يطمح عبد الفتاح البرهان إلى تكرار تجربة عبد الفتاح السيسي، وليس بعيداً أن يكون خليفة حفتر يملك الطموح نفسه
على هذا الصعيد، هناك مثال كلاسيكي هو لويس بونابرت الذي عالج حالته كارل ماركس في كتابه: «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت». شخص بلا مواهب، لا يملك ميزة سوى أنه ابن أخي نابليون بونابرت، يقفز إلى واجهة المشهد السياسي بفعل تلك الميزة في لحظة انسداد توازني عقب ثورة شباط/ فبراير 1848 بين القوى الجمهورية الثائرة على قوى النظام الملكي المُطاح في تلك الثورة. منذ أيار ينقسم الجمهوريون بين (اشتراكيين) وبين قوى (الناسيونال) التي هي قوى برجوازية. الملكيون ينقسمون بين (الشرعيين) من أنصار آل بوربون الذين أطاحتهم ثورة 1789، ثم بعد عودتهم إلى السلطة عام 1815 على حراب الجيوش الأجنبية التي هزمت نابليون بونابرت، أُطيحوا في ثورة 1830 لما أرادوا الحكم بطريقة ما قبل يوم 14 تموز/ يوليو 1789، وبين (الأورليانيين) من أنصار آل أورليان الذين أتى منهم الملك لوي فيليب عام 1830قبل أن تطيحه ثورة 1848. أمام انقسامات المعسكرين، الجمهوري والملكي فيما بينهما، يظهر لويس بونابرت كالشهب الخاطف ويفوز يوم انتخابات 10 كانون الأول/ ديسمبر 1848 بأغلبية كبيرة عبر اقتراع شعبي على منصب رئاسة الجمهورية. كان التأييد الأساسي له من الفلاحين، ولكن أيضاً دعمه في الانتخابات ملكيون مثل (تيير) زعيم معسكر الأورليانيين ورئيس وزراء سابق عند لوي فيليب. في عام 1849 يصبح (تيير) زعيم المعارضة الرئيسي ضد لويس بونابرت بعد فوز الملكيين بأغلبية مقاعد الجمعية التشريعية. لم يستطع الملكيون استغلال الغالبية البرلمانية لتقييد رئيس الجمهورية ولا استغلالها من أجل تهيئة الجو السياسي لمناخ جديد يساعد على إطاحته، بل حصل العكس عندما قام رئيس الجمهورية في يوم 2 كانون الأول/ ديسمبر 1851 بانقلابه على الجمعية التشريعية، حيث اعتقل النواب المعارضين وفرض حالة الطوارئ والرقابة على الصحف، ثم أجرى استفتاءً شعبياً ظهر فيه بمقبولية شعبية على ما فعله في انقلابه، ثم دعا في الشهر الحادي عشر من 1852 لاستفتاء شعبي أصبح، على إثره، إمبراطوراً باسم نابليون الثالث، في يوم الذكرى السنوية الأولى لانقلاب 2 كانون الأول/ ديسمبر 1851.
يسمّي ماركس هذه الحالة «البونابرتية»، وهي تكرار لحالة قام بها نابليون بونابرت، بعد عودته من مصر، بانقلابه العسكري في الثامن عشر من برومير/ 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1799، أصبح بعدها (قنصلاً أولاً) لفرنسا ثمّ إمبراطوراً عام 1804. يصف ماركس الانقلابين البونابرتيين بالآتي: «يقول هيغل في مكان (ما) إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة تظهر، إذا جاز القول، مرتين. وقد نسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة».
بالتأكيد، ليست تجربة السيسي مشابهة لنابليون، بل لابن أخيه، وهناك تشابه مدهش بين السيرتين، ظهور مفاجئ، ثم صعود نحو الأعلى مثل الصاروخ الذي يتخلص من حمولاته على مراحل كلما صعد أكثر لفوق. انتهت مسيرة لويس بونابرت بهزيمة عسكرية فرنسية مدوية أمام الألمان عام 1870 في معركة سيدان، ولم تنفجر فرنسا بعده فقط في أحداث كومونة باريس، بل أصرّ الألمان على إعلان الوحدة الألمانية من قصر فرساي بباريس عام1871. في السنوات الأولى لحكمه، ظهر لويس بونابرت كأحد أقوى رجالات أوروبا، وتحسن الوضع الاقتصادي الفرنسي، ولكن بلد الثلاث ثورات ظهر في فترة ما بعد 2 كانون الأول/ ديسمبر 1851 وكأنه يحوي مجتمعاً قد استقال من السياسة بعد فشل تجاربه الثورية الثلاث وسلّم مصيره راضياً لشخص بلا موهبة.
هنا، يطمح عبد الفتاح البرهان إلى تكرار تجربة عبد الفتاح السيسي، وليس بعيداً أن يكون خليفة حفتر يملك الطموح نفسه، وربما كذلك عسكري جزائري «ما» في مرحلة ما بعد بوتفليقة. يشجع هؤلاء جوّ إقليمي، يتركز في الخليج، وجوّ دولي في واشنطن والاتحاد الأوروبي، وفي موسكو وبكين. يبدو أنه كما اتحدت لندن وباريس وواشنطن وموسكو في الخمسينيات والستينيات على منع «الوحدة العربية»، هناك اتحاد مماثل على منع «الديموقراطية» في المنطقة العربية.
* كاتب سوري