حينما شاء الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور أن يبني بغداد في مطلع العصر العباسي، جمع ثلاثة من أهم منجمي عصره سنة 762م لتصميم خريطة أبراج سماوية للمدينة الجديدة. كان هؤلاء المنجمون هم: الفارسي نوبخت الأهوازي (ت 775م) الذي سيتولى أولاده مناصبهم كمنجمين وفلكيين عند الأسرة العباسية للمئة عام اللاحقة، وثانيهم ماشاءالله بن أثرى الفارسي (ت 815م) الذي يعرف أيضاً بميشى بن أثرى اليهودي، وكان خراساني الأصل ممن ولدوا وماتوا في البصرة وترك سمعة فلكية جيدة، فكرّمه الغرب لاحقاً بتسمية فوهة بركان على سطح القمر باسمه، أما ثالثهم، فكان إبراهيم الفزاري (ت 777م) وهو العربي الوحيد بينهم (Saliba: 2007, p15).لدينا ملاحظتان هنا. الأولى هي أن كلّاً من نوبخت وماشاءالله كانا على الأغلب يحملان الثقافة الفارسية والسريانية، وذلك لانحدارهما بالأصل من منطقة الأهواز الآرامية، وهناك احتمال كبير أنهما أيضاً كانا من أسر تتوارث هذه العلوم أو صنعة التنجيم. يتوافق هذا مع السردية الشائعة أن الحضارة العربية الإسلامية قامت على أكتاف سكان المراكز الحضارية النشطة للعصر الكلاسيكي المتأخر كالهلال الخصيب، إيران، مصر... إلخ. الملاحظة الثانية هي أن الخلفية الجيو-سياسية والإثنية لكلا العالمين تتفق مع فرضية ديميتري غوتاس أن الثورة العباسية قامت على عناصر ساسانية معادية أو غريبة عن التجربة البيزنطية الأرثوذكسية، ما يقوّي هذه الفرضية (راجع الجزء الأول).
لكن ماذا عن الفزاري وهو العالم العربي الوحيد بينهم، يتساءل هنا جورج صليبا؟ من أين له هذه المعرفة العلمية المتقدمة وهو العربي الذي يفترض أنه لا ينتمي إلى تراث علمي غني، خاصة أننا نتحدث عن حدث جرى في مطلع العصر العباسي، الذي يفترض أنه أطلق للتو مشاريع الترجمة والنهضة العلمية الإسلامية. كيف لحق الفزاري أن يتعلم ويقف على قدم المساواة مع علماء المجتمع الساساني السابق؟ وماذا لو علمنا أن الفزاري قد اقترن اسمه بعالم آخر هو يعقوب بن طارق (ت 796م ببغداد)، وقد ترجما معاً كتاب السندهند الفلكي من السنسكريتية، واشتركا معاً في تأليف كتاب «طريق الأفلاك»، فضلاً عما نسب إلى الفزاري من تصميم أسطرلاب جديد، وتأليفه كتاب زيج سيعرف باسمه. والزيج هو جداول بيانات وأرقام فلكية لمعرفة حركات الكواكب وسير النجوم ليعينهم على استخراج التقويم السنوي لجمع الخراج (راجع «القاموس المحيط»).
ظهور الفزاري كعربي في هذه الحقبة المبكرة، كعالم ومترجم، لا يتوافق والفكرة السائدة عن سيرورة حضارتنا. لكن الفزاري لم يكن العربي الوحيد في هذه الفترة المبكرة وفق السردية الشائعة، إنما كان هناك عربي آخر هو علي بن زياد التميمي الذي ترجم زيج شهريار من الفارسية للعربية (Saliba: 2007, p16)، فضلاً عن آخرين. إن هذه الأعمال والشخصيات العلمية تشير بوضوح إلى أنه في مطلع العصر العباسي أي منتصف القرن الثامن الميلادي، كان هناك أصلاً طبقة علمية عربية ناضجة ومجرّبة، موروثة من العصر الأموي! يخبرنا صليبا أنه لم يمر سوى أقل من قرن قبل أن تظهر ترجمات دقيقة جداً ومعقدة لأصعب نصين علميين يونانيين، كترجمة الحجاج بن مطر (عاش ببغداد حوالى 830م)، لكتابي «العناصر» لإقليدس و«المجسطي» لبطليموس (انتهى من ترجمة الأخير عام 829م) (Saliba: 2007, p17).
