ما من أحد إلا ويتساءل: أين هي الأمور في سورية الآن؟ وإلى أين تتجه؟ صحيح أن الأمور قد رتبتها المعارك والتسويات في مناطق متعددة ومتواصلة من الخريطة السورية. امتداداً من حلب في الشمال إلى درعا وخط وقف إطلاق النار في الجولان والجنوب، مع الامتداد من المنطقة الساحلية إلى عمق البادية وصولاً حتى الحدود العراقية، مع تأمين العاصمة ومحيطها والطرق والأوتوسترادات الموصلة إليها من المدن والمناطق الرئيسة، غير أن الأمور سرعان ما توقفت أمام معطيات مختلفة في مناطق الشمال (شرقها وغربها) حيث توقفت المعارك والمصالحات أمام الوجود المباشر لقوات تدخل خارجي، ليس من السهل التعامل معها وفقاً للأساليب والوسائل التي استُخدمت في المراحل والمناطق السابقة.مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتاريخ 19/12/2018 قراره سحب القوات الأميركية من سورية، بدا وكأن الأمور تمضي في السياق نفسه الذي جرت فيه بالنسبة إلى المناطق السورية الأخرى، وأن تسوية ما باتت متاحة مع «قوات سورية الديمقراطية» تعود بموجبها منطقة شرق الفرات، بهذا الشكل أو ذاك، إلى ما تحت مظلة السلطة السورية. لينتقل التركيز المحلي والإقليمي والدولي على التسوية النهائية لمنطقة إدلب والمناطق الأخرى الخاضعة للنفوذ التركي في ريفي حلب وحماه.
وفقاً لهذه الصورة المزيّنة بالعلمين الروسي والإيراني إلى جانب علم الدولة السورية، بدا أن إسرائيل قد «خرجت من المولد بلا حمص»! فهي التي راهنت منذ بداية الأحداث عام 2011 على أن تدمير الدولة السورية وتفكيك كيانها سينجزان الفصل الأخير من عملية تدمير دول المنطقة وتبديد قواها وفتح أبوابها كاملة أمام الهيمنة الصهيونية الإمبراطورية، كما لم يرد حتى في أشد أحلام مؤسسي الدولة العبرية جموحاً... وجدت نفسها فجأة أمام جيش سوري خارج من تجربة قتالية مريرة ومديدة ومتنوعة الأشكال القتالية النظامية وغير النظامية، وبحضور تنظيمي وتسليحي روسي مباشر ودعم حليف إيراني قوي ومتشعّب الامتدادات وذي خبرات قتالية، ما يشكّل جبهة قوية واسعة الأطراف تمتد من الجولان وجنوب لبنان (وحتى من غزة) إلى عمق العراق وإيران!
أمام هذا الواقع الذي قلب الأمور من انتصار إسرائيلي غير محدود إلى مواجهة خطر مصيري حقيقي، كان لا بدّ من التحرك باتجاه واشنطن حيث جرى استنفار كل القوى واللوبيات الصهيونية وغير الصهيونية الضاغطة (بالإضافة إلى الدولة الأميركية العميقة المعارضة أصلاً للانسحاب) من أجل ثني الرئيس ترامب عن قراره وتحويل الوجود العسكري الأميركي في سورية من قوة دعم لـ«قسد» في المواجهة مع «داعش» إلى قوة فاعلة في تحديد مستقبل سورية وحتى العراق والمنطقة كلها بشكل يقلب المعادلات رأساً على عقب!
وهكذا قام الرئيس ترامب بتاريخ 22/2/2019 بإعلان تراجعه عن قرار سحب القوات الأميركية من الأراضي السورية، بل أكثر من ذلك تم التحول بالموقف الأميركي باتجاه التدخل المباشر في عملية رسم المصير السوري من جديد والانخراط في معركة متعددة الوجوه والأشكال مع الدولة السورية. كان من أبرز معطياتها تصعيد العقوبات وفرض أنواع مختلفة من الحصار بحيث تطال المواطن السوري في أسباب معيشته ومصادر رزقه وقوت أطفاله!
وكان هذا التغيّر سبباً رئيساً لما يشهده الوضع السوري حالياً من احتقان و«عصلجة»! فالشمال الشرقي، حيث مصادر الطاقة البترولية والغازية والكهربائية والأهراء الزراعية، محتجز بين أيدي «قسد» المدعومة أميركياً بشكل مباشر. وهذا ما يهدّد (بالإضافة إلى كل الإمكانات المحتجزة) وحدة الكيان السوري ووضعه بين فكي كماشة تربطها أميركا بين إسرائيل في الجنوب و«قسد» في الشمال. فيما تربط تركيا رعايتها لجبهة «النصرة» وشركائها في محافظة إدلب وجوارها بوجوب تأمين أمنها القومي من خطر ما تسميه «الإرهاب الكردي» في شرق الفرات، وتتخذ من هذه الديمومة الكردية المحمية أميركياً ذريعة للتمسك باحتلالها للشمال الغربي من سورية.
