رغم إبعاده التعسفي عن القيادة وعمله في الترجمة، حافظ فرج الله الحلو على جوهر موقفه من القضايا القومية التحررية. هكذا، ما إن أعلنت دولة الوحدة، حتى بادر إلى كتابة افتتاحية في جريدة «النور» بعنوان «أهلاً بعبد الناصر في سوريا». أثار ذلك حنق خالد بكداش الذي أُرغم على إعادة فرج الله إلى دوره القيادي، بضغط الحزب والمهمات السياسية والشعبية، ومنها معركة خالد نفسه الانتخابية، حين ترشح نائباً عن دمشق وفاز بالمقعد بدعم كبير من فرج الله الحلو ونقولا شاوي اللذين توليا تنظيم حملاته الانتخابية وإدارتها وقيادتها. لكن بكداش ما لبث، دون قرار قيادي، أن أشهر معارضته للوحدة، واضعاً اشتراطات ظاهرها حق ومحتواها مواصلة سياسة تعتبر العناوين القومية جميعها شأناً بورجوازياً متعارضاً مع «الأممية» والاشتـراكية! هذا الخلاف الجديد بشأن الوحدة، بعد قرار التقسيم، ثمرة تعارض نهجين مثّلهما كل من خالد بكداش وفرج الله الحلو. تناولنا في المقالة الأولى الموقف الاستقلالي لفرج حيال المركز الأممي الذي كان يمارس سياسة وضع اليد التنظيمية والوصاية السياسية على الأحزاب الشيوعية، وخصوصاً على قادتها أو معظمهم. مثَّل خالد بكداش، بامتياز، نهجاً ستالينياً واستقوى به لقمع كل معارضة مهما صغُر شأنها. في المقابل، كافح فرج من أجل تكريس نهج مختلف سياسي وتنظيمي. شدَّد في الشق الأول على «نظرية التحرر الوطني» التي كانت تسم المرحلة التاريخية آنذاك. واستناداً إلى ذلك، كان موقفه من سلطة الانتداب ومن نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه، ورفضه لقرار التقسيم. في امتداد ذلك تبنى، في لبنان، شعارات أولوية الاستقلال والسيادة والتحرر من النفوذ الاستعماري والانخراط في مقاومة الانتداب الفرنسي في العهد «الفيشي» خصوصاً. وفي هذا السياق، ودفاعاً عن مطالب الفئات الشعبية وحقوقها، كانت برامج الحزب في الشأنين السياسي والاقتصادي. نذكر أن فؤاد الشمالي، «المؤسس العمالي» للحزب، كان أول من رفع شعار يوم عمل ثماني ساعات، وسعى إلى تأسيس النقابات المستقلة عن أرباب العمل. توجت هذه السياسة بنجاحات كبيرة بقيام حركة نقابية وطنية، كان أبرز قادتها النقابي الشيوعي مصطفى العريس.
تناول فرج في تقريره المذكور آنفاً (1943) المصدر الثاني لقوة الحزب، أي مسألة التنظيم وطابعه الأساسي: «فإذا كان الحزب الشيوعي ديمقراطياً في ميثاقه الوطني وأهدافه التحررية، فهو ديمقراطي أيضاً في داخله... إن وحدة الحزب لا يمكن أن تكون مضمونة إلا بالديمقراطية الداخلية الصحيحة». شدَّد، دون مواربة وكأنه يخاطب بكداش مباشرة وبحضوره، على أن الحزب «لا يقبل وجود (هيئة) أو (زعيم) فرد فوق قانون الحزب العام». قدم مطالعة شاملة تدفع بمقولة «الديمقراطية المركزية» إلى أقصى ممكناتها الديموقراطية لجهة انتخاب الهيئات في كل المستويات، وصدور القرار عن هذه الهيئات الشرعية دون سواها، وممارسة رقابة متبادلة ما بين الهيئات القيادية والقاعدية، وممارسة النقد والنقد الذاتي بشكل حر بالاستناد إلى حق التعبير وحريته وواجب الاستماع الودي إلى الملاحظات المنطلقة، بدورها، من منطلق الحرص لا بغرض التعريض أو التحريض. وانتهى إلى «أن الديمقراطية الداخلية هي الشرط الأساسي لكي تنفذ الأقلية قرارات الأكثرية وتحول دون نشوء الفرق والتكتلات». كرر فرج هنا مرة جديدة، بحضور بكداش أيضاً، أهمية التعامل مع الرفاق بتفهم ورفاقية بعيداً عن التوبيخ والفوقية... وكان قد أدلى بهذه الأفكار في اجتماع قيادي سوري لبناني في دمشق عام 1937 في تقرير شهير هو الآخر!
في السياق نفسه، كان فرج يشدِّد على التثقيف المستند، بالدرجة الأولى، إلى تطوير المعرفة بالنظرية العلمية وبالخطة الحزبية، مؤكداً أن «الشيوعيين لا يستطيعون أن يرفعوا مستواهم النظري والسياسي إذا لم يدرسوا أحوال وطنهم وتاريخ شعبهم... ويفهموا تاريخنا العربي وثقافتنا العربية»... ودافع فرج عن قيام جبهات وطنية لتحقيق الأهداف الكبيرة المرحلية ضد الاستعمار (الانتداب) وضد عملائه ومن أجل تحرير البلاد وإنجاز استقلالها وتطوير اقتصادها وتأمين حقوق شعبها السياسية والاجتماعية. وألحّ دائماً على أن هذه الجبهة مصدر قوة للجميع، وتعبير عن سلامة التوجه، وعن ثقة الحزب بنفسه. ولقد أدى فرج، ممثلاً الحزب الشيوعي، ومستنداً إلى رصيد سياسي وشعبي، دوراً بارزاً في «المؤتمر الوطني اللبناني» الذي قاد، إلى حدٍّ كبير، معركة الاستقلال في عام 1943 إنجازاً واعتراضاً على محاولات باريس ولندن عرقلة تحقيق هذا الهدف المصيري وقمع رموزه وإرهاب مؤيديه.
لطالما شكل فرج الله ونقولا شاوي ثنائياً متعاوناً ومتكاملاً. معاً، ومع آخرين، نهضا بالحزب، فبلغت عضويته في مرحلة الاستقلال أكثر من 18 ألف عضو. حقق كل من القائدين إنجازات مرموقة في حقول السياسة والتنظيم. تحولا قائدين وطنيين شعبيين. دخلا السجون معاً، ومعاً خاضا الانتخابات في لوائح وتحالفات وطنية إلى جانب كبار القادة اللبنانيين. وشملت نجاحاتهما الخارج، وخصوصاً نقولا، الذي من موقعه الصحافي رئيساً لتحرير «صوت الشعب» (أهم الجرائد اللبنانية آنذاك)، شارك في مفاوضات الجلاء لعدة شهور بين باريس ولندن، لهذا استُقبل استقبال القادة الشعبيين الكبار عند عودته إلى لبنان: من الناقورة إلى طرابلس!
حاول بكداش أن يعوق هذا التعاون بين الثنائي. عطّل الهيئات الشرعية. أحلَّ في رئاسة الحزب اللبناني نقولا مكان فرج. لكن نقولا تابع سياسة فرج نفسها، ما دفع بكداش، لاحقاً، إلى إرساله إلى رومانيا مندوباً في مجلة «في سبيل سلم دائم»!
إن منع بروز قادة لبنانيين (وسوريين آخرين) كان همّاً دائماً عند بكداش، وشمل ذلك عشرات كبار المثقفين من لبنان، خصوصاً من أمثال رئيف خوري وسواه!
كان هاجس بكداش الدائم، السيطرة على الحزب الشيوعي السوري اللبناني الموحد. استقوى على ذلك بالدعم السوفياتي بالأممية وأولوياتها في دعم النظام السوفياتي على حساب الأهداف التحررية الوطنية والقومية. وحين كان نضال فرج وأسلوبه ومواقفه تتخذ المزيد من التأييد بما بات يعرف باسم «مدرسة فرج الله»، لم يكن بكداش يتردد في فرض نص في رسالة «سالم» الشهرية بنفسه (!) ينسب فيه إلى فرج تخليه عن هذه المدرسة!
محاولات الشيوعيين اللبنانيين المتكررة للإفلات من هيمنة بكداش وتسلطه وتعسفه بدأت منذ عام 1943، مع تبلور استقلال البلدين وإعلانه. تجددت بإنشاء رئيسين وقيادتين، وإعلان ذلك رسمياً عام 1959، قبيل استشهاد فرج. لكن محاولات الهيمنة استمرت حتى عام 1968 حين عقد المؤتمر الثاني التاريخي للحزب، الذي كان أبواه الفعليان، في التوجهات والبرامج والسلوك، فرج الله الحلو ونقولا شاوي. فضلُ فريق «الشباب» أنه واصل هذه المهمة. كرَّس أكثر مما ابتكر. جذور هذا المؤتمر في تقريري فرج الله لعامي 1937 و1943، وفي نشاط القائدين الكبيرين فرج الله ونقولا شاوي وتعاونهما!
* كاتب وسياسي لبناني

المقال السابق: فرج الله الحلو في ذكرى اغتياله الستين [1/2]