كانت هذه الترجمات أيضاً كاملة ومتطورة وبلغة علمية سليمة ويستحيل تحقيقها بجيل واحد أو اثنين، فمن المؤكد أنه كان هناك طبقات من المترجمين قبل حدوث الثورة العباسية لم تصل أخبارها إلى الجمهور غير المتخصص، فصدق مقولة بداية الثقافة العلمية العربية مع صعود الدولة العباسية. لكن لنعد لسؤالنا السابق: كيف ولماذا اهتم عرب القرن السابع أثناء الحقبة الراشدية والأموية بالعلوم؟ ما دوافعهم وما هي المشاكل التي صادفتهم، فأجبرتهم على طرق دروب العلم؟ لنبدأ بالصلاة. 

العصر شرارة العلم
«إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا»، سورة النساء،
«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»، سورة البقرة.
تفرض الآيتان على المسلمين إقامة الصلوات في مواعيدها خاصة الوسطى (فسّرها أغلب جمهور المسلمين بصلاة العصر). يقول جورج صليبا إن المجتمع الإسلامي الأول في مكة والمدينة لم يجد صعوبة في تحديد موعد صلاة العصر، حيث كان يحدد وقتها بمعادلة بسيطة وهي قياس ظل الإنسان ليعادل طول قامته، ليمتد الوقت المتاح للصلاة حتى يصل طول ظل قامة الرجل مرتين. لكن ما إن استوطن المسلمون دمشق في القرن السابع الميلادي عقب الفتوحات، واجهوا مشكلة معرفة وقت الصلاة فيها، لأنه في بعض أيام السنة لم يكن الظل يعادل طول القامة، كما في الشتاء حيث يكون الظل طويلاً.
سبّب ذلك حرجاً دينياً وفكرياً لهذا المجتمع الفتي المنتصر حديثاً في الهلال الخصيب. هنا أجبرت الصلاة الوسطى وهي فرض ديني بسيط المسلمين على اللجوء إلى العلم، لاكتشاف معادلة علمية جديدة تسمح لهم بمعرفة أوقات الصلاة بدقة أينما أقاموا وفي كل فصول السنة. المشكلة أن العلوم اليونانية للعصر الذهبي وتلك البيزنطية والساسانية لم تواجه مثل هذه المعضلة العلمية، فما كانت لديها أجوبة جاهزة لها.
علوم الديوان لم تكن لتجيب عن أسئلة المسلمين الأولى بخصوص طريقة حساب تحدد وقت صلاة العصر وسك العملة


من هذه اللحظة المبكرة للدولة الإسلامية، بدأت عجلة الجهد العلمي بالتدحرج، ومن حاجة رجال الدين ودعمهم. يمكن أن نتخيل كيف تكاتفت الجهود من القرن الأول الهجري، بين أهل العلم من عرب وسريان وفرس للبحث في الجغرافيا الرياضية التي فتحت لهم أبواباً علمية تشمل الرياضيات وعلم الفلك وحساب المثلثات والمثلثات الكروية القائمة الزاوية وأساليب جديدة في الإسقاط الرياضي (من محاضرة لجورج صليبا في مكتبة الإسكندرية سنة 2010).
