في الوقت الذي تتسارع فيه خطى التسوية (سياسياً وعسكرياً) في الجبهة الجنوبية (بغض النظر عن بعض العثرات التي يمكن أن تطرأ على حركتها دون توقع أن تغير اتجاهها)، بدأت الأنظار تتجه نحو الشمال السوري بشقيه الشرقي والغربي، حيث تتداخل العوامل والمشتركات الداخلية والإقليمية والدولية. وما من شك في أن موضوع الشمال سيكون «فصل الختام» في هذه الأحداث الدموية التي لم تكن (إلى أمد قريب) تلوح في أفقها أي بارقة نهاية!
الشمال الشرقي
العقدة الأساسية التي ترتبط بها كل العقد الأخرى في ذلك الشمال هي العقدة الكردية. فما من شك في أن «قوات سورية الديموقراطية» تشكل الطرف الأهم في تلك المنطقة، وهي القوة المكونة من قوات كردية ضاربة أثبتت حضوراً ميدانياً فعالاً في مواجهتها تنظيم «داعش»، وفي سيطرتها على مساحات واسعة من الأرض السورية تكاد تشمل الجزيرة كلها بكل ما فيها من مكونات اجتماعية متنوعة وثروات زراعية ومائية ونفطية وغازية يمكن القول إنها الجزء الأهم من ثروة سوريا كلها. وربما تكون المنطقة السورية الوحيدة (من بين المناطق التي سيطرت عليها تنظيمات مسلحة) التي أقيمت فيها «إدارة ذاتية» ببنية حكومية وإدارية منظمة إلى حدّ بعيد.
وهي فوق ذلك كله تتمتع بدعم قوي ومباشر من الحضور العسكري الأميركي في المنطقة بكل ما له من تأثير وفعالية في مواقف الأطراف الأخرى الوطنية والإقليمية والدولية المتعلقة بشأن الشمال الشرقي السوري! هذه المعطيات قد تشجع بعض القوميين المتطرفين من الإخوة الكرد (وهم أقلية لكنها مؤثرة) على «الطموح» إلى الانفصال عن سوريا وتشكيل كيان كردي مستقل ربما يعتقدون أنه يمكن أن يحظى بحماية أميركية طويلة المدى، كما يمكن أن يستند إلى دعم إسرائيلي غير محدود!
لكن مثل هذا الطموح يتجاهل مجموعة عوامل معاكسة:
1- إن الرهان الكردي على الدعم الخارجي قد سبق أن أدى بالحركة التحررية الكردية في المنطقة إلى كوارث لا يمكن تجاهلها. ولسنا بحاجة إلى التذكير بمحطات هذه الكوارث في تجارب الإخوة الكرد في العراق، وآخرها تجربة «الاستفتاء» الذي أجراه السيد مسعود البارزاني العام الماضي، وأدى إلى فشل ذريع أصاب المشروع الكردي في العراق بتداعيات مصيرية، رغم كل ضعف الحكم المركزي في بغداد. وما من شك في أن تجربة التنظيمات السورية المسلحة في الجنوب مع الدعم الأميركي تشكل درساً طازجاً في هذا المجال لا يمكن تجاهله!
2- إن مقومات الكيان الكردي في سوريا أضعف بما لا يقاس منها في العراق، فالإقليم الكردي العراقي (المستند إلى منطقة كردية بكاملها تقريباً) كان يشكل «دولة» مستقلة بكل معنى الكلمة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويتعامل مع بغداد كما يتعامل مع الجوار الإقليمي ومع المجتمع الدولي على أساس الاعتراف الواقعي بهذا الاستقلال.
