ما ورشة المنامة إلا خطوة عملية أخرى ضمن عدة خطوات قامت بها الإدارة الأميركية لتطبيق «صفقة القرن» التصفوية بعدما اعترفت بسيادة إسرائيل على القدس الموحدة واعتبارها عاصمة أبدية لها ونقل سفارتها الى القدس، وبعدما قامت بقطع مساهماتها المالية عن «الأونروا» لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بالجولان السورية كجزء من إسرائيل. وبعد تصريح السفير الأميركي في إسرائيل أخيراً بحق إسرائيل في ضم أجزاء واسعة لأراضٍ في الضفة الغربية وغور الأردن.إن إملاء تلك الخطوات ووضعها في خانة التطبيق يعتمد أساساً على قبول إسرائيل في العالم العربي من خلال تطبيع العلاقات معها بالكامل. وتجاهل هويتها الحقيقية كدولة استعمار استيطاني وأبارثهيد قامت بعملية تطهير عرقي ممنهج لسكان الأرض الأصليين في فلسطين، بل على أساس أنها دولة «طبيعية» وإن كانت امتداداً للمشروع الكولونيالي في الشرق الأوسط. في سبيل ذلك توظّف إسرائيل والإدارة الأميركية العديد من الجهود الحثيثة لإعادة صياغة الوعي في العالم العربي بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص، وذلك بعد سنوات طوال من مسرحية «عملية السلام» الأوسلوية والتي سعت الى خلق ما أطلق عليه رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فياض لقب «الفلسطيني الجديد». والمهمة الحالية المنوطة بالفلسطيني الجديد تتمحور الآن حول توفير ورقة التوت لتغطية عورات الأنظمة العربية المنخرطة في «صفقة القرن» التصفوية.
ويعود المطبّعون/ات «بمفاجآت» جديدة لدعم المسار التطبيعي، على الرغم من توقعاتنا «الساذجة» بأنهم إما اختفوا عن الأنظار، أو تراجعوا عن ممارساتهم التطبيعية بسبب فشل نهجهم سابقاً مع انتشار وعي مقاطع مضاد، أو بسبب حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. ولكن يبدو من الواضح أن نهج التطبيع يعتمد على خليط من الوعي الزائف والذاكرة الضعيفة. فقد يستطيع المرء أن ينسى، أو بالأحرى يتناسى، هذه الجرائم في سبيل إما مصلحة شخصية أو مصلحة طبقية يتم التعبير عنها من خلال شعارات وطنية أصبحت مستهلكة على نمط وطنية النخب الحاكمة في العالم العربي!
ففي خضم نضال الشعب الفلسطيني لإسقاط الصفقة التصفوية يأتي خبر عن تنظيم إفطار تطبيعي بين شخصيات فلسطينية وأخرى إسرائيلية صهيونية في مدينة يافا بشكل يتعارض مع قرارات المجلسين المركزي والوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية. أما في قطاع غزة، فتقوم «لجنة شبابية» بالتواصل مع مجموعة صهيونية على الطرف الآخر من السلك الشائك وسماع معاناتهم من «الإرهاب» الفلسطيني الذي تمثله فعاليات مسيرة العودة الكبرى وما يصاحبها من بالونات حارقة وإرباك ليلي يزعج «الشركاء» الإسرائيليين. وينتشر أيضاً فيديو لعدد من المستوطنين المتطرفين يرتدون قبعات متدينين وهم يرقصون محمولون على الأكتاف في حفل زفاف ابن رئيس مجلس قرية دير قديس في مشهد سريالي يذكر بالجنوب الأميركي والعلاقة بين السيد الأبيض و«عبد المنزل» الأسود. يتوّج كل ذلك بتأسيس الغرفة التجارية الفلسطينية ــــ الإسرائيلية بين رجال أعمال فلسطينيين في الضفّة الغربية المُحتلة وشركاء لهم من المُستوطنين الإسرائيليين لتطوير المشاريع الاقتصاديّة والتجاريّة التي تهدِف إلى تحسين العلاقات بين الطرفين على جميع الأصعدة. ويعلن رجل الأعمال الفلسطيني العضو في هذه الغرفة مشاركته في ورشة البحرين التطبيعية بعدما كال السفير الأميركي في إسرائيل المديح له على طاعته العمياء.
