درجت العادة لدى أوساط المثقفين العرب المقرّبين من السلطات السياسية أو المعارضين لها، في الحديث عن دور الجماهير العربية وتحليل ردّة فعلها، وخصوصاً عند فترات اشتداد أزمة المنطقة. والملاحظ أنّ الإكثار من تناول موضوع الجماهير، يأتي في كل مرّة يبدو فيها الأفق النظري لهذه الأوساط المثقفة، ومن ورائها الحكومات القائمة، غير مطمئن لمجريات الأحداث وأبعادِها. وغالباً ما تخرج وسائل الإعلام العربية، الرسمية والخاصة، لمساعدة الأنظمة ومثقّفيها بإبراز ردّة فعل الشارع العربي على الأحداث القائمة، وكأنها سلاح احتياطي كبير في معادلات المنطقة، ممّا يوحي بأن هناك دوراً كبيراً قد تلعبه هذه الجماهير عند اشتداد الأزمة (أزمة الشعب أو أزمة الأنظمة والمثقفين؟)، في إحداث تغييرات في هذا الصراع الجاري.
ZECHARIA.TUMBLR.COM

أود المشاركة في هذا النقاش الدائر في كثير من الصالونات والمقاهي السياسية، وحتى هنا في أوروبا، من زاوية مهنية إذا صحّ التعبير، أي من زاوية الثقافة الطبية التي أنتمي إليها، بهدف الوصول إلى مقاربة نفسية ــ اجتماعية لما يُسمّى بمسلك الجماهير العربية. وممّا قد يساعدني في هذه اللفتة الفكرية، أنني سعيت ذاتياً وما زلت، للتحرّر من المفاهيم النظرية المعلّبة، وعدم التأثّر بالسلطة القائمة من سياسية ودينية وأخلاقية، والتي تمنع عادة الغوص في الممنوعات والمحرّمات. كذلك، فإنني أسعى لعدم التأثّر بالإعلام اليومي، الذي يُرهق كاهل المراقب البسيط مثلي، ويحجب الرؤية الواقعية لحركة الجماهير في التحولات الاجتماعية الجارية.
وكما هو معلوم عند تحليل مسلك الجماعة، فالضرورة الأكاديمية تقتضي رصد ثوابت تاريخ هذه الجماعة وتراكم تجربتها في شتى الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، ليأتي حاضر حركتها كامتداد منطقي لهذه الثوابت التاريخية المدفوع ثمنها مسبقاً. وفي وقفة سريعة على بقايا تاريخنا العربي والإسلامي، علينا الاعتراف بأن الجماهير العربية، وفي حاضرها اليوم، لا تستطيع أن تستثمر وتراكم اجتماعياً وسياسياً وبالتالي نفسياً في وقوفها على أطلال الفتوحات الغابرة، خصوصاً في ظلّ تاريخ قريب امتد لحوالى أربعة قرون، كانت هذه الشعوب، خصوصاً في المشرق العربي، تعيش خلاله تحت تأثير مخدّرات الحفاظ على الدولة الإسلامية العثمانية، خاملة لا تتحرك إلا بأمن من الباب العالي لدخول حرب هنا أو هناك، كانت هي دائماً وقودها وضحيّتها لا ناقة لها ولا جمل فيها بالمعنى الحضاري، وخصوصاً في ظل تاريخ حديث قسّم المنطقة العربية إلى مجموعة جزر مبعثرة في جغرافيتها واقتصادها وحتى في مجتمعاتها، لا تجمع بين أوصالها سوى رابطة اللغة والدين.
ومن تداعيات هذا الواقع العربي المجتزأ منذ ما يقارب المئة سنة الأخيرة، أي حوالى خمسة إلى ستة أجيال من البشر، فإن أقطارنا العربية، وبالتالي شعوبنا المكوّنة لها، اختلفت عن بعضها في ردات فعلها إزاء واقعها اليوم في علاقتها مع الاستعمار، مع اقتصادها الوطني ومع إصلاحاتها الإجتماعية، ما يجعل التفتيش عن تراكمات نضالية موحّدة للحركة الجماهرية العربية، أمراً صعباً خصوصاً في بناء استقلاليتها وثوابتها المشتركة.