مقومات الكيان الكردي في سوريا أضعف بما لا يقاس منها في العراق


3- إن منطقة الجزيرة السورية التي لا يشكل الكرد إلا نسبة تقل عن 30% من سكانها محاصرة من جميع الجهات، وعليه سيكون من الصعب (إن لم نقل من المستحيل) أن تتوفر لها أسباب الحياة الطبيعية في غياب علاقات ودية مع جوارها: الوطني السوري أولاً، أو التركي أو العراقي ثانياً. فكيف في غياب ذلك كله؟
4- إن المدن الحدودية في هذه المنطقة، التي يشكل الكرد نسبة كبيرة من سكانها، مهددة حتى في أوضاعها الحالية، رغم الوجود الأميركي، باجتياح تركي مشابه لما حدث في عفرين. وهو أمر لا يخفيه المسؤولون الأتراك بل يتحدثون عنه يومياً، فكيف في حال الانفصال وإعلان الكيان الكردي المستقل؟
بناء على كل ما تقدم نرى أن الخيار الوحيد المتاح أمام «قوات سوريا الديموقراطية» (أو «وحدات الحماية الكردية» التي تشكل نواتها) هو الدخول في مفاوضات جدية مع الدولة من أجل التوصل إلى صيغة وطنية لعلاقات مع دمشق تقوم على قاعدة الوحدة الوطنية السورية. وقد كتبنا منذ سنوات أن القاعدة التي تحكم مثل هذه العلاقة (سواء في العراق أم سوريا) هي أن الكرد يتمتعون بمقدار من الحرية في مناطقهم يتناسب طرداً مع إيجابية العلاقة مع العاصمة وحضورهم فيها ومشاركتهم في دولتها.

الشمال الغربي
إذا تصورنا أنه يمكن التوصل إلى صيغة وطنية مع الكرد في الشمال الشرقي تقصي بوضوح خيار الانفصال، فإن ذلك يشكل أساساً فائق الأهمية لموضوع التعامل مع الوجودين التركي والمعارض السوري في الشمال الشرقي. فسواء أكانت المخاوف التركية من قيام كيان كردي في سوريا (تدخلوا عسكرياً لمنعه من التمدد غرباً) يشكل تهديداً مباشراً للوحدة التركية، حقيقية أم مجرد ذريعة للتدخل المباشر في الأراضي السورية، يبقى إسقاط هذه الحجة- الذريعة عاملاً مهماً في تشكيل ضغط سوري وإقليمي ودولي على أنقرة من أجل دفعها إلى الانسحاب من الأراضي السورية، حتى لو رُبط ذلك بأن تشمل المفاوضات مصير التنظيمات المعارضة السورية (المدنية منها والمسلحة) التي تجمعت في تلك الأراضي من الأنحاء السورية كافة ومناطق التسويات فيها.
وهنا لا يمكن تجاهل الدور المهم في هذه العملية الشمالية (شرقاً ثم غرباً) الذي يقع على عاتق الطرف الروسي المؤثر جداً (ضغطاً أو توسطاً) في تفعيل كل هذه المعطيات. ومن أجل إلقاء الضوء على هذا الدور، نورد ما قاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه حول هذا الموضوع، إذ قال حرفياً في حوارات مع المخرج الأميركي أوليفر ستون، نشرها الأخير في فيلم وثائقي وفي كتاب، يحملان عنوان «حوارات مع بوتين» ما يلي:
- ستون: هل لك أن توضح لنا سبب إرسالك قوات إلى سوريا؟ ما هو هدفك من ذلك؟ هل تستطيع أن تحدثنا بعض الشيء عن دوافعك آنذاك، وأين أنت الآن؟
- بوتين: هذا أمر يمكن شرحه بسهولة. نحن نرى ماذا حدث في بعض بلدان المنطقة. وأنا أشير هنا تحديداً إلى العراق وليبيا. أما ما يتعلق بالرئيس (المصري عبد الفتاح) السيسي، فمختلف. فهذا ليس الشيء نفسه الذي حدث في مصر. هناك دول أخرى فيها مصاعب، لكن ما حدث في ليبيا والعراق مآس مرتبطة بأن الأنظمة فيها قد أطيحت بالقوة، والأسوأ أن هذه الأنظمة قد دمرت وجرت تصفية قياداتها. نحن لن نسمح بحصول الشيء نفسه في سوريا، وإلا فإن المنطقة كلها ستغرق في الفوضى، أكثر من ذلك: إذا ما تكرر الأمر الليبي في سوريا، فإن وضع التنظيمات المتطرفة (الراديكالية) والتنظيمات الإرهابية سيتعزز بقوة. وهي الآن قوية لأنها تسيطر على جزء كبير من النفط المستخرج من المنطقة.