ستتراكم هذه الجهود حتى تُوصلنا إلى العالم العباسي حبش الحاسب (الذي عاش حوالى سنة 850م في بغداد)، والذي طور وظائف جديدة للأسطرلاب في قياس المسافة من مكة لأي نقطة على وجه الأرض، والذي تحول بدوره إلى الأسطرلاب المسطح أو أسطرلاب حبش الذي حدد لهم في النهاية مواعيد الصلاة بدقة (Saliba: 2007, p19). طبعاً المتطلبات الإسلامية لم تقتصر على مسألة تحديد موعد الصلاة بدقة، إنما تعدّتها إلى متطلبات دينية أخرى تحتاج العلم، كتقسيم الإرث، وتحديد نسبة الخراج والضريبة كما يحددها الشرع وهذه كلها تحتاج إلى علوم رياضية وحتى فلكية. 
يمكن الاستنتاج مما تقدم أن المجتمع الإسلامي وفقهاءه الأولين أدركوا منذ الوهلة الأولى قيمة العلوم، فلم يقمعوها، بل لمن لا يدري، لقد تطور الأمر حتى خرج أغلب العلماء الطبيعيين من صفوف الفقهاء أنفسهم. بمعنى: لم تأت الحضارة وفق سيناريو حب العلم للعلم أو وفق نظرية أن احتكاك (العرب البرابرة بالفرس المتحضرين) هو من أنشأ هذه الحضارة، أو أن العلم جاء رغم أنف الفقهاء، كما تُصوّر لنا السردية الشائعة!

أول الدنانير
سننتقل إلى خطوة أخرى في مسيرة العرب نحو بناء حضارتهم، إذ تنقل لنا كتب التراث عن حادثة مثيرة دفعت النخبة الحاكمة هذه المرة إلى توظيف العلوم لأغراض استراتيجية، وذلك عندما أدركت الخلافة الإسلامية في عصر عبد الملك بن مروان (685م -705م) في دمشق، أن الكرامة العقائدية واستقلالية الخلافة المالية مرهونة بالدنانير البيزنطية ذات الوزن الذهبي المضبوط، التي تُسك في القسطنطينية، ويتم تداولها بين كل الأمم كأساس للتعامل. 
بدأت المشكلة حين رفض الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الثاني في فترة حكمه الأولى (685م – 695م) قبول الكتابة الإسلامية الجديدة على صدور الطوامير التي كانت تردهم من مصر. صدور الطوامير هذه كانت صحائف من البردي وكان عليها سابقاً مقولات مسيحية، فأمر عبد الملك بمسحها وكتابة «قل هو الله أحد» وذكر النبي مع التاريخ (يرى صليبا أن البسملة التي كتبها عبد الملك على هذه الصحائف هي التي استفزّت الإمبراطور).
رد الإمبراطور بتهديد الخليفة، إن لم يُزل هذه المقولة، فإنه سينقش على النقد البيزنطي ما لا يسر المسلمين. فهم عبد الملك ضعف الخلافة المالي وانكشافها أمام الروم، فاتّخذ قراراً ثورياً بتعليم المسلمين صنعة صهر الذهب وخلط المعادن لسك دينار عربي بدلاً من استعمال النقد البيزنطي، فكان لهم ذلك (كتاب «الأوائل» لأبو هلال العسكري، ص125). أشرف على هذا المشروع ابن عم الخليفة خالد بن يزيد، الذي كان له ولع في الكيمياء، وتم سك أول نقد إسلامي. يضيف ابن النديم هنا معلومة إضافية هي أن نص ابن يزيد كان أول ما ترجم من اليونانية والقبطية إلى العربية (Saliba: 2007, p45). 
لتحليل هذا الحدث يبدو لي أولاً أن الإمبراطور كان محقاً على الأغلب في غضبه، لكن في ذات الوقت كانت خطوة عبد الملك في تلبية احتياجات الدولة العربية الإسلامية وتعلم أسرار خلط المعادن وسك العملة خطوة ثورية، إذ حقّقت للمسلمين استقلالاً مالياً ونقداً موزوناً سيتم تداوله عالمياً، ولم تكن هذه الخطوة يسيرة، فقد استغرق إنجازها قرابة أربعة أعوام (يراجع مقال أنيس الأبيض في صحيفة «الحياة» 8 شباط 2014). 

تعريب الدواوين، فتح الفتوح
سيكون تعريب الدواوين الخطوة الكبرى نحو خلق ثقافة علمية عربية، وجاء التعريب من حاجة الخلافة السياسية، حسب سردية ابن النديم (ت 990م)، التي عبر عنها ضمناً. تبدأ القصة من عراق الحجاج بن يوسف الثقفي (694م – 714م)، إذ كان هناك نخبة إدارية فارسية متخصّصة بشؤون الديوان لا تقبل أن ينافسها العرب، فلم يقبلوا نقله إلى العربية، فمتى تعرب الديوان، صار متاحاً لأبناء العرب، وزاحموا به الفرس على آخر موقع قوي لهم في هرم الدولة. 
يظهر مدى الاحتكار الفارسي لأعمال الديوان عبر حرص كل من زادان فروخ بن بيري كبير الكتبة، وولده مردناشاه على منع الموظف الفارسي المستعرب صالح بن عبد الرحمن (وكان مولى لبني تميم) المقرب من الحجاج من تنفيذ رغبة الوالي بترجمة الديوان. يظهر من سياق حديث فروخ قوة موقفه إذ تباهى أمام صالح بأن الحجاج غير قادر على التفريط به بقوله: «هو إليّ أحوج مني إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري» (الفهرست، ص 338)، (Saliba: 2007).
لكن تشاء الظروف أن يقتل زادان فروخ بن بيري في ثورة ابن الأشعث حوالى 704م فكان ذلك خسارة لا تعوض بالنسبة إلى الديوان، فيتدارك الحجاج حراجة الموقف ويأتي بصالح ويحقق معه، ليعترف له الأخير بمؤامرة موظفي الديوان، فيمهله الحجاج وقتاً ليعرّب الديوان. تدخلت طبقة موظفي الديوان الفارسية مرة أخرى وسعت لثني صالح ورشوته بمبلغ هائل، لكن صالح أصر على موقفه، فتم للحجاج ما يريد (Saliba: 2007, p45). 
ما أُنجز في العراق انتقل إلى الشام عندما أراد عبد الملك تعريب دواوينها من الرومية (أي اليونانية)، وطلب من كاتبه منصور بن سرجون أن يقوم بالمهمة، فتراخى ابن سرجون وتثاقل حتى مات الخليفة. فتأخر تعريب ديوان الشام حتى عصر هشام بن عبد الملك (724م – 743م)، عندما تطوع أبو ثابت سليمان بن سعد مولى حسين وكان كاتباً عند عبد الملك لتعريبه (Saliba: 2007, p45) (الفهرست، ص 339). 

ما هي علوم الديوان؟
بالنسبة إلي لم يشرح أحد أهمية تعريب الديوان كجورج صليبا، إذ كانت تمر بنا هذه الخطوة الهائلة في حضارتنا مرور الكرام، ونرددها كالببغاوات دون أن نعي ما تعني. تعريب الديوان الذي قصده ابن النديم ولم يكن واضحاً فيه هو تعريب ديوان الحساب لا ديوان السجلات الحكومية الذي يحفظ أسماء الجند ومعايشهم، كما يخبرنا الجهشياري (ت 943م ببغداد). ديوان السجلات والمعايش هو الديوان الذي أنشأه عمر بن الخطاب (634م – 644م)، وكان أصلاً بالعربية، أما ديوان الحساب المخصص لوجوه الأموال، فكان بالفارسية (كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري: ص38)، (Saliba: 2007).
كان يفترض من ديوان الحساب أن يشرف على حساب الخراج ونسبته، فكان يقوم بعمليات تحتاج مهارات حسابية معيّنة لمسح الأملاك والأراضي العقارية، وإعادة مسحها في حال تحولها لإرث. فضلاً عن حساب الوقت في السنة الشمسية من موظف الديوان لمعرفة متى تُجبى الضرائب، وكان على هذا الموظف أن يلمّ بعلوم الفلك لينسّق بين حسابه للسنة الشمسية والقمرية وهو لم يكن أمراً سهلاً، إضافة إلى واجبه في معرفة كيفية إعادة توزيع العطاء عقب توزيع الإرث، وحفر القنوات، والصفقات التجارية وغيرها.
كل هذا كان عملاً شاقاً ويتطلّب تدريباً وتعلّماً، وشملت عملية تأهيل الإداريين إصدار «كراسات» لتعليم العلوم الابتدائية بالعربية، لهؤلاء الموظفين الجدد أو الكتاب كما كان يطلق عليهم. ورغم فقدان أكثر هذه الكراسات، وصلنا بعضها، مثل كتابي أبو الوفا البوزنجي (ت 998م) المعنون: «فيما يحتاج إليه الكتاب والعمال في علم الحساب» و«فيما يحتاج إليه الصانع من أعمال الهندسة» (Saliba: 2007, p56). ويمكن رؤية نسخة بديعة للكتاب الثاني من 40 ورقة مرفقة بالرسومات والأشكال الهندسية التعليمية باللون الأحمر في مكتبة «أيا صوفيا» في إسطنبول.
وحتى نأخذ فكرة أوضح عن نوعية العلوم والمهارات التي كان يحتاجها موظف الديوان الذي تباهى به زادان فروخ، يرجعنا صليبا إلى كتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة (ت 889م ببغداد) الذي عاصر نهاية مرحلة ترجمة الديوان، إذ يقول عن واجبات موظف الديوان: 
«لا بد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي والمدورات، والعمودين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر ليس كالمعاين، وكانت العجم تقول (من لم يكن عالما بإجراء المياه، وحفر فرض المشارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودوران الشمس ومطالع النجوم وحال القمر في استهلاله وأفعاله، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه، وحال أدوات الصنائع ودقائق الكتاب» (ص 12-13).
كما يلاحَظ، انشغل موظفو الديوان والكتاب بخط المؤلفات العلمية العملية، لتنظيم إنتاج الثروة وتوزيعها بعدالة وفق فهمهم ومتطلبات شريعتهم. تطور هذا الأمر وأدى ذلك بموظفي الديوان أنفسهم إلى ابتكار علوم جديدة مثل محمد بن موسى الخوارزمي (ت 850م ببغداد)، الذي وضع علم الجبر والذي قال في مقدمة كتابه «المختصر في حساب الجبر والمقابلة» التالي: «ألّفت من كتاب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً حاصراً للطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم وجميع ما يتعاملون به بينهم من مساحات الأرضين وكري الأنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه» (من مقدمة الكتاب).

أزمة تعريب الدواوين 
قبل أن نسترسل، يلاحظ صليبا أن العباسيين المتهمين بأنهم جاؤوا بثورة خراسانية فارسية (750م) لم يعادوا أو يوقفوا عملية التعريب التي أضرت بالنخبة الفارسية، بل فتحوا المزيد من الأبواب لتعريب العلوم ورفع شأن الآداب العربية. للمؤرخ المصري المبدع محمد عبد الحي شعبان رأي طرحه بكتاب نشرته جامعة كمبردج عام 1970، يرى فيه أن النخبة الخراسانية كان الكثير منهم من أبناء وأحفاد الجنود العرب الذين فتحوا خراسان في القرن السابع والثامن.
يقول شعبان إن معظم هؤلاء الخراسانيين انحدر من الكوفة، إذ ألقى بهم الحجاج على الجبهة الشرقية لتوسعتها، الأمر الذي اعتبرته التواريخ الشيعية مؤامرة لإضعاف الكوفة كقاعدة الشيعة الأهم في حينها، بتفريق شبابها على الجبهات. لذا، لم تكن عملية نقلهم هيّنة، إذ بذل الحجاج بن يوسف الثقفي جهداً كبيراً لتوطين هؤلاء هناك وتحويلهم لقوة مقاتلة توسعية للإمبراطورية العربية الواعدة (Shaban: 1970). أياً كان التكوين الإثني لرجال الثورة العباسية، فإن ما حصل أن العباسيين جنوا ثمار ما بدأه قبل خمسة عقود والي العراق القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، وخلفاء دمشق عبد الملك بن مروان وابنه هشام. 

ما ترتّب عن التعريب
فتحت عملية تعريب الدواوين للمجتمع العربي المسلم وكل من فهم هذه اللغة أبواباً واسعة للتراث العلمي السابق في المنطقة، فتطورت العربية بحكم تحولها من لغة قرآن ومعلّقات شعرية وأساطير وملاحم إلى لغة عملية علمية أي لغة دواوين. ويمكن الآن فقط أن نفهم أفضل كيف نجح مترجمو القرن التاسع الميلادي ممن مروا معنا، كالفزاري ويعقوب بن طارق وعلي بن زياد التميمي والحجاج بن مطر وحنين بن إسحاق وبقية رجال عصر المنصور والرشيد والمأمون، في ترجمة هذه العلوم المعقدة للعصر اليوناني الذهبي بلغة عربية سليمة وناضجة.
لم يكن التعريب ضربة صغيرة للنخبة الساسانية/البيزنطية القديمة بل كان الكابوس الذي حاولوا منعه حتى لا يزاحمهم العرب. يخبرنا الجهشياري أن دهاقنة وكتبة بابل (قصد العراق) راعهم تولي الحجاج أمر العراق، فاجتمعوا عند جميل بن بصبهرى وكان حازماً مقدماً فيهم، وناقشوا موضوع التعريب. فقال لهم جميل: «ما أحسن حالكم إذ لم تبتلوا معه بكاتب منكم، وضرب لهم مثلاً مشهوراً: إن فأساً ألقيت بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض، ما ألقي هذا ها هنا لخير، فقالت لهم شجرة عادية، إن لم يدخل في است هذا عود منكم فلا تخفنه» (كتاب الوزراء والكتاب ص 39-40)، (Saliba: 2007).
قصد جميل أن لا خوف من الحجاج إن لم يخن أحد الكتبة طبقته المهنية فيقبل تعريب الديوان. رغم أن نص الجهشياري يحمل زادان فروخ مسؤولية تعريب الديوان، لكن الكتبة العرب (أو المستعربين) المعاصرين كالإداري الأموي الكبير عبد الحميد الكاتب (قتل في مصر 750م)، وهو من أول من ارتقى بالعربية كتابة يمنح هذا الشرف لصالح بن عبد الرحمن الذي حاولت النخبة الفارسية ثنيه ورشوته حتى لا يعرب الديوان للحلاج، فرفض وقال فيه عبدالحميد الكاتب: «لله در صالح، ما أعظم منته على الكتاب» (فهرست، ابن النديم ص338).

الطفرة الحضارية، نظرية صليبا
بالنسبة إلى العرب حول التعريب عدد كبير من أبنائهم وغيرهم من رجال سيف لقلم (ويلاحظ هنا أن الفتوحات تقريباً توقفت)، لكن هذا لا يعني أنه سيخرج تلقائياً من بين هؤلاء المتعلمين الجدد بعلوم الإدارة، علماء يسبقون عصرهم، لأن علوم الديوان التي تقدم ذكرها لم تكن هي نفسها «العلوم العليا» للعصر اليوناني الذهبي التي كانت قد أُهمل أغلبها، والتي ستُمكن حضارتنا من البناء عليها وتطويرها لعلوم جديدة. كما أن علوم الديوان لم تكن لتجيب عن أسئلة المسلمين الأولى بخصوص إيجاد طريقة حساب فلكية تحدد وقت صلاة العصر، وسك العملة وخلط المعادن.

خلق العرب بدخولهم الديوان منافسة أجبرت النخبة الأعجمية القديمة على الاستثمار بتعليم أبنائهم العلوم العليا اليونانية


يرى صليبا أن المنافسة التي خلقها العرب بدخولهم الديوان، أجبرت النخبة الديوانية الأعجمية القديمة من فرس وروم وسريان على الاستثمار بتعليم أبنائهم العلوم العليا اليونانية، والتخصص بحقول جديدة معقدة ونادرة وذلك ليظلوا مفيدين للدولة، باعتبارها رب العمل الأكبر والأضمن. استثمار موظفي الديوان العرب بالعلوم العليا اليونانية عبر أبنائهم لم يكن متاحاً للجميع في البداية، لأن أغلبهم لا يفقه اليونانية، ولم يكونوا بالضرورة من عِلية قومهم، ولم تحتج علوم الديوان، لتلك العلوم العليا عامة.
أما أبناء النخب الأعجمية، فكان الكثير منهم من أسر غنية أو علمية وديوانية عريقة يتوفر بين صفوفها من يتقن قراءة اليونانية أو السريانية أو الفارسية إن لم يكن أصلاً بعضها لغاتهم الأم. كما أن العودة للعلوم العليا كان حقيقة عمل بفكرة شائعة منذ القرن السادس على الأقل، حين أوصى العالم السرياني سرجيس الراسعيني، بأنه من أراد أن يتعمق في فهم مسألة علمية ما، فما عليه إلا العودة لأمهات الكتب العلمية اليونانية تلك (Saliba: 2007, p60).
أجواء المنافسة البيرقراطية والطبقية تلك بين العرب والفرس والسريان قد تكون السبب بظهور ظاهرة الشعوبية، وهو نفور الأعاجم من العرب، الذي قد يكون أصله المباشر تعريب الدواوين. إن كان هذا صحيحاً، فهذا يعني أن هذه الظاهرة كانت نخبوية ولم تكن حالة شعبية عامة بين القوم، وإنما كانت صراعاً على موارد الدولة. شكلت المنافسة التي بدأت في العصر الأموي لا العباسي، في رأي صليبا، سبباً في تطور العلوم ووسيلة لعودة أبناء النخبة القديمة لقمة الهرم الاجتماعي. وفعلاً عاد أبناء هذه النخبة القديمة وتعزز وضعهم مع انتصار الثورة العباسية، واحتلوا بعد جيلين تقريباً مناصب عليا تفوق مكانة مناصب آبائهم القديمة في الديوان. فبرزت ظاهرة الأسر العلمية الإدارية مثل سلالة بختيشوع الذين ظلوا يتوارثون طبابة البلاط العباسي على مدى قرن، ولدينا أسرة نخبوية أخرى هي أسرة نوبخت الفلكية، وهناك أيضاً أسرة أولاد موسى بن شاكر التي صعدت لتنافس - وهم بالأصل أبناء قاطع طريق خراساني مشهور عهد للمأمون بتربية أبناءه في بلاطه فخرجوا علماء - وهكذا.
الأجواء العلمية التنافسية الحادة على مناصب الدولة وريعها في المجتمع العباسي، هي من سرعت بترجمة النصوص القديمة وتحليلها ونقدها وتعديلها. التفسير والتحليل، ومن ثم النقد والتعديل، معناه إنتاج علوم جديدة، وكما يحدث مع كل تجربة حضارية كبرى، هناك طفرات علمية، فكانت مرحلة الطفرة العلمية العباسية (Saliba: 2007). 
لكن كما هو متوقع لم تبقَ العلوم العليا حكراً على أبناء النخبة القديمة، فدخل أبناء العرب والبربر والصقالبة والترك والقشتاليين لدراستها وفهمها والإبداع فيها حالهم حال إخوانهم السريان والفرس والآخرين. وهذا يفسّر ظهور الكندي وجابر بن حيان والزهراوي وابن النفيس وابن الهيثم والفزاري وغيرهم، لكن الطريق لم يكن سهلاً في أجواء المنافسة خاصة ممن انحدر من أصول صنفت كهامشية بلا سند.
