لقد باتَ واضحاً اليوم أن تأسيس «جماعة الإخوان المسلمين» العتيدة في مصر عام 1928 يعود إلى التقاء بوتقة من المصالح، تتضمن الديوان الملكيّ من جهة والاستعمار البريطاني من جهة ثانية ومشاريع حسن البنّا الطموحة في الحكم، بل وحتى الخلافة من جهة ثالثة. في وقت كانت مصر تعجّ فيه بالفكر الليبرالي والعلماني التحرري، احتاجت السلطة الملكيّة الرجعيّة في مصر لقوة يمينية تواجه من خلالها هذا المد. هرباً من الاضطهاد العثماني هاجرت عقول شامية لامعة نحو مصر لتشدّ أزر الحراك التقدمي فيها. فرح أنطون وشبلي الشميّل وغيرهما كثيرون ممن تبنوا توجهات الحداثة والفكر الديموقراطي في فصل السلطات وتحقيق المساواة السياسية وفصل الدين عن الدولة، هؤلاء شكلوا قطباً في مواجهة ثالوث مضاد مكوّن من الأزهر والسلطة الملكيّة والاستعمار البريطاني، ثالوث معادٍ لأي حراك تحرري مصري، وخاصة إذا كان ديموقراطياً. بدأ الإخوان المسلمون محاولتهم الأولى سريعاً لتنصيب فاروق الشاب خليفةً للمسلمين إثر سقوط الخلافة العثمانية، «فالإخوان المسلمون يجعلون من فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم». فكانت المحاولة الأولى عام 1937 لتتويج الملك وإعلانه خليفة للمسلمين بمساعدة شيخ مشايخ الأزهر حينها الشيخ المراغي وبالتعاون مع علي ماهر باشا! ولم تفشل هذه المحاولة إلا بسبب قوة حزب الوفد عملياً.أما المحاولة الثانية فكانت في عام 1942 عندما أصدر الإخوان المسلمون صحيفتهم بغلاف لصورة الملك فاروق وفي يده المسبحة، وليتوجه حسن البنا إلى قصر عابدين لمقابلة الملك وتقديم العدد هديةً لهُ. وليناشده إعلان الخلافة وتنصيب نفسه خليفةً على المسلمين. وبحسب الوثائق الرسمية التي رفعت بريطانيا عنها السرية، فقد حصل أول اجتماع بين بريطانيا وجماعة الإخوان المسلمين عام 1941، ولتبين الوثائق اتفاقاً سرياً مع أمين عثمان باشا رئيس الوزراء المصري عام 1942 تتولى بموجبه الحكومة المصرية دعم حركة الإخوان سراً، وليقوم كلا الطرفين بتقديم التمويل وإدخال العناصر الموثوقين إلى داخل الحركة. لتصبح بريطانيا منذ ذلك الحين ملاذاً آمناً للجماعة توفر لها فيها استثمارات بمليارات الدولارات، كما أن حركة أموال التبرعات العالمية للإخوان تمرُّ إلى اليوم عبر الأراضي البريطانية التي تحتضن التنظيم الدولي للإخوان.
وحتى سقوط الملك الدمية، كان الإخوان المسلمون الحلفاء الأكثر وفاءً للديوان الملكي، الذي كانوا يسمّونه تحبباً «الديوان الإسلامي» في إشارة إلى الولاء والخضوع لوليّ الأمر العتيد، علماً أن هذا الديوان كان مشهوراً بسهرات المجون الأسطوريّة بشهادة عدة مستشرقين.
لقد تابعت الحركة تقاليدها في الاستناد إلى الدعم الخارجي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن لتنقل الولاء هذه المرة إلى القطب العالمي الجديد متمثلاً بالولايات المتحدة الأميركية. وفي هذه النقطة مبدئياً تظهر نقطة الضعف الكبرى لدى أغلب حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون. ألا وهي عدم قدرتهم على تبني خط وطني حقيقي، فضلاً عن أن يكون ديموقراطياً أو تقدمياً، وهنا بالضبط مصدر فشلها التاريخي والكلي كمشروع سياسي وفكري، إذ إن ضحالتها الفكرية تُتَرجم على شكل مشروع سياسي عميل لأجندات أجنبية بالضرورة.

