حسابات انتخابيةقد يقول قائلٌ أنّ من الممكن تفسير نتائج الانتخابات في لبنان بحسب القواعد الكونيّة للتصويت الشعبي وطبائعه. على مثال أنه حين تنخفض نسب التصويت الاجمالي، مثلاً، أو لا تجري الانتخابات على خيارات كبرى متعارضة ومتنافرة، تكون الأفضلية للقوى مثل «حزب الله» و«القوّات اللبنانيّة» التي تملك تنظيماً شديداً وانضباطاً وجمهوراً مسيّساً ـــ أي انّه يرتبط بشكلٍ دائمٍ بحزبه، ويشارك في نشاطات دوريّة ويحضر اجتماعات ويؤدّي واجبات، وليس «جمهور مؤيّدين» فضفاض، يكبر وينحسر بحسب المناسبة والحماسة و«الحوافز».
ولكنّ المسألة تذهب الى ما هو أبعد من الحسابات التقنيّة أو العوامل النفسيّة (الكثير من المراقبين الخارجيين، مثلاً، لا يفهمون كيف أنّ الانتخابات في لبنان لا تفرز أكثرية واضحة ومتحكّمة أو انقلاباً في مقاليد السلطة، ولا أحد ينال أو يسعى الى «النصف زائدا واحدا» في البرلمان، أو أنّ التحالفات التي تلي الانتخابات قد تكون أهمّ منها). من واجبي، كما في كلّ نقاشٍ عن الانتخابات اللبنانيّة، أن أذكّر بأنّنا أمام نظامٍ لا تستوي فيه الأصوات الانتخابيّة (وهذا، كما نعلم، هو القاعدة الأولى في الديمقراطيّة التمثيلية)، ومن أبرز «مزايا» القانون الجديد هو أنّه قد أخذ هذه الحالة الى مستوياتٍ جديدة متطرّفة. ما معنى أن يكون «الحاصل الانتخابي» في دائرة جنوبيّة ثلاثة أضعاف مثيله في دائرة بيروت الأولى؟ هل تمزحون معنا؟ نائبٌ بستة آلاف صوت وآخر بعشرين ألفاً، وهما يمثّلان «الشّعب» بشكلٍ متساوٍ؟ كيف تبرّر أن يكون لمواطنٍ ثلاثة أضعاف التمثيل السياسي الذي يحوزه مواطنٌ آخر، أو ضعف «قيمة» صوته، أو أن يوازي لبناني من جبل لبنان «لبنانياً ونصف» من الشمال، انتخابياً؟
حتّى لو تواطأ الجميع (من السياسي التقليدي الى المعارض الثوري «الديمقراطي» الى لجان الانتخابات والمراقبة و«الديمقراطية») على تجاهل هذه المسألة وتجنّب الخوض فيها ــــ والسبب نعرفه، وهو طائفيٌّ بحت ــــ فإنّها مشكلةٌ تشبه أزمة الدّين العام، لن تزول إن تناسيتها، وهي ستتّسع وستضطرّ الى مواجهتها عاجلاً أم آجلاً. والبعض يخلط بين هذه المسألة وبين «الكوتا الطائفية» (وهما مسألتان منفصلتان، فالكوتا هي تدبير مؤسسي وسياسيّ، ومن الممكن تفهّمه، فيما نحن هنا نتكلّم على أوضح انتهاكٍ لمبدأ المساواة بين المواطنين). حتّى الطائفية والمحاصصة لها «أصولٌ» وقواعد وحدود وانت، حتّى نبسّط الأمر، عليك أن تختار: امّا نظريّة البطريرك صفير عن «أن ينتخب أبناء الطوائف نوّابها»، ولكن عليك ساعتها أن تنسى الكوتا الطائفية وتترك لكلّ كتلةٍ أن تحدّد حجمها بحسب العدد، أو يمكنك أن تحافظ على الكوتا الطائفية وضمانة عدد النوّاب، ولكن من دون أن تختار من يصوّت لمن. أمّا أن تجمع قاعدتين طائفيّتين ومعاديتين للديمقراطية في آن، فهذا يوصل الى النتائج التي نشهدها اليوم. لو أنّك أخذت أصوات اللبنانيين في هذه الانتخابات، واعتبرتها متساوية في القيمة، لخرجت بنتائج تختلف جذرياً عن البرلمان القادم، وهذه حالٌ لا يمكن أن تبرّر وأن تستمرّ.

