ثماني سنوات انقضت على «وثيقة التفاهم» الشهيرة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، دليل آخر أن «المستحيل» ممكن في السياسة. تتشارك القوتان شعوراً عارماً بالعنفوان الناجم عن مواجهة تاريخية دامية مع قوتين متخاصمتين متفوقتين من ناحية القوة المادية، وتقعان على طرفي الحدود. عنفوان حزب الله مجبول بانتصار تاريخي على «إسرائيل»، التي «حالفها المسيحيون» يوماً في لبنان، وعنفوان العونيين مختلط بالتحدي والخيبة معاً من أثر المواجهة مع السوريين حلفاء «المسلمين» وحزب الله.
بالنسبة لبيئة حزب الله، كان المسيحيون كلهم هم «اليمين المسيحي» الذي حالف «إسرائيل»، وبالنسبة لبيئة العونيين، كان حزب الله مجرد «أداة» للنظام السوري. كان العونيون يهاجمون حزب الله لكونه حليفاً لسوريا، ولكن من دون تحييد دوره المقاوم، فيما كان حزب الله يقارب الموقف العوني العدائي كونه استمراراً لسياسة المسيحيين المؤيدة للغرب وليس بسبب العداء مع حليفه السوري.
جملة عوامل موازية ساهمت في تغذية التوتر مدة عقد ونصف عقد بين الطرفين: التصورات المسبقة، غياب التجربة المشتركة، انكفاء حزب الله عن السياسات المحلية، تغييب المسيحيين عن الحياة السياسية، الهواجس الثقافية، ضعف الاحتكاك الشعبي ما عدا بعض التفاعل النقابي، وغياب مصلحة سياسية _ انتخابية مشتركة للتعاون الثنائي. أنهى الخروج السوري من لبنان جوهر الخلاف بين التيار وحزب الله، فيما عاد المسيحيون الى المعادلة السياسية واضطر حزب الله إلى الانخراط في السياسات المحلية بالتزامن مع بروز مناخ «سني» متوتر تجاه حزب الله، وإصرار تيار المستقبل على حفظ هيمنته على جزء أساسي من قوة المسيحيين السياسية، كلها متغيرات شكلت أرضية موضوعية لهذا التفاهم.
دفع تقاطع المصالح بين الطرفين قيادتهما إلى اتخاذ أكثر خطواتهما جرأة وانفتاحاً. ضمِن حزب الله شريكاً مسيحياً ذا قدرة تمثيلية وازنة، بما يعزز «الشرعية الوطنية» الحاضنة للمقاومة ويؤمن لها ثقلاً سياسياً في الاستحقاقات الانتخابية في ذروة استهداف حزب الله سياسياً وثقافياً وعسكرياً. وبما لا يقل أهميةً، ساهم التفاهم في إبراز صورة حزب الله كقوة سياسية منفتحة، عقلانية، مرنة، تقرّ بالتنوع، وبعيدة النظر بعكس ما حاولت قوى 14 آذار تقديمه عن صورة الحزب كقوة ميليشيوية _ عسكرية، إلغائية، تابعة لا تملك أجندة وطنية، ومصابة بالعمى الأيديولوجي. من ناحية العونيين، المكسب الأساسي في تأمين شريك سياسي داخلي ذي قوة مؤثرة، وحليف ذي صدقية، غير ملوث بالفساد السلطوي، ولديه مصلحة في تحديث النظام السياسي القائم وتطويره.
أين تفترق القوتان؟ الشرخ الأساسي قائم على ثنائية السياسة الداخلية _ المقاومة والحسابات الاستراتيجية، أو ثنائية الداخلي _ الخارجي، حيث الأولوية المطلقة عند العونيين هي الحسابات الداخلية وإعادة بناء وجود المسيحيين في النظام السياسي من ضمن رؤية «إصلاحية»، فيما تتفوق لدى حزب الله حسابات المقاومة والسياسات الاستراتيجية مقابل تقديم تنازلات واسعة في اللعبة السياسية الداخلية بما يمنعه من مواكبة العونيين في بعض معاركهم الداخلية. الفارق الثاني أنه بالرغم من أن كلا القوتين تعتبران من قوى «التغيير»، أي لها مصلحة بتغيير قواعد النظام القائم وإصلاحه، إلا أن حزب الله ليس جاهزاً لخوض هذه المعركة أو تحمل تكاليفها.
بالتأكيد، يبقى الاختلاف «الثقافي» بين مجتمعي القوتين حاضراً وموثراً، وهو ينعكس في نظرة كل منهما إلى لبنان ودوره وعلاقته بالخارج وحدود تفاعله معه، إلا أنه اختلاف قابل للتعايش والمساكنة ولا سيما مع نضوج ورسوخ التجربة المتبادلة التي تعزز الثقة والاحترام والتعلم والتفهم بين الفريقين. ينظر العونيون بعين التقدير والإعجاب الى نموذج حزب الله «القوي، ذي الهيبة، الصادق الوفي، والنظيف»، ولا سيما في ظل وقوف حزب الله بمواجهة الموجة التكفيرية التي دفع المسيحيون بسببها الكثير من دمائهم ووجودهم خلال السنوات الماضية. فيما يكنّ مؤيدو حزب الله تقديراً عالياً لالتزام التيار الوطني الحر معهم في لحظة الاختبار عام 2006، وإعجاباً بأدائه الحكومي ولا سيما في وزارة الطاقة، ومواجهته البرلمانية في الشأن المالي مع تيار المستقبل. وأيضاً، يمكن ملاحظة التفاوت في المصالح الطبقية التي يمثلها كل من التيار (حضور واسع لرجال الأعمال وقطاعات الخدمات والصناعة) وحزب الله (شريحة أغلبها ريفية وشبه مدنية)، والذي يُنتج أحياناً افتراقاً ظرفياً تشريعياً وحكومياً. يستطيع التيار وحزب الله التعلم كثيراً من تجربة الآخر، حزب الله يخوض طور «النضوج» المحلي، والتيار يصبح أكثر إدراكاً للتفاعل الخارجي _ المحلي. حزب الله «الواقعي» بحاجة إلى التزود من طموحات التيار «الإصلاحية»، والتيار المندفع «إلى التغيير» بحاجة إلى بعض «واقعية» حزب الله. الاختبار الحقيقي بين الطرفين سيبقى في المدى المنظور هو مدى تحمل وتقبل التيار لسياسات الحزب وحساباته «ما فوق الوطنية»، في مقابل مدى تقبل حزب الله وتعايشه مع حسابات التيار «السلطوية _ المحلية» المحضة. يحرز الجانبان تقدماً واضحاً في مسار بناء معادلة لحل هذه الإشكالية أو التخفيف منها، وهذا ما أثبتته مواكبة التيار لدور حزب الله في سوريا، وموقف حزب الله تجاه التيار خلال عملية تشكيل حكومة تمام سلام الحالية.
«التفاهم» سيبقى قائماً ومتماسكاً على المدى المنظور بالتأكيد، والفريقان حريصان على استكشاف أي مجالات إضافية للتعاون وإن بهدوء وتدرج وثبات. التوترات الظرفية ستبقى حاضرة، ولكن آليات معالجتها بين الطرفين تبدو فاعلة، وتأطير هذا التفاعل وتعميق النقاش المشترك والتفصيلي في قضايا النظام والسلطة لا يزال ضرورياً بين المتخصصين من كلا الطرفين لبلورة مشاريع ورؤى مشتركة. وفي الوقت الذي تطورت فيه التجربة السياسية _ النقابية _ الطلابية بين الفريقين، لا يزال التفاعل الاجتماعي بحاجة إلى التزخيم بالنظر إلى المحاولات الحثيثة والمتواصلة لتشويه صورة حزب الله داخل البيئة المسيحية بالتحديد. يمكن أن يشتمل هذا التزخيم على برامج لزيارات شعبية متبادلة، منتديات تخصصية مشتركة، وإطلالات قيادية متبادلة ومشتركة على جمهور الآخر.
بالمحصلة، حقق ميشال عون «معجزة» بقدرته على بناء «جسر» كهذا بين شريحة مسيحية واسعة وحزب الله، متجاوزاً أعباء التاريخ وترسّباته الدفينة. المعجزة هنا ليست التحالف مع طرف إسلامي، بل كون هذا الطرف يقع في قلب الصراع مع الولايات المتحدة والأوروبيين. بالمقابل يُمكن اعتبار خطوة حزب الله تجاه العونيين «أذكى» خطواته السياسية وأكثرها جرأة على المستوى المحلي. لا يمكن الإنكار أن خطوة كهذه ما كانت لتتم لولا وجود قيادة تتمتع بشرعية استثنائية لدى كلا الطرفين، استثنائية إلى درجة القدرة على «تجسير» هوة بهذا العمق والاتساع. «التفاهم» السياسي بين حزب الله والتيار يثبت أن السياسة ليست فقط «فن الممكن»، بل أيضاً «فن جعل المستحيل يبدو ممكناً».
* باحث سياسي