ثمة علاقة جدلية ومتراكبة تربط أنوات المجتمع الفردية وأيضاً مكوناته البنيوية. وتعزز من الترابط الاجتماعي، أو تفاقم من تفككه وانحلاله، عوامل متعددة منها طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية، والعقليات السائدة ومستوى الوعي وأشكاله.ومن المعلوم أن التداخل والتراكب والتفاعل الذي يميز طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر في مرحلة الاستقرار الاجتماعي وأيضاً السياسي، يمكن أن ينقلب رأساً على عقب، لحظة دخول المجتمع مرحلة انتقالية. ولذلك علاقة مباشرة كما أسلفنا بطبيعة الوعي الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية البينية الفردية والكتلية، وأيضاً السياسية، إضافة إلى طبيعة التغيير وأدواته وحوامله.
فإذا كانت سيرورة المرحلة الانتقالية تندرج في سياق التغيير السلمي التراكمي، فإن طبيعة العلاقة على المستوى الفردي، وبين مكونات المجتمع، تبقى في إطار التفاعل والتناقض المضبوط، ما يعني استمرار إمكانية المحافظة على الروابط المجتمعية، وأيضاً البناء على ما هو قائم، والانتقال به إلى مراحل وأشكال أكثر تطوراً. أما في حال كان السياق الانتقالي محمولاً على وسائل عنفية، فإنه يدفع في سياقاته المتغيرة إلى ظهور أشكال من التناقض المجتمعي تصل بلحظات معينة إلى درجة المواجهة المباشرة، ويساهم أيضاً في تذرر مكونات المجتمع وانقسامه. وتتفاقم مخاطر تلك التداعيات بفعل ارتفاع مستوى العنف والعنف المضاد، وتداخل تناقضاته البينية مع الأوضاع الدولية. في السياق نفسه، إن طبيعة العلاقات المجتمعية البينية تنكشف على جملة من التحولات تبدأ من رفض الآخر، ومناصبته العداء، وهدر فكره وتجريمه والنظر إليه على أنه عدو لا يمتلك مشروعية الوجود، ومن ثم إباحة هدر دمه، وتبرير القضاء عليه رمزياً وأيضاً وجودياً. ويتلازم ذلك مع إيجاد المبررات والذرائع التي تبيح للأنا قتل الآخر الذي هو أنا من موقع مختلف. بهذا المستوى، يصبح شكل العلاقة بين الأنا والآخر قائماً على التناقض الجبهي التناحري، ما يعني أن وجود الأنا يرتبط بفناء الآخر أو إفنائه، فيضيق الحيز المكاني على مكونات المجتمع، ويتحول إلى مجال للصراع المفتوح. وبوصول المجتمع إلى الحالة المذكورة، تدخل مكوناته مرحلة التدمير الكياني الذاتي، فيتحول الخلاف إلى اختلاف، والتباين إلى تناقض، والتناقض إلى صراع، والصراع إلى تدمير للذات. بهذا المنطق، يصبح المجتمع بكليته مهدداً بالدمار والإفناء المتبادل.
الخروج من دائرة إنكار
الآخر وإلغائه يحتاج إلى آليات تفكير للانفتاح


ونشير في السياق المذكور إلى أن الخروج من دائرة إنكار الآخر وإلغائه يحتاج إلى آليات تفكير تمكّن الانفتاح على الآخر المختلف عني والدفاع عن حقه بالوجود. فحق الاختلاف من القضايا الطبيعية، وذلك يعني أنه لا يحق لأحد أن يصادره، فوجودي كأنا ذاتية يعني وجود الآخر، والعكس بالعكس.
تأسيساً على ما سبق يمكننا القول إن لحظة اغتيال العقلية العقلانية المتمثلة بلغة الحوار الموضوعي، والتفاعل البنّاء والمنفتح على التطور والتحول والانتقال والارتقاء، واعتماد أشكال تفكير أحادية إقصائية تقوم على لغة الرفض واستعداء الآخر وتجريمه، هي ذات اللحظة التي يدخل فيها المجتمع دهاليز الإفناء المتبادل.
ما يعني أن تجاوز لحظة انقطاع لغة التواصل، وهيمنة لغة العنف والقتل المتبادل، يحتاج من الجميع، أفراداً وجماعات وكيانات، استبدال منهج إنكار الآخر وإفناءه بمنهج آخر يقوم على التواصل والتفاعل والتنسيق المشترك، أي إننا بحاجة إلى بناء مجتمع مفتوح يكون فيه المجال العام متاحاً للجميع، وأن أنظر كأنا فردية أو جمعية إلى الآخر بكونه أناي، وأن ينظر بدوره إليّ بكوني أناه. ولا يعني ذلك أننا ننظر إلى المجتمع من منظور التماهي والتطابق. لكن تأكيد وجودي متلازم مع حق الآخر بالوجود. ووجود الآخر يرتبط بوجودي. والوجود بالمعنى المذكور لا ينحصر بحدود الوجود البيولوجي، لكنه يمتدّ إلى مستويات أخرى تتمثل بالتفكير والاعتقاد وأشكال الحياة اليومية والممارسة السياسية والمدنية.
لكن في حال استمرار التعامل مع الآخر بكونه آخر متخارجاً عني، وتعامل معي بكوني آخر متخارج عنه، فإننا سنبقى ندور ضمن دائرة الطحن الذاتي المتبادل، وذلك يناقض الكينونة البشرية القائمة على التنوع والتفاعل والتباين، وأيضاً التطور القائم على التشارك والتكامل.
* كاتب وباحث سوري