لنأخذ مثال المترجم العربي الكبير حنين بن إسحاق (ت 873م ببغداد) كما يروي ابن أبي إصيبعة (ت 1270م بصلخد من أرض الشام)، وهو من طبقة العباد النسطورية المسيحية من مدينة الحيرة. العباد جاء كثير منهم من شرق الجزيرة العربية (البحرين الكبرى)، واشتهر هؤلاء بالتجارة والصيرفة.
وردّ حنين على يوحنا بن ماسويه طبيب الخليفة وأحد أهم الشخصيات العلمية ببغداد طلباً لتعلم الطب. رغم الرابطة المسيحية بين الاثنين، رفض ابن ماسويه تطفّل من هم من أمثال بن إسحاق على عالم الطب، فامتنع عن تعليمه. يرجع ابن أبي أصيبعة ذلك إلى كون الأخير من أبناء الصيارفة. الخلفية التجارية لحنين نفرت ابن ماسويه المنحدر من مدينة جنديسابور الفخورة بتراثها الطبي منه. نهر ابن ماسويه حنيناً لأنه ألح عليه بالأسئلة، فصاح به: «ما لأهل الحيرة ولتعلم الطب؟ صر إلى فلان من قرابتك يهب إليك خمسين درهماً تشتري فيها قفافاً بدرهم.. فإنه أعود عليك من هذه الصناعة، ثم أمر به فأخرج من داره، فخرج حنين باكياً مكروباً» (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص206) 
لم يستسلم حنين رغم شعوره بالإهانة، فاختفى عن الأنظار سنتين أو أكثر، قضاها يدرس اللغة اليونانية في بلاد الروم. ولما عاد، عاد متخفياً حتى أثبت للجميع قدراته اللغوية البارعة كمترجم وناقل محترف للعلوم اليونانية الصعبة إلى العربية، فقدّرته بغداد واشتهر بها وأسس بدوره سلالة طبية إدارية من المترجمين ليبدع وينافس الآخرين. 

حضارة عربية إسلامية 
قد تعطينا هذه القصة صورة عن طبيعة المنافسة، فبعد قرنين من الفتح لم يعد مجدياً التركيز على من هو عربي ومن هو أعجمي، لأن المنافسة الطبقية والمهنية كانت بين أبناء الطائفة والإثنية الواحدة. طبقة الكتبة الفرس كانت قوة اجتماعية متماسكة نسبياً أمام الأقلية العربية الحاكمة. لكن التعريب والأسلمة، خلطت الأوراق، وظهرت بتعاقب الأجيال مراكز قوى وعصبيات جديدة، عابرة لخط المواجهة الأول بين ما هو فارسي مجوسي وعربي مسلم وسرياني مسيحي. فولد هناك مجتمع جديد يعرف نفسه أولاً بثقافته الإسلامية التي تحكم أخلاقيات ومسار تطوره العلمي كما رأينا عبر هذا السرد. فرضت اللغة العربية التي طورتها علوم الترجمة من الديوان وما بعده لتصير لغة العلم والأدب من إشبيلية لسمرقند، حتى صار لزاماً على كل عالم إن شاء أن يقرأ آخر النظريات العلمية، أو أن يقرأه العالم آنذاك بأن يكتب بالعربية، كما يفسر جورج صليبا هوية هذه الحضارة. الهوية العربية الإسلامية وحملة لواء هذه الحضارة كما رأينا، من قلبها خرج أبناؤها من مسيحيين ويهود ومجوس، وعجم وعرب ومسلمين وثبّتوا أركانها وعمّروا بنيانها.
يعلمنا جورج صليبا ومن قبله ابن النديم مما تقدم ألا بديل لنا عن الدولة، مشروع الدولة النهضوية المستقلة، سابقاً وحالياً. ويلفت انتباهنا إلى دراسة تاريخنا من زاوية تطور علومها لا التعميمات الأدبية والطائفية لتقييم أهمية تلك الحقب والسلالات. ولنا إلى ذلك عودة.
* كاتب عراقي