ففي السياسة مثلاً: صارعت الجماهير في سوريا الاستعمار الفرنسي بدايات القرن العشرين في معارك متعدّدة، وكذلك فعل الجزائريون في الخمسينات منه. أما لبنان وتونس، فقد كانا متواطئين مع الاستعمار نفسه طيلة تلك الفترة وتحت أغطية مختلفة. وبدلاً من أن تكون النتيجة مختلفة باختلاف الموقف الصدامي أو المتواطئ، كانت المفاجأة بأن حصلت الجماهير وبلدانها الأربعة على الاستقلال والسيادة والحدود الآمنة والقوانين الدستورية ذاتها (المنسوخة غالباً من دون عناء) الخ... وأكثر من ذلك، كان يُفترض بنتيجة الصراع مع الاستعمار، حماية هذه المكتسبات الوطنية من قبل الجماهير وتماسك المجتمع أمام أخطار التحديات التي تمسّ بالاستقلال والوحدة الداخلية، إلا أن النتيجة جاءت، مرة أخرى، غير منطقية في سياقها التاريخي التراكمي: فبينما ظلّ المجتمع السوري متماسكاً أمام التطرّف الديني في بدايات الثمانينات، سقطت الجماهير الجزائرية في شعارات دينية غبية، وتحاربت في ما بينها بعنف أبشع من الاستعمار الفرنسي الذي حاربته، تماماً كعنف الجماهير اللبنانية التي تذابحت خلال 17 عاماً لتحمي «سيادتها واستقلالها» المُهدى من الاستعمار!.
كيف يمكن للجماهير العربية أن تراكم قومياً، من خلال النتيجة التي حصلت عليها وهي الاستقلال، بينما كانت مواقفها ووسائل نضالها مختلفة من قطر إلى آخر؟ كيف تتحرّك الجماهير؟ بالعقلانية والمنطقة والتحليل الديالكتيكي لمصالحها الطبقية والوطنية والقومية، أو بعواطفها وغرائزها وإرثها النفسي والعائلي والديني؟ ومن يُحرّك الجماهير؟ الخبز والتعليم والصحة أو السلطة السياسية والدينية ووسائل الإعلام؟
وفي الاقتصاد: بينما كانت جماهير مصر، بدايات عبد الناصر في الخمسينات، تقوم بمجهود كبير لإنجاح الإصلاح الزراعي الذي شكّل الركيزة الأساسية للناصرية بعد التأميمات، كان النفط يثني عزم الناس في العراق عن الزراعة ويحوّل بلاد ما بين النهرين إلى صحراء قاحلة (اللهم إلا النخيل الذي لا يحتاج إلى عناية خاصة). وكما في السياسة، فالمفارقة أنّ مصر بعد عَبْد الناصر أهملت الزراعة، وتركت الجماهير قراها لمصلحة النزوح إلى المدن والعمل في المنتجعات السياحية والفنادق والمطاعم والتكسيّات. بينما اضطر الشعب العراقي إلى أن يعود، بفعل الحصار الاقتصادي وتداعياته، إلى القرى ليقوم بنوع من الإصلاح الزراعي الفردي وإنتاج أنواع الرز والقطن والقمح وغيرها.
ما زالت الأنظمة العربية بما هي عليه اليوم تمثّل تطلّعات شعوبها إلى أن يحصل الفطام وهو عادة معمّد بالدم


بفعل هذه التحولات في الاتجاهين المعاكسين، كيف يمكن للجماهير المصرية والعراقية أن تتمتّع بردّات الفعل نفسها على الأحداث حولها؟ أليس من الطبيعي، مثلاً، التكهّن باصطفاف جماهيري مصري إلى جانب سلطته السياسية، وانحنائه أمامها كما ينحني على أرصفة المدن أمام المؤسسات السياحية التي ما فتئت تبهره بألوانها وتدغدغ مشاعره وغرائزه؟ وبالمقابل، أوليس أمام العراق سوى الموقف العقلاني والمستقل، ولو كان قاسياً كقساوة الأرض التي عاد ليزرعها ويهتم بها؟
وفي المكتسبات الاجتماعية: الطفرة النفطية في الخمسينات والستينات، جلبت الخيرات لقسم من الجماهير العربية التي أضحت بين ليلة وضحاها تتمتّع بضمانات اجتماعية وصحية توازي 8 إلى 10 مرّات أفضل من تلك التي حصلت عليها أوروبا بالنضال والدم والقمع خلال مئتي عام، بينما كانت جماهير عربية أخرى تضعف أمام المرض وانعدام الرعاية الصحية والاجتماعية. وأكثر من ذلك، قامت أنظمة عربية نفطية، مدعومة من جماهيرها، اللامبالية في أغلب الأحيان، بالتآمر على أقطار عربية شقيقة والضرر بمصالح البشر المتواجدين فيها، وما أكثر الأدلّة: من التآمر العربي على الناصرية، إلى محاولة تصفية «منظمة التحرير الفلسطينية» والشعب الفلسطيني بأيدٍ عربية، إلى تغذية الصراعات الدموية داخل بعض البلدان مثل لبنان واليمن وسوريا والعراق وغيرها.