السّلاح والإصلاح
في التّحليل اليساري الشائع عن جذور الحرب الأهلية نظريّة لطيفة وإن كانت تبسيطيّة، وهي أنّ الزعامات التقليديّة قبيل الحرب، وقد أقلقها تنامي التناقضات الاجتماعية ونشوء وعيٍ يشكّك بالنظام ونخبته، «استخدمت» الطائفية حتّى تشقّ الجمهور بحسب ملله، وتمنع صعود وعيٍ وطنيٍّ معارض عبر وضع الفقراء في مواجهة بعضهم البعض. هذا الإطار، في رأيي، ينطبق كثيراً على موضوع سلاح المقاومة، وهو الأمر الوحيد الذي يجعل للانتخابات اللبنانية قيمةً في عواصم الغرب والاقليم. لمن يريد أن تكون الانتخابات اللبنانيّة قائمة على البرامج والقضايا المعيشيّة وحاجات النّاس، كما في «البلاد الطبيعية»، فإنّ ثمن ذلك معروفٌ. في عالمٍ مثاليّ كانت القوى اللبنانية الرئيسية ستجتمع وتعلن، قبل عشر سنوات، أنّ سلاح المقاومة هو شرعيٌّ وخارج النّقاش، وأنّها ستقف الى جانب المقاومة في أيّ مواجهةٍ مع العدوّ. عندها كان سيقفل الموضوع وكنّا سننتقل، ببساطة، الى القضايا الأخرى وسيكون للانتخابات معنىً مختلفاً. ولكن، حين تتوجّه الى أناسٍ تستهدفهم اسرائيل وتهدّد حياتهم وبيوتهم وحرّيّتهم (بالمعنى الحقيقي والمباشر والشّخصي) لتخبرهم بأنّ طموحك السياسي يتمثّل في نزع سلاح المقاومة («سلاحهم» الذي يحميهم، من اسرائيل ومن الذبّاحين)، فمن الطبيعي أن يصوّتوا ــــ بكلّ مشاربهم واتجاهاتهم ــــ دفاعاً عن هذا السّلاح ومن يحمله، وأن يكون هذا الموضوع هو الأولويّة بالنسبة اليهم في كلّ مناسبةٍ سياسية وانتخابات.
هذا أمرٌ منطقيّ ولا يحتاج الى تجييشٍ ودعاية وإتفاقٍ انتخابيّ، ومن يتعالى على مخاوف الناس وتاريخهم وشهدائهم، فيجب أن يتوقّع أن يتجاهلوه بالمقابل، وحين تقول إنّك تنوي، قبل أيّ شيء، مواجهة المقاومة ونزع سلاحها (وهذا الهدف، على أرض الواقع، لا يمكن أن يحصل الّا بوسائل ثلاث: أن تصدم الجيش بالمقاومة، أو تحفّز حرباً أهليّة، أو تنتظر عدواناً خارجيّاً يضرب المقاومة) فمن الطبيعي أن يتوجّس منك النّاس وأن ينظروا اليك كتهديدٍ وخصم. في الوقت نفسه، فإنّ الحرب على المقاومة وسياسة التحريض الطائفي ليست مجرّد تنفيذٍ لمطالب الرعاة الخارجيين، بل هي ايضاً وسيلة مثالية كي تتجنّب النّخبة المالية التي تحكم البلد أي نقاشٍ حقيقي عن اسلوب ادارتها للدولة والاقتصاد والثروة، وتضمن «تجميد السياسة» وإبقاء الحال كما هو عليه. بتوصيفٍ آخر: خارج إطار التحريض الطائفي والحرب على المقاومة و«صدّ الفرس» وصون «هويّة بيروت»، ما هو الخطاب الذي يمكن أن يعطي شرعية وحجّة لسياسي مثل سعد الحريري؛ النجاح الاقتصادي؟ ازدهار المجتمع في عهده؟ بناء الدولة؟ العقيدة والايديولوجيا والمُثُل؟
ما أثبتته هذه الانتخابات، مجدّداً هو أنّك لن تقدر على هزيمة مقاومةٍ ناجحة عبر «خداع» جمهورها أو إغرائه أو بـ«الوسائل الديمقراطيّة». حين يكون للإنسان ذاكرةٌ وهويّة سياسيّة واضحة، وخلفه تاريخٌ من انتصاراتٍ وتحرير وتضحيات، فهو يعرف جيّداً من هو ولماذا يقف في موقعه، ولن يسهل أن يهزّه الضخّ الإعلامي أو أن يعير صوته بقليلٍ من المال. الجانب الآخر لهذه المعادلة عبّر عنه باحثٌ عربيّ في الخارج، لا يريد ذكر اسمه، نبّه وهو يقرأ لائحة العقوبات الأميركية التي يتوقّع فرضها على «حزب الله»، والسياسات التي يتم التخطيط لها لمحاصرة المقاومة