تشهد السعودية حملة محمومة من العسف الأمني، تجاوزت في مداها استهداف المعارضين التقليديين الخارجين عن القانون بالعنف المسلح مثل قيادات «القاعدة» ومطارديها ومنظريها، أو أولئك المعارضين للوهابية فكرياً سواء كانوا من دعاة حقوق الإنسان أو المدافعين عن حق المرأة، أو من الأقليات المذهبية كالشيعة والإباضية، أو المعارضين سياسياً مثل المقربين من قطر كالإخوان، أو المؤيدين الفاعلين للقضية الفلسطينية ممن يعارض التطبيع مع العدو الإسرائيلي.أن يُعتقل الشيخ الفوزان، وهو من أبرز حماة عقد التحالف العميق بين المؤسسة الوهابية الدينية والمؤسسة السعودية الحاكمة، بعد أن طاولت يد العسف جملة من المشايخ المعروفين بطاعة أولي الأمر في السرّاء والضراء كسلمان العودة وسفر الحوالي ومساعد الطيار، وغيرهم كثيرون من أركان المدرسة الوهابية المدافعين عن سياسة المملكة وخطها العقدي بخاصة في الحرب على كل من يختلف مع الوهابية من قريب أو بعيد... يبدو حينها طبيعياً أن تنفذ المملكة الإعدام بحق معارض شيعي كبير كنمر النمر، أو أن تعتقل الثائر على الوهابية حسن بن فرحان المالكي، أو أن تجلد المعارض الليبرالي الحقوقي رائف بدوي، وحتى أن تنكل برؤوس الأموال الكبار وغيرهم من الأمراء الميسورين كالوليد بن طلال وغيره ليدفعوا للدولة ملياراتهم التي نهبوها باسم الدولة عربون مواصلة الحرب الطويلة على فقراء اليمن من دون نهاية. امتدت يد البطش بحق رجال قضوا عمرهم وأهانوا ذواتهم وتقلبوا بين فتوى ونقيضها حرصاً على رضا السلطان، وهذا مما يبعث على الغرابة في مستوى التخبط الذي يسكن ابن سلمان وحشمه في إدارة المملكة!
أيّ خاتمة دنيوية ودينية تنتظر مشائخ الوهابية في مواجهة زحف التنين، فابن سلمان قطع وعوداً لترامب في تحويل مسار المملكة من راعية للدين وخدمة الحرمين، إلى رعاية سياحية وخدمات فندقية في غطاء رأس أو من دونه، أو كان الملتقى للعمرة أو لأسبوع الموضة ومعرض موسيقى الجاز، فكل ذلك سواء، خصوصاً بعد أن حفلت المملكة باستقبال إيفانكا ترامب وحاشيتها في العراء. هو التاريخ يعيد نفسه منذ العهود السلفية السابقة. كان وعاظ السلاطين يستميتون في الدفاع عن ظلم أولياء نعمتهم، ولكنهم في لحظة طيش من هؤلاء الحكام كانوا يدفعون رقابهم تحت أحذية جبروتهم. حصل هذا في العهد الأموي والعباسي وفي كل العهود.
قبل قرون مضت، وتحديداً في بداية القرن الثامن الهجري، كان مهوى أفئدة الوهابية ومرشد مؤسسها الأول محمد بن عبد الوهاب، الشيخ ابن تيمية يقضي بوجوب طاعة المماليك شرعاً، وأن السنّة هي في القتال تحت رايتهم، وأن انتصارهم على أعدائهم التتر حتماً مقضياً لا يحتاج أن يرتبط بدعاء المشيئة الربانية حتى. وجزم أن سلطانهم الأشهر الناصر قلاوون خليفة راشدياً، ولم يخالفهم في أمر ديني أو دنيوي، ولكنه سعى لإخضاع دوائر الإفتاء في دمشق والقاهرة تبعاً لميوله الحادة، فواجهه هؤلاء القضاة من المذاهب السنية الأربعة والصوفية بولاة الأمر في الشام ومصر وفق ما كان لهذه الدوائر من نفوذ قضائي واسع.