تقديرنا أن الشريك الروسي غير القادر على المواجهة العسكرية مع الوجود الأميركي على الأراضي السورية، وغير المستعد للصدام العسكري الجدي مع «الصديق التركي» الذي تشده إليه مصالح كبيرة جداً، بدأ يتجه نحو محاولة فك هذه العقدة «المعصلجة» عن طريق إسرائيل.. وذلك بالسعي لإرضائها على أساس السعي لربط التسوية السورية بتسوية «سورية - إسرائيلية»(!) تلعب فيها موسكو الدور الذي سبق أن لعبته واشنطن في التسوية المصرية - الإسرائيلية. وهذا ما يتطلب تحركات كثيفة على المحاور الروسية الأميركية الإسرائيلية (امتداداً إلى كل عواصم المنطقة) ما ينقل اللعبة كلها إلى مستوى مختلف عن كل ما كان يجري خلال السنوات السابقة بالإضافة إلى تمهيدات مختلفة على صعيد الواقع المحلي.
نظرة سريعة إلى الوضع الداخلي السوري، تعيد إلى الأذهان الكثير من ملامح الوضع الذي عاشته مصر بعد «حرب تشرين» حين تضاعفت أسعار النفط عشرات المرات وعادت على الدول العربية النفطية بعائدات خرافية دون أن يصيب الشعب المصري منها أي نصيب. وراحت تنتشر في صفوفه بشكل كثيف جداً، ومتعمّد جداً أيضاً، حملات تتحدث عن تضحياته الكبيرة في سبيل العروبة والعرب الذين يبذرون أموالهم هنا وهناك فيما هو صاحب التضحيات وعشرات آلاف الشهداء في معارك فلسطين يتضور عوزاً وجوعاً. وقد وصل الأمر بهذه الحملات إلى حدّ وجدت فيه زيارة الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة حينها تأييداً واسعاً في الشارع المصري. للحقيقة المرّة إن سورية الآن تواجه دفرسواراً مشابهاً للدفرسوار المصري:
• ثمة ارتهان وتهديد جدّي للوحدة الكيانية والوطنية شرق الفرات وغربه.
• يزيدهما خطورة وضغطاً ما يعيشه الداخل السوري من أزمات حياتية مركبة تتصاعد حدتها وصعوبتها يوماً بعد يوم.
• يتعرض الشعب خلالها لحملات إعلامية مكثفة مشابهة تماماً لما تعرض له الشعب المصري بعد «حرب تشرين»، وبالذات على صعيد التشكيك بالهوية العربية لسورية و«عبثية» المواقف الوطنية التقليدية لشعبها. وهذا ما نسمعه في الشارع السوري ونقرأه في وسائل التواصل الاجتماعي كل يوم.
في هذه الأثناء وفي أتون هذه المعاناة المركبة، يجري التلويح بجزرة استئناف العلاقات العربية مع سورية وبمئات مليارات الدولارات النفطية المستعدة لتغذية الخزينة وتمويل إعادة الإعمار، في حال قبول الشروط الجديدة لمسيرة التسوية مع إسرائيل!
هذا الواقع المستجد يواجهنا بأسئلة كثيرة لا تتعلق بموقف الدولة السورية التي كانت دائماً على استعداد للتفاوض حول التسوية، إنما من ضمن الالتزام بالشرعية الدولية والحقوق الوطنية والقومية الثابتة. فهل يعتقد الطرف الآخر أن ما جرى في سورية ولها خلال السنوات التسع الماضية يمكن أن يكون أحدث تغييراً في هذه القواعد الثابتة للموقف السوري؟
ثم ما هو موقف الحليف الإيراني الذي يملك دوراً فاعلاً على الساحة السورية، وكذلك موقف حزب الله الذي كان دعمه للدولة السورية حيوياً جداً في جميع معاركها على امتداد السنوات الماضية وأصبح صاحب وزن لا يمكن تجاهله في معادلات المنطقة؟ ثم إلى أي مدى يمكن أن يصل الصديق الروسي في سعيه لتقمص دور «العزيز هنري» كيسنجر في حل مشكلة الدفرسوار السوري؟
* كاتب سوري