وإذا كان التاريخ العربي القديم وقفة على الأطلال وتاريخنا الحديث مبعثراً وغير ثابت بمعنى أنه لم يسمح لشعوبنا بأن تراكم من خلاله، فأين هي الجماهير العربية اليوم من اهتماماتها ومواقفها من القضايا المصيرية المطروحة؟ هل نستطيع المراهنة على الفعل الجماهيري في تكوين وعي وطني وقومي مستقل؟ وأقله، هل يمكن استعادة تعبير الموقف الشعبي العربي (أو الشارع العربي) في تحليلاتنا النظرية لتبيان حجم ودور الجماهير في المرحلة الراهنة؟
إنّ التقرّب من حركة الجماهير العربية في تاريخها الحديث، يصل بنا إلى الاستنتاجات التالية:
1 ــ قد لا تعي جماهيرنا مصالحها الفعلية والاستراتيجية، كما يراها المثقّف، وقد تتحرّك عكسها وخصوصاً أن بعض المكتسبات في السيادة والاستقلال الوطني والضمانات الاجتماعية، كانت قد حصلت عليها من دون عناء. وبالتالي، فإن التضحية بها ممكنة من خلال موقف مرتجل أو متواطئ أو لا مبالٍ.
2 ــ تجزّأت وضعفت روابط التوحّد في تطلّعات الجماهير العربية، بفعل انتمائها إلى تاريخ أقطارها المختلف وأنظمتها المختلفة واقتصادها المختلف. وقد حدث ذلك تحت تأثير الاستعمار وتقسيمه للمنطقة، إلا أن رحيله عن الوطن العربي لا يعني عودة التوحّد والتطلّعات المشتركة بشكل أتوماتيكي.
3 ــ السلطة هي أقوى محرّك لجماهيرنا العربية، من:
• سلطة سياسية: وهي ما زالت أمام أعين الجماهير أقوى من أي انتماء نقابي أو مهني (على عكس أوروبا).
• انتماءات قبلية وعائلية: وهي تشكل للجماهير، حتى إشعار آخر، ضمانة تفوق تلك التي تأتيها من الطبقة الاجتماعية أو المؤسسة الحكومية.
• قناعات دينية وهي أقوى من قناعات الخبز والحياة، والأمثلة خلال السنوات الأخيرة شاهدة على ذلك.
4 ــ الأنظمة العربية بما هي عليه اليوم، ما زالت، حتى إشعار آخر، تمثّل تطلّعات شعوبها، إلى أن يحصل الفطام وهو عادة معمّد بالدم. وبرأينا، لم يُدفع بعد من ثمن الفطام هذا، ما يشبه الثمن الذي دفعته أوروبا مثلاً لكسب السيادة والديمقراطية والضمانات الاجتماعية والمساواة بين الرجل والمرأة الخ...
على هذه الاستنتاجات الأربعة، نستخلص أنه لا يوجد بمفهوم الجماهير العربية في تجربتها الحالية مكان للحزب الطليعي والمصالح الطبقية والفعل النقابي. ولن يحصل ذلك إلا بعد التصادم الفعلي مع السلطات القائمة التي ما زالت تمثّل حاجة حياتية يومية عند الجماهير، بالرغم من استعجال المثقفين لإبراز تناقض غير موجود إلا في أذهانهم، بين هذه السلطات ومصالح الجماهير. وما موضوع الفساد المالي والإداري داخل مؤسساتنا الرسمية العربية، إلا خير دليل على تقاطع مصالح السلطة الفاسدة مع عقلية الجماهير الفاسدة في تقاسم الجبنة «العامة» عن طريق الاحتيال والنهب من كلا الجانبين المستفيدين من صيانة هذا الوضع وديمومته حتى في أدقّ تفاصيله.

علينا الاعتراف بأن الجماهير العربية لا تستطيع أن تستثمر وتراكم في وقوفها على أطلال الفتوحات الغابرة


وبرأينا، إن رصد التركيبة النفسية الاجتماعية للجماهير العربية في حاضر حركتها، يصل بنا إلى إخراج مكوناتها الأساسية التالية:
1 ــ الدفاع عن السلطة القائمة بما تشكله من امتداد لهذيان تاريخي يمثل نوعاً من الدفاع عن الذات العربية المتخلفة والخوف من التغيير. وللمقارنة، يوجد فارق كبير في الدفاع عن الأنظمة الملكية عندنا مع دفاع الإنكليز، مثلاً، عن نظامهم الملكي. فهناك، تمثّل الملكية مجد بريطانيا العظمى وطموحها عبر القرون الأخيرة، بينما لا تمثّل الملكية في بلادنا سوى تقطيع أوصال تاريخنا العربي المشترك مهما كانت حجج الانتماء إلى سلالة دينية أو قبلية كبيرة. والهذيان يُعيد نفسه عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السلطة الدينية، أو عن العائلة وهي الضمانة الأقوى عند الشعوب العربية والحساب والعقاب داخلها أقوى من أي قانون مدني.