-ستون: من تقصد بهؤلاء؟ الإرهابيون؟
- بوتين: نعم. الإرهابيون. إنهم يبيعون الآثار والتحف والقطع الفنية ويتلقون المساعدات من الخارج. لقد أصبحوا أقوياء جداً. ويجب علينا بصورة مطلقة أن نمنعهم من أن يصبحوا أكثر قوة، لأنهم يسعون إلى إقامة خلافة تمتد من جنوب أوروبا إلى آسيا الوسطى.
- ستون: فعلاً. هذه هي مشكلتك الخطيرة؟
- بوتين: نعم. هذه هي مشكلتنا الخطيرة. لكن لنا أيضاً أهداف عملية. ثمة آلاف من المقاتلين من أصول روسية أو من دول سوفييتية سابقة يقاتلون هناك، ومن الممكن أن يعودوا إلى روسيا. يجب أن نحول دون ذلك. وهذا ما دفعنا إلى اتخاذ عدد من الإجراءات التي تعرفها.
في الوقت نفسه نحن مدركون تماماً أن القيادة السورية الحالية قد ارتكبت عدداً من الأخطاء في كيفية بناء علاقاتها داخل بلدها. ولهذا السبب عملنا، قبل اتخاذ قرارنا، على الحوار مع الرئيس (السوري بشار) الأسد. وقال لنا إنه ليس فقط مدركاً تماماً المشكلات المتعددة التي تواجه بلاده، بل يرغب أيضاً في إجراء حوار مع قوى المعارضة، بما فيها المسلحة. ولديه رغبة في العمل معها من أجل التوصل إلى دستور جديد، وعلى استعداد لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في ظل إشراف دقيق من قبل المجتمع الدولي.
- ستون: فعلاً؟
- بوتين: يجب أولاً أن يتم التفاهم على الدستور الجديد وقبوله. هدف صعب وعملية معقدة، لكنها يجب أن تتم، ثم يتم بعد بعض الوقت تنظيم الانتخابات المبكرة. تقديري أن هذا هو الحل الأفضل والطريقة الديموقراطية لحل النزاع حول كيفية بناء سلطة شرعية.
- ستون: هل نستطيع العودة، لو بسرعة، إلى مناقشة الأخطاء التي ارتكبها الأسد؟
- بوتين: لا أعتقد أن لي أن أتحدث عن أخطاء ارتكبت من رؤساء دول أخرى هم نظراء لي وزملاء. مع ذلك، ورغم الأخطاء التي ارتكبت، لم تكن الحال في سوريا لتصل إلى ما وصلت إليه لو لم يكن هناك تدخلات خارجية. لقد سمعنا أقوالاً عن أن الرئيس الأسد في نزاع مع شعبه، لكن هذا ليس صحيحاً أبداً. نحن نعرف ما يقوله داعش؛ ثمة الكثير من المرتزقة هناك. وهم ليسوا مواطنين سوريين. أكثر من ذلك من الضروري التفكير في الكيفية الملائمة لبناء قيادة في سوريا تضمن مشاركة كل الجماعات الإثنية والدينية في الدولة: المستوى الأعلى في الدولة. وبجب أن تشعر هذه الجماعات باستقلالها وأنها حرة من أي ضغط خارجي كما تشعر بأنها في وضع آمن. (النسخة الفرنسية ص 203 و204).

خلاصة
على ضوء هذه القراءة، نستطيع أن نرى دوراً روسياً منشطاً وفعالاً سواء في الحوار مع الكرد السوريين في شمال سوريا الشرقي، أو التفاوض مع تركيا حول انسحابها من الشمال الغربي والوصول إلى تسوية نهائية مع قوى المعارضة التي لا تزال هناك تحت المظلة التركية. وهو في الوقت نفسه يتضمن حواراً جدياً مع دمشق نفسها حول الصيغة السياسية للتسوية الداخلية المنشودة.
ولعله من المفيد جداً أن نشير في الختام إلى أن ما يزيد من أهمية «خريطة الطريق» هذه أنها قد تكون بنداً رئيسياً على جدول أعمال القمة الروسية-الأميركية المتوقع انعقادها بعد أيام في هلسنكي، دون أن ننسى الحضور الموازي في هذه القمة لحوار متعلق بمتوازي الأضلاع الأميركي- الإسرائيلي- الروسي -الإيراني. وهو حوار مؤثر ومتأثر بما يمكن أن يتحقق في الحوار الأول.
* كاتب سوري