الجدير بالذكر أن كل هذه النشاطات التطبيعية تخالف الإجماع الفلسطيني على محاربة التطبيع كما تم تعريفه من قبل الغالبية الساحقة من منظمات المجتمع المدني وقوى الشعب الفلسطيني الحية. ومن المؤسف أنها تأتي في سياق مناقض تماماً لما أنجزته حركة المقاطعة العالمية ذات القيادة الفلسطينية والتي أرّقت مضاجع القيادة الإسرائيلية التي لا تملّ من دق ناقوس الخطر من «التهديد الاستراتيجي» الذي تشكّله الحركة عليها، لدرجة أن تقوم الوزارة الإسرائيلية المكلّفة بمحاربة الحركة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها جهاز الموساد، لملاحقة نشطاء الحركة.
إن القضية الفلسطينية تمرّ بأخطر فترة تاريخية من خلال محاولات الإدارة الأميركية اليمينية وبتوجيهات إسرائيلية تصفيتها بالكامل. وما ادعاءات جاريد كوشنر عن عدم قدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بأنفسهم إلا إشارة واضحة المعالم إلى أين تتجه الأمور. وما يحصل من تطبيع عربي فج تقوم به بعض الحكومات العربية هو في صميم «صفقة القرن» التي يجري تطبيقها على قدم وساق ويتم تجميلها من خلال الادعاء أنها ستعمل على تحسين شروط القهر الكولونيالي للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة، سواء سكان مناطق الـ 67 أو الـ 48 أو المنافي. لكن ذلك يتطلب ورقة توت فلسطينية تعمل على تغطية عورات المطبعين/ات العرب. وهنا تبرز خطورة التطبيع الفلسطيني.
والحقيقة أننا في حالة اشتباك متواصل مع كل أشكال الاضطهاد التي تمارسها إسرائيل من احتلال عسكري وأبارثهيد واستعمار استيطاني، وبالتالي فإن معركتنا الآن تتمحور حول إعادة صياغة الوعي الفلسطيني بقضيتنا كمشروع تحرري لا يرى في تحسين شروط الاضطهاد والقمع أي شكل من أشكال الحرية. وكما كرر قبلنا مناضلون بارزون من أمثال، فرانتز فانون ونغوغي وا ثيونغو وستيف بيكو ونيلسون مانديلا، فإن أي مشروع مقاوم تحرري يجب أن يعتبر أن تحرير العقل مقدمة ضرورية لتحرير الأرض والإنسان. وهذا نقيض لما يقوم به المطبعون/ات من خلال ضرب المنظومة الأخلاقية الوطنية، لدرجة أن بديهية عدم التعامل مع الاحتلال أصبحت تحتاج الى مناظرات وجدال ومحاولات إقناع. فأبجديات الأخلاق الوطنية تقوم على أساس رفض أي شكل من أشكال التواصل مع الاحتلال مهما كانت المبررات، مع استثناء حالات التطبيع القسري التي هي جزء من بنية الاستعمار لتطويع المستعمَر.
بعد سنوات «السلام» الزائف والمليارات التي تم استثمارها نحو إعادة تشكيل العقل الفلسطيني بمبررات «براغماتية» و«واقعية» لقبول «حق» إسرائيل «الطبيعي» باستعمار 78% من أرض فلسطين التاريخية، تعمل «صفقة القرن» الآن على إعادة صياغة الوعي الفلسطيني والعربي للقبول «بحقها» في ما تبقّى من الضفة الغربية بعد تحقيق حلم رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين، برمي قطاع غزة في البحر المتوسط! وفي هذا السياق، لا بد من استحضار ما جاء في كتابات المؤرخ الأميركي هوارد زين الذي أشار الى أن «أكثر الأمور سوءاً في التاريخ البشري، من حروب وإبادات جماعية وعبودية، لم تكن نتيجة عدم الطاعة، بل على العكس، كان سببها الطاعة العمياء».
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــــ غزة