يستحضرني مثال فاضح على هذه الاستماتة في الدفاع عن السلطة: فلقد جاء قسم كبير من القاعدة الجماهيرية إلى أحد كبار السياسيين في لبنان، إبان الحرب الأهلية، يطلبون منه السلاح للدفاع عمّا يُمثّله أمام أعينهم من سلطة سياسية وعائلية ومذهبية. ولمّا رفض هذا المسؤول السياسي، ولأسباب حضارية، حمل السلاح والاقتتال الأهلي، تحوّلت هذه الجماهير إلى الميليشيات التي تُمثّل تطلعاتها في التزمُّت والتسلُّط السياسي والمذهبي.
2 ــ وكبدائية التزمُّت في الدفاع عمّا هو قائم، فإن الإنسان العربي يعاني من بدائية ردة الفعل الغرائزية على المستوى النفسي، ما يعكس ردود فعل انفعالية وارتجالية أو لا مبالية على المستوى الاجتماعي. هذه السمة النفسية للإنسان العربي، تجعل من الإيديولوجيا والتحرّكات الجماهيرية والشعارات المطروحة، لا تعادل سوى طرابيش توضع على رأس هذه الجماهير في هذا القطر العربي، فتخرجها إلى الشارع ثم تُرفع فتعود إلى بيوتها من دون أن يحكم مسارها أي معيار ديالكتيكي بالمعنى التوظيفي السياسي: فكيف خرجت الجماهير العربية، أخيراً، إلى الشوارع (تحت مسمّيات مختلفة وجذّابة)؟ وكيف، ولماذا، عادت إلى منازلها ولم يتحقق أي تغيير فيما نزلت إلى الشارع من أجله؟
هذه الغرائزية الجماهيرية يُعزّزها نموذج القائد السياسي العربي، الذي يتمتع بالمواصفات نفسها: فهو وصل إلى السلطة بطريقة مرتجلة، وليس بالتأسيس على ثوابت العمل السياسي كما هي الحال مثلاً في أوروبا الديمقراطية، أو وصل بطريقة الانفعال الاجتماعي كحال النماذج القيادية المنفوخة بفعل النفط وتوابعه المالية. لا يهم كيف ومن أين أتى ومن أتى به، بل المهم أن يتحلّى بصفات الجماهير ذاتها، ويعكس شخصيتها الاجتماعية في أحلى تجلياتها أي الصورة القيادية.
3 ــ المكوّنة الأخيرة للنفسية الاجتماعية للجماهير العربية، هي انعدام الأفق للمستقبل، وبالتالي اللا ــ إنتاجية والخمول وانتظار كل شيء من الخارج. فلا تخطيط سياسياً أو اجتماعياً، لا من قبل السلطات السياسية والدينية أو العائلية، ولا من قبل الجماهير المتقوقعة داخل أوضاعها مرتاحة لما هي عليه بفقرها وفسادها وفوضاها وعدم إنتاجيتها. فهي تريد السيارة الجاهزة المكيّفة، لا يهمّها من أين وكم كان جهد العمل والمهندس والرأسمال الغربي لإنتاجها، تريد التلفون النقّال وتتغاوى به وبتطبيقاته، ولو لم تشارك في صنع أي قطعة منه، تريد آخر ابتكارات الحاسوب من دون خجل.
وما كلّ هذه الصور إلا أحد أشكال التعبير عن الانهيار النفسي والاجتماعي للمجتمع العربي، يتجلّى في لامبالاتها وانعدام إنتاجياتها، ما يجعلها تتعلّق بالسطة القائمة لتحمي نفسها. وبالتالي، فإن قائدها هو نموذجها الذي تجد فيه، عبر النظام الحاكم، خير صورة معبّرة عن عوارضها المرضية هذه، وهي مستعدة لتخرج إلى الشارع لحمايته من أزماته، مستعملة الطريق والشعارات التي يرسمها لها. وما عدا ذلك، فهو إسقاطات مثقفين وتذمُّر بعض المتخمين الأثرياء الذين يخلطون ما بين الأحلام والواقع، ويضطرون بسبب انفضام شخصيتهم الاجتماعية لابتداع نماذج واهية، كالحزب الطليعي والإيديولوجيا الشعبية، بينما الجماهير تتجمّع مع أنظمتها داخل الخصي التاريخي المزمن.

*طبيب لبناني أخصّائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا