيفاً مصلتاً يهوي على رأس من يحاول التفكير في المواجهة، أو التفكير في الحرب. كان هذا التصوّر أساس العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي اعتمدت الحرب المفاجئة والنصر الخاطف والتدمير الواسع، لإقناع الطرف المقابل (العرب) ليس فقط بعدم إمكانية ربح الحرب، بل وحتى بعدم جدوى التفكير في أصل الحرب مع إسرائيل.
«أوهن من بيت العنكبوت» يقلب تلك المعادلة السابقة رأساً على عقب، فلا إسرائيل قلعة، ولا هي لا تقهر، ولا هي قادرة على منعنا من التفكير بالحرب، ولا حتى من تحقيق الانتصار في الحرب. «أوهَن من بيت العنكبوت»، رؤية استراتيجية مختلفة لهذا الكيان، مبنية على التحوّلات التي حصلت له، وتعرّض لها بعد أكثر من ثلاثة عقود من المقاومة والمواجهة، وهي تقطع مع الرؤية السابقة، ومع الثقافة السابقة التي برّرت التراجع عن الحرب وعن المواجهة.

المفهوم الثالث: «حيث يجب أن نكون»
نحن هنا أمام بعدٍ آخر لوجود المقاومة، ولدورها المباشر في الصراع الإقليمي. أثار قول السيد «حيث يجب أن نكون» الكثير من النقاش والجدل، وحتى الاتهام من قِبل الخصوم في لبنان وخارجه. لكنّ هذا التصوّر يعكس في واقع الأمر، البعد الدفاعي الإقليمي للمقاومة، الذي لا ينفصل عن بعدها الدفاعي المباشر في لبنان ضد أيّ تهديد إسرائيلي. هذه الأطروحة تربط، لأول مرة في تجربة المقاومة، بين بعدها الدفاعي بوجهَيه المحلّي والإقليمي، بعدما هبّت رياح التهديد الإقليمي المجاور على دورها وعلى وجودها.
«حيث يجب أن نكون»، تعني أنّ المقاومة قامت بترجمة عملية لتلك العلاقة النظرية التي يعرفها الجميع عن علاقة المحلّي بالإقليمي، بعدما بات الإقليمي (في سوريا) شديد الوضوح في تهديده للمحلّي (لبنان) وللمقاومة. ولم يعد من الممكن للمقاومة أن تبقى حيث هي لمواجهة التهديد القادم من الإقليم، بل بات عليها أن تنتقل ميدانياً إلى «حيث يجب أن تكون». ونعتقد بأنّ ما هو الأهم على مستوى القراءة الاستراتيجية، في هذا الانتقال، أنها المرة الأولى في تاريخ العلاقة بين لبنان والإقليم، وبينه وبين سوريا تحديداً، أنّ لبنان (المقاومة) بات هو المؤثّر في ما يجري في الإقليم وفي سوريا، خلافاً للمعادلة التاريخية المعروفة التي كانت تقول بأنّ ما يجري في لبنان هو مجرّد انعكاس لما يجري في الإقليم.

المفهوم الرابع: «الجيش والشعب والمقاومة»
يختلف هذا المفهوم الاستراتيجي أيضاً عمّا سبقه من مفاهيم، لأنّه يتعلّق مباشرة بالجبهة التي تشكّلت في لبنان، أو التي يفترض أن تكون، أو أن تبقى كذلك في سيرورة المواجهة مع إسرائيل. في حين أنّ ما سبق من مفاهيم يقتصر على تقدير أوضاع العدو من الوهن، أو من تحقيق الانتصارات عليه. يطرح هذا المفهوم، ولأوّل مرة في تاريخ لبنان، هذه العلاقة بين الأطراف الثلاثة: الجيش والشعب والمقاومة. وإذا كان الشعب هو أصلاً من أنتج هذه المقاومة، وإذا كان الجيش هو من هذا الشعب في الوقت نفسه، فإنّ العلاقة المطروحة، أو المفترضة هي بين الجيش والمقاومة.
لماذا نعتبر هذه الأطروحة جديدة ودقيقة وحساسة وتحتاج إلى البحث والتوسّع لتطويرها؟ لأنّ تجربة علاقة المقاومة الفلسطينية مع الجيش اللبناني، كانت سلبية وسيئة ومشوبة بعدم الثقة، والشك المتبادل، وصولاً إلى الاشتباك في كثير من الأحيان. ولأنّ تجربة الجيوش العربية من جهة ثانية، هي تجربة سلبية عموماً في علاقتها مع شعوبها، لجهة القمع والتسلّط، أو حتى لمنع من يحاول القيام بأيّ عملية على الحدود الفلسطينية.
السؤال إذاً: كيف يمكن أن تطرح مثل هذه النظرية الاستراتيجية، خلافاً لتاريخ علاقة الجيش مع المقاومة، وخلافاً لتجربة الجيوش العربية في بلدانها ومع شعوبها؟ هل هي معادلة خاصة بلبنان أم يمكن أن تسترشد بها حركات وتنظيمات في دول عربية أخرى، في مواجهة تحديات وتهديدات مختلفة عن التهديد الإسرائيلي للبنان، كما فعل «الحشد الشعبي» في العراق على سبيل المثال، عند مواجهة «داعش» بعد احتلال الموصل عام 2014؟
ثمّة الكثير ممّا يمكن أن يناقش في هذه الأطروحات الاستراتيجية التي أنتجتها المقاومة خلال مسيرة إنجازاتها الطويلة منذ عام 1982 إلى اليوم. وما يحفّز على تلك المناقشة، أنّ هذه الأطروحات لم تكن موجودة في كتب علم الحرب، ولا في أدبيات فنّ القتال، ولا في مبادئ علم الاستراتيجيا. تجربة المقاومة هي التي أنتجت تلك المفاهيم والأطروحات، وما على الباحثين والمنظّرين إلّا أن يتلقّفوا ذلك ليعملوا على بلورته وصياغته كنظريات استراتيجية، يمكن أن تدرّس في المعاهد والمؤسسات والكليات المعنية، تماماً كما فعل آخرون مع تجربة المقاومة العسكرية التي أنتجت نموذجها الخاص الذي جمع بين القتال مثل الجيوش من جهة، والحرب الشعبية من جهة ثانية.

* أستاذ علم الاجتماع