في بلد لم يكن يرى فيه شعبه السلاح إلا في الأفلام الحركية أو في النزاعات الدول البعيدة، تحوّل في ظرف وجيز إلى مستودع ضخم لشتى أنواع الأسلحة والمتفجرات ولبؤرة لتصنيع المقاتلين وتصديرهم. إنها تونس التي لم يكن يهتم بها الإعلام الدولي من قبل، بسبب افتقارها إلى العمق الاستراتيجي الذي تبحث عنه الدول العظمى، ولأن التونسيين عُرفوا بطبائعهم المسالمة والمهادنة التي تفضل الهدوء على التمرد، السكينة على الانفجار، الاستقرار على الاحتجاج. فها هم على حين غفلة عن «المجتمع الدولي» المهتم بدول الثروات المنجمية والطاقية، تمكن التونسيون من التخلص من نظام سياسي مستبد لم يشفع له الحجم الضخم من مساندة ذلك «المجتمع الدولي» لسياسته في قمع حرية الناس وفي سرقة خيراتهم.
شرارة الربيع الديموقراطي أصابت دولاً عربية أخرى كانت تعيش هي الأخرى في شتاء قاس من الغطرسة والطغيان. لكن اعتبارات دولية واقليمية حوّلت شرارة ذلك الربيع إلى ريح صرصر عاتية أثارت الفوضى وأسقطت بلدان المنطقة في هاوية الاقتتال والاحتراب. وكادت تلك الريح تعصف بواحة الديموقراطية في صحراء الاستبداد العربي (باي باي إسرائيل) لولا حكمة قادتها السياسيين ولو لا فرادة المجتمع التونسي واستثنائيته.
ليس في الأمر غرور أو تكبر، بل كل ما في الحكاية أن للتونسيين رئيساً فذّاً اسمه الحبيب بورقيبة كان له الفضل في نشر الحداثة، قسراً، على التونسيين، وها نحن نجني ثمارها اليوم. حداثة توقف انتشارها مع تولي الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الحكم الذي لم يحمل من مشروع، سوى ما يوفر له ملايين من الدينارات له ولأفراد عائلته، فلم يجد أي إحراج في نشر التصحر الثقافي وتخريب المناهج التعليمية وتشجيع الفكر الخرافي والغيبي، وهي الأرضية المفضلة لنشأة التيارات المتطرفة وبروز التعصب والتشدد.
وبمجرد انبلاج عصر الحرية السياسية، اكتشف التونسيون ما حاول نظامه السياسي السابق إخفاءه. مجموعات سياسية وايديولوجية ترفض الجميع وترميهم بمختلف أنواع الإقصاء؛ ولعل التكفير إحدى أبرز علاماتها.
التكفيريون الجدد في تونس هم باختصار: مجموعة من اللصوص ومرتكبي الجرائم انخرطوا بسرعة في عدد من الفصائل التي تزعم الحديث باسم الإسلام وحمايته، مقابل قليل من المال وادماج اجتماعي سلس و«صك توبة» عن الآثام التي ارتكبوها في ماضي حياتهم.
وفجأة، أصبحت لكل مدينة أو قرية تكفيريوها (يسميهم البعض سلفيين حتى يسود الاعتقاد أننا نتحدث عن ناس لطفاء وظرفاء لا يُعادون المجتمع، وكل ذنبهم أنهم يريدون العودة بالناس إلى مئات السنين إلى الخلف!)، يحتلون المساجد ويفرضون أتباعهم على إمامتها، وينظمون خيم الدعوة في المساحات العامة. ألا تنسحب الحرية على الجميع؟ طيب، ماذا عن الحركات الصهيونية التي تقتل العرب في فلسطين؟ ما الضير لو سمحنا لهم بحرية النشاط هم أيضاً؟ لن يكون الأمر مختلف - إلا شكلاً - بين مجموعات أيديولوجية تؤسس نظريتها على نفي الآخر الذي يبدأ فكرياً وينتهي عسكرياً أو إرهابياً، وما عدا ذلك، فهو تباينات لا تشوش على الجوهر المشترك الذي يوحد الحركات التكفيرية والحركات الصهيونية؛ القتل!
وبالرغم ذلك، سُمح للفصائل الدينية المتشددة بحرية التحرك والنشاط والدعاية، وتمكنت في ظرف أشهر قليلة من اكتساب أنصار كثر. تزامن ذلك مع تزايد دعوات عدد من الشخصيات (يسميهم مريدوهم شيوخاً) من أجل الالتحاق بصف المحاربين في سوريا. قلنا شيوخ؟! أبو يعرب المرزوقي (الباحث في الفلسفة، المفكر الفيلسوف في عيون أتباع حركة النهضة [فيلسوف دون نظريات فلسفية، هذا لا يحدث إلا في مجتمعاتنا]) لم يجد حرجاً من الدعوة إلى «الجهاد» في سوريا، قائلاً قولةً شُهرت: «أخجل ممن يعتبر جهاد الشباب التونسي في سوريا جرماً».
ولا شك في أن تكفيريي تونس يأبهون لتصريح أكاديمي لا يجمعه بالمجتمع سوى المساحات صغيرة المكان التي توفره له مدارج التدريس بالجامعات.
فيكفيهم «شيوخ» لا يلمون من الدين سوى قليل من القرآن وبضع آيات نبوية وجيوب ممتلئة بالمال سهل التوزيع، أعطوا إشارة الانطلاق نحو أرض الجهاد في بلاد الشام، حتى تنتعش خطوط الطيران المتوجهة إلى تركيا، القبلة الأولى للمجاهدين الجدد قبل تسللهم إلى الأرض السورية.
لنعد إلى تصريح أبي يعرب المرزوقي. هو مهم لأنّه صدر عن مسؤول عالي الرتبة، وهو الذي يشغل منصب عضو المجلس التأسيسي عن حركة النهضة (قبل أن يقدم استقالته). وهو المثقف - العضوي الذي انخرط في الشأن العام بعد سقوط المئات من الشهداء في ثورة وفّرت له الثورة الحرية في طبق من ذهب، والذي لم يرَ أي مانع في التغرير بشبان والالقاء بهم في دوامة صراع لا دخل فيهم من قريب ولا من بعيد. وهو أيضاً مهم لأنه تنزل في سياق تصور شامل لحزب كان يحكم في البلاد، تواطأ في عملية تسفير الآلاف من التونسيين للانخراط في حرب ليست حربهم. ألم يصرّح الزعيم النهضوي الحبيب اللوز قائلاً: «لو كنت شاباً لذهبت للجهاد في سوريا»؟
تقارير إعلامية شبه موثوق في صحتها، أشارت إلى وجود نحو 4000 تونسي على الأراضي السورية ينشطون في مختلف الفصائل الدينية المتشددة. منهم عدد قليل ممن تأثروا بالخطاب الديني المروج عبر مواقع الإنترنت، ومنهم الغالبية الكبرى التي جرى تأطير أفرادها والسيطرة على عقولهم في داخل الجوامع التونسية. وبعد أشهر عدة من القتال الضاري في سوريا، كيف سيكون مصير هؤلاء الذين تدربوا على مختلف تكتيكات حرب الشوارع، وتمرسوا على حمل الأسلحة وصناعة المتفجرات؟ محاربون مؤدلجون وفق عقيدة دغمائية تُعادي الأخرين تحت مسميات عقائدية يمتلكون قدرات قتالية متقدمة وخبرات ميدانية معمقة يُنتظر عودتهم إلى تونس في قادم الأسابيع.
إنّ ما تعيشه تونس حالياً هو سيناريو مشابه لما عاشته دولة الجزائر بعد انتهاء الحرب الأفغانية في بداية التسعينيات. قوافل من المجاهدين العرب الجزائريين عادوا إلى بلدهم لنصرة إخوانهم في جبهة الإسلامية للإنقاذ التي دخلت في حرب ضد النظام الجزائري آنذاك. كتب أيمن صبري فرج في كتابه «ذكريات عربي أفغاني أبو جعفر المصري القندهاري»، واصفاً المجاهدين العرب في أفغانستان بقوله إنهم «رجال أيديهم على الزناد دوماً، يستيقظون آناء الفجر ليتلمسوا أطراف الشهادة، يقاتلون وهم مبتوري الأطراف ومجبري الأذرع، ينالون من الطعام أقله وينتصرون للإسلام ولو نقص سلاحهم، ليس لهم غير الجهاد من غاية سوى تعلم الدين وتلاوة القرآن، ولا يمكن الحياة أن تغريهم بمتعها حتى أن أحدهم يترك عروسه ليلة الزفاف ليلبي نداء الدفاع عن ديار الإسلام بينما الآخر لا يأتيه النوم إلا بعد أن يعود من ميادين الجهاد ضد الغزاة الشيوعيين». الجزائريون من بينهم قتلوا ما لا يقل عن 150 ألف جزائري سقطوا خلال الصراع الدامي في عشرية التسعينيات من القرن الماضي. وأمثال هؤلاء اليوم يشاركون في الحرب في سوريا. من ضمنهم الآلاف من التونسيين يتأهبون للرجوع إلى تونس بعد التطورات الحاصلة أخيراً. فلم تعد تونس أرض دعوة بعد حظر التنظيم السلفي الأبرز «أنصار الشريعة» عن النشاط. وقوات الأمن التونسي صُنفت ضمن الأعداء «الطواغيت» الواجب محاربتهم. وتتحدث الأنباء الواردة من هناك عن استعدادات حثيثة من طرف قيادات تونسية في التنظيمات المحاربة السورية للتحضير لمخططات تستهدف النظام التونسي.
تجربة تونس الفريدة في الديموقراطية مهددة جدياً من طرف «المجاهدين التوانسة» في سوريا. والجيش التونسي الذي استعصى عليه القضاء على بضع عشرات من الإرهابيين المتمركزين منذ أكثر من نصف سنة تقريباً على مساحة جبلية لا تتجاوز بضع مئات الهكتارات، لن يقدر على مواجهة فيلق شديد التدريب بمجرد حلوله في تونس. وحركة النهضة ستحتل مقعد المتفرج المسرور بصراع ستخرج هي في المنتصر الأبرز. إنها فترة سوداء ستنتظر تونس في المستقبل ما لم تعد مختلف الأجهزة الحكومية بالتنسيق مع السلطات التركية والليبية والسورية للتصدي للهجرة المعاكسة، ووضع خطة محكمة الإعداد لدرء الخطر المنتظر من عودة هؤلاء إلى أرض الوطن.
* صحافي تونسي