وسبق لابن تيمية أن اعتبر إعدام الأمويين لجملة من كبار المفكرين كالجعد بن درهم وغيلان الدمشقي وغيرهم، لمجرد رأيهم الفكري السياسي، إعداماً شرعياً جزاء بدعتهم، ورأى أنّ هذا الحكم هو حكم السلف الصالح الصحيح في قمع البدعة ولو كان ما ابتدعوه مجرد رأي عقلي بارد لم يصاحبه تمرد مسلح ولا دعوة ضد السلطان الأموي.
صحب ابن تيمية يوماً السلطان قلاوون بنفسه إلى جبال كسروان في حملة إبادة واسعة ضد العلويين، سنة 705هـ، وفي غمرة هذا الغزو المبارك عند ابن تيمية فقد اعتبر هذا السلطان خليفة راشدياً، يتجاوز الأمر معه مجرد الطاعة، إنما هو في قائمة أئمة الهدى الذين حباهم الله وراثة مقام النبوة. ولم تكد سنوات عقدين من الزمن تطوي فصولها، والسلطان هو ذات السلطان بذات الاسم والمسمى الناصر قلاوون، ما زال يعتلي ذات العرش، وابن تيمية هو ذاته في طاعة السلطان، وفي التحريض ضد العراق الذي دخل حكامه التتر في الإسلام بإرادتهم، حتى منعوا الخمور، وهي لم تزل تباع في أسواق الجارة دمشق تحت حكم المماليك في شكل طبيعي، وهو ما فتئ ابن تيمية يستنكره. وهو ابن تيمية ذاته في مقارعة قضاة المذاهب الأربعة والصوفية، في مجادلات تصوير هيئة الرب تعالى، ضمن روايات مبعثها إسرائيلي، وهو ما حاكمه عليه القضاة، خصوصاً بعد أن حرّم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا عليه وقضوا بحبسه، وهو ما سكت عنه السلطان المملوكي، على رغم أنه تدخّل عدة مرات سابقة لمصلحة ابن تيمية فأطلقه. سكت عن إيداعه سجن القلعة لأن إرضاء قضاة المذاهب الأربعة والصوفية صار أكثر إلحاحاً في ظل سعيه لتثبيت ملك ولده أبا بكر، ونفوذ القضاة الأربعة والتيار الصوفي كان واسعاً في تلك الفترة، فيما لم يكن شأن ابن تيمية يتجاوز أتباعاً ومريدين داخل المذهب الحنبلي في دمشق، وهو شأن تعاظم لاحقاً نظراً لوفاته في السجن لمجرد آراء عقدية وفقهية رآها.
بقي ابن تيمية في سجون ولاة أمره الراشدين حتى وافته المنيّة، في صراع كلاميّ مع خصومه العقديين، من دون أدنى بعد سياسيّ، ولكن التاريخ في اختزالاته خلّف لنا صورة رمزية لابن تيمية جعلته في درة الثائرين على الظلم السياسي.
فهل يعيد التاريخ نفسه مع سفر الحوالي والفوزان والطيار، وغيرهم من أعلام الوهابية، الذين ما ثاروا يوماً على ولاة أمرهم، ولكنها هستيريا وليّ العهد الشرعي في تطوير المملكة في عامين بما تجاوز مئة عام، بحسب تزلف عدنان إبراهيم الذي أخذته هذه الهستيريا لتمنع بث برنامجه الفكري على قناة روتانا السعودية، فتوجب أن يطيع وقد حكم على نفسه سلفاً بطاعة عبر الحدود ولو على حسابه، وهو الفلسطيني المقيم في منافي أوروبا بعيداً من طاعة أي سلطان.
أن تموت صامتاً في سجن وليّ نعمتك، تقرباً إلى الله، يبدو أنه هو الخيار الوحيد لهؤلاء الدعاة، الذين دعموا الحرب على اليمن وسوريا والعراق والبحرين وليبيا، وقد حصدت أرواح مئات الآلاف وما زالت. وهم الذين قضوا سنين عمرهم في تزيين صورة آل سعود، مع دمغها بطابع خدمة الدين ومقدساته، وهو تزيين تجاوز حدود مملكة الرمال ليطاول كل مسلم يؤمن بعالمية هذا الدين، وقد لفحته عقيدة التوحيد الوهابية في ولاء وبراء، ولاء في ذمة آل سعود وسياستهم، وبراء من كل المسلمين الرافضين لهذه العقيدة النجدية.
* كاتب فلسطيني