العلاقة مع واشنطن
عن حركة الإخوان المسلمين المعاصرة يقول المدير الأسبق للمخابرات المركزية الأميركية جيمس ويلسي، ملخصاً سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر على سبيل المثال في عام 2003: «سنضغط على حسني مبارك في مصر عبر المعارضة الإسلاميّة لنبقيه متوتراً فنتمكن من التعامل مع القضايا الشائكة بالمنطقة». هناك طبعاً «ملف» كامل عن العلاقات الأميركية الإخوانيّة يطول بحثه، إذ يصفها روبرت سبنسر «بالعلاقات النشطة على مدى عقود». فهناك لوبيّات إخوانيّة قوية وفاعلة تعمل في قلب البيت الأبيض وتنسق العلاقات بين حركة الإخوان العالمية والإدارات الأميركية المتعاقبة. وطبعاً لإخوان مصر حصة الأسد في هذه اللوبيّات، كمثل «مجلس العلاقات الإسلامية – الأميركية» و«الجمعية الإسلامية لشمال أميركا» كاثنين من أقوى مؤسسات الضغط الإخوانية في الولايات المتحدة. وقد استطاعت هذه الجماعات أن توصل مستشارين إلى قلب الإدارات الأميركية (مثل هوما عابدين مستشارة هيلاري كلينتون وصديقتها والمقربة جداً من الإخوان)، بما يضمن تنسيق العلاقات والمصالح بين الطرفين على أكمل وجه.
أما عن الاستخدام الأميركي للإخوان في مصر ما بعد الثورة، فيكتب روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: «لقد توصل الإخوان مع أوباما عشية الربيع العربي في مصر إلى اتفاقية مفادها أن يضمن الإخوان حفظ «الاستقرار»، بما في ذلك السلام مع إسرائيل مقابل السماح لهم بالوصول إلى السلطة». وفي هذا الإطار نورد اتهام عضو الكونغرس الأميركي فراند وولف للرئيس أوباما ووزيرة خارجيته «كلينتون» بتقديم نحو 50 مليون دولار لجماعة الإخوان في مصر، قدمت في انتخابات 2012 الرئاسية، وتحديداً خلال جولة الإعادة، وقد أعيد فتح مسألة مذكرة الاتهام مرة أخرى في الكونغرس بعد عزل مرسي في 30 يونيو، ولم تغلق نهائياً حتى جرى تبديل الإدارة.
تركيا اليوم باعتبارها راعياً رسمياً للتنظيم العالمي، وبوصفها دولة إسلامية يرأسها حزب إخواني الاتجاه، تُعَدّ أكبر شريك تجاري لإسرائيل على مستوى العالم الإسلامي بحجم تبادلات سنوي يتجاوز 4 مليارات دولار. أما قطر، الراعي الرسمي الآخر، فهي أقرب «دول الاعتدال» إلى الكيان بفضائح أمرائها ولقاءاتهم التي كادت أن تكون علنية.
لقد خاض الإخوان المسلمون تجربتهم على مدى قرن من الزمن ليكون العقد الأخير محوريّاً وفاصلاً بالنسبة إليهم. عبر تاريخ من التعرجات والالتواءات الشديدة، كان هناك ثابت واحد: خواء فكري وثقافي وسياسي كامل مع قدرة كبرى على خدمة المشاريع الاستعمارية والغربية بكفاءة عالية. ملخص المشروع الإخواني في الاختبار التاريخي هو الأصولية fundamentalism في الداخل والخضوع والعمالة في الخارج لتكون أمامنا واحدة من أسوأ التيارات والحركات السياسية في التاريخ العربي المعاصر. حركة وعدت بالكثير وما قدمت إلّا رجعيةً وتأخراً.
* كاتب سوري