قبل اندلاع الأزمة السورية، كانت الأمور مختلفة تماماً على صعيد العلاقة بين سوريا وتركيا. تحت شعار تصفير المشاكل مع الجيران والمحيط المجاور لتركيا، اندفعت هذه الأخيرة بسياسة انفتاح نحو سوريا. كانت الزيارت تتكرّر بين أعلى هرم السلطات في كلا البلدين بمعدّلات شهرية أحياناً. شُكلت، حينها، لجنة حوار وتنسيق استراتيجي لتطوير العلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية كافة بين البلدَين، أصبحت خلالها سوريا بوابة تركيا للعالم العربي. تُرجمت العديد من المسلسلات التركية إلى اللغة العربية، بمساعدة ومشاركة سورية. وهكذا دخلت تركيا إلى كلّ بيت عربي في عقول وقلوب المشاهدين، ضمن خطة ثقافية مشتركة كانت تهدف لدفع المزيد من التقارب الثقافي، بينما كان الأهمّ نقل المشهد في الوعي الجمعي، من الصورة السلبية للعلاقات العربية ــ التركية بسبب رواسب تاريخية تتعلّق بالحقبة العثمانية في العالم العربي. كذلك، تطوّرت السياحة والتبادل التجاري بين سوريا وتركيا خاصة، وبين تركيا والدول العربية عامّة وعبر سوريا إلى مستويات غير مسبوقة.قبل الأحداث وتفجير الوضع، وصل حجم تجارة الترانزيت عبر الأراضي السورية نحو الدول العربية، وخصوصاً الأردن ودول الخليج مجتمعة، إلى ما يقارب العشرين مليار دولار سنوياً. فقدت تركيا الجزء الأكبر من هذا الحجم التبادليّ، بسبب إغلاق الحدود مع سوريا، وتوقّف حركة الترانزيت.
وتحوّل الانفتاح الثقافي والسياسي إلى فرقة وعداوة، ليس فقط بين أكثرية السوريين والأتراك، بل مع معظم شعوب المنطقة التي وجدت في السياسة التركية اعتداء على بلد عربي، وجريمة لا تُغتفر أدّت إلى زعزعة الأمن الإقليمي وإلى تدمير ثروات المنطقة وحضارتها، وتوجيه ضربة كبيرة لنموّها الاجتماعي والاقتصادي. لم تكن هذه الخسائر محصورة في الساحة السورية والعراقية ودول الجوار، التي تأثرت سلباً بهذه السياسات، بل عمّت الآثار السلبية الاقتصاد التركي، والدور التركي، الذي كان يُنظر إليه كمثال في مجال التنمية السياسية والاقتصادية ومدّ الجسور مع دول الجوار وفي ما بينها، بحيث تحوّلت تركيا إلى أوّل متّهم فعليّ في عملية زعزعة الأمن وتدمير مقوّمات البقاء والنمو لدول المنطقة. هكذا، حوّلت تركيا نفسها من شريك إيجابيّ في التنمية السياسيّة والاقتصاديّة وتثبيت الأمن الإقليمي، إلى موتّر ومفجّر للأوضاع في أكثر من بلد، وخصوصاً في سوريا، وأصبحت عدوّاً يُشار إليه بوضوح نتيجة هذه السياسات.
لم تأتِ نتيجة هذا الصراع الذي دار في الإقليم، لصالح تركيا، مع صمود محور المقاومة مع سوريا، وهو المحور الذي كان السبب الأساس في تحييد كبير للدور الأميركي في المنطقة. هذا الدور المتراجع للولايات المتّحدة التي حاولت تركيا أن تملأه، من خلال محاولة إعادة رسم موازين القوى والتدخّل في صياغة طبيعة الحكومات وسياساتها. وهذا المحور الذي أفشل سياسة أميركا، أفشل أيضاً السياسة التركية وتصدّى لها بقوة، ليس لأنه كان ضدّ مصالح تركيا الدولة والشعب، ولكن لأنّه كان يعلم يقيناً أنّ المشروع التركي هو بمشاركة ومباركة الإدارة الأميركية، ولو لبس لبوس الإسلام السياسي. مع فشل المشاريع التركية التي كانت تسعى للسيطرة والهيمنة وتنصيب أتباعها على رأس سلطات بعض بلدان المنطقة، لم يعد أمام أنقرة إلّا الذهاب إلى سيناريو وضيع وخاطئ آخر، وهو اللجوء إلى إيجاد أسباب وأدوات تسمح لها أن تكون شريكاً بالقوة والتأثير بالنفوذ، في مستقبل سوريا والعراق ودول الجوار، عبر طرح إعادة إحياء مشروع «ميثاق ملي»، الذي حدّد حدوداً للدولة التركية من خلال مجلس تركي كان قد رسم هذه الحدود التي كانت تضمّ إلى تركيا الحالية، كلّاً من كركوك والموصل في العراق، وحلب وإدلب وشريط من المدن والقرى على طول الحدود السورية الحالية.
لا يمكن لتركيا أن تكون رائدة مشروع الكونفدرالية والمبادِرة لتحقيقه


تعتقد الحكومة التركية، وخصوصاً الرئيس رجب طيب أوردوغان، أنه من خلال إقامة ما يسمّيه منطقة آمنة في الشمال السوري، يُجري فيها عملية تطهير ديموغرافي ويعيد فيها إسكان مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، فضلاً عن إعطاء العديد منهم الجنسية التركية، ومدّ يد الإدارة والخدمات إلى داخل هذه المنطقة، أنه يحجز لنفسه موقعاً مؤثراً في المستقبل السوري، ويعيد مدّ نفوذه إلى داخل الحدود السورية ضمن خطوط حدود الميثاق الملّي. قد تُطرح هذه الطموحات أيضاً على العراق مستقبلاً، مع استمرار ممارسة تركيا لسياستها في التدخل وإبقاء قوات لها في الداخل العراقي، والبحث عن شركاء لتأمين تنفيذ سياستها، تحت عنوان تنفيذ هذا الميثاق الذي يعود لحدود رسمتها تركيا أتاتورك، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
لن تؤسّس هذه السياسة إلى سلم إقليمي، ولا إلى سياسة تنمية ومشاركة وإعادة الترانزيت، عبر سوريا ولا حتى عبر العراق، بل ستؤدي إلى استمرار الصراعات الأمنية، وإلى المزيد من التفتيت في المجتمعات، وإلى مزيد من التراجع في معدلات النمو والتقدم. مشروع ميثاق ملي باختصار هو مشروع فتح عشّ الدبابير على صراعات وحروب تبدأ ولا تنتهي.
في المقابل، هناك خيارٌ آخر أمام تركيا. وهو خيار التشبيك والشراكة عوض خيار الاشتباك والصراع. هذا الخيار يسعى للعودة تدريجياً، من خلال المساهمة في إبجاد الحلول للصراعات المسلّحة واحترام سيادة الدول، والانتقال من مرحلة الاشتباك إلى مرحلة إعادة التشبيك، وإصدار إعلانات سياسية للنوايا الحسنة بضرورة احترام حُسن الجوار وسيادة الدول ووحدة أراضيها وأمنها الاجتماعي، وأهمية التكامل الاقتصادي في المنطقة للدفع بعملية التنمية المستدامة لمصلحة كل شعوب المنطقة.
يجب أن يكون هذا التوجّه وهذه السياسة الإيجابية، هدفهما مؤطر بإقامة كونفدرالية إقليمية تجمع كلّاً من تركيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان والأردن، وتضع فلسطين ضمن مهامها الإقليمية والسياسية، لكي تنقل المنطقة من حال الاشتباك إلى حال التشبيك. وقد سبق أن أقيمت منطقة تجارة حرة بين كلّ من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، يتمّ فيها تبادل البضائع وتسهيل سفر الأفراد وحركة الاستثمارات وتسمح بالتملك لمواطني هذه المنطقة في دولها المشاركة، وقد استُثني يومها العراق، الذي كان يرزح تحت الفصل السابع الذي لم يكن يخوّله عقد اتفاقيات دولية. أمّا استثناء إيران، فقد تمّ يومها بإرادة ذاتية وقرار تركيين، كان عنوانهما بداية القراءة الخاطئة لموازين القوى، ولأهمية الدور الإيراني المهم في دفع حركة التحرّر الوطني في الإقليم، ودعم خيار المقاومة في فلسطين ولبنان والتشبيك الإقليمي بكلّ أبعاده، حيث كان الطرف التركي يقولها بالفم الملآن: «لقد حكمنا هذه المنطقة لأكثر من أربعمئة عام، ويجب أن تبقى إيران داخل حدودها، ونحن على استعداد لعقد اتفاقيات ثنائية بين تركيا وإيران، ولكن لا يجب أن تدخل في المجموعة الرباعية».
الكونفدرالية تحدّد مصالح الأمن الإقليمي المشترك، وتحدّ من تدخل الدول الأجنبية والغرب خاصة، وتؤمّن التحرّر الوطني للإقليم من استمرار الهيمنة والنفوذ الغربيين. وهذه الكونفدرالية تضع سياسة مشتركة لإدارة الموارد الطبيعية، من مياه ونفط وغاز وسياسة زراعية وصناعية متكاملة متعاونة، تعود بالنفع على الجميع. وهي تنفّذ الفضاء الاقتصادي المشترك Geoeconomic، كما تؤمّن التعاون العلمي والثقافي، مرتكزة إلى المخزون الثقافي والديني المتنوع والمشترك للإقليم، ما يعني أيضاً أنها تنفّذ الفضاء الثقافي المشترك Geoculture. لا يمكن لتركيا أن تكون رائدة هذا المشروع والمبادِرة لتحقيقه، حتى لو وافقت عليه، لأنها اليوم تقف في موقع الخصم والمعتدي على عدّة دول في الإقليم. إيران أو العراق يمكن لهما أن يكونا الحاملَين الأساسيين لهذا المشروع. إيران بسبب علاقاتها المتوازنة والإيجابية مع كل دول الإقليم وخصوصاً تركيا، وهي التي تقود أساساً حركة التحرر الوطني من النفوذ الغربي من خلال تصدّرها لمحور المقاومة، والعراق الدولة المتضرّرة الأولى من سياسات الصراع الإقليمي والدولي على أراضيه، والذي من مصلحته العليا أن يكون جسراً للتشبيك بين دول الإقليم، لا ساحة لصراع دوله. العراق بحاجة ماسة إلى أن يتحوّل إلى ساحة اللقاء والتشبيك، لإدارة ذكية للموارد الطبيعية من مياه وطاقة وإحياء للتبادل الزراعي والصناعي والتكامل بين الأسواق وعملية الإنتاج، لأنه من أكثر المتضررين من انهيار بنيته التحتية ودائرة الإنتاج فيه.
تركيا اليوم بين خيارين، إما أن تختار مشروعها المفجّر للمزيد من الأزمات في محاولتها لتنفيذ حدود ميثاق ملّي، أو أن تختار مشروع «الكونفدرالية المشرقية»، التي تفتح لها أبواب أسواق المنطقة كلها، وتؤمّن لها حلّاً للمسألة الكردية التي سيكون الأكراد، بانتشارهم في أكثر من دولة من دول الإقليم، من أول المستفيدين من هذه الكونفدرالية التي تبني ديناميكية توحيد المُجزّأ وليس تفتيت المفتّت، فتفتح للأكراد الفضاء الإقليمي كلّه بعدما كان حلم البعض منهم تجزئة المُجزّأ للوصول إلى كيانية تحاصر نفسها بعداوة جوارها المباشر.
فهل تختار تركيا خيار المزيد من التفجير أو خيار مدّ الجسور وعودة التشبيك ووحدة الإقليم، في اتّحاد كونفدرالي مشرقي ستكون حتماً هي واحدة من لاعبيه الأساسيين؟
* منسق شبكة أمان للدراسات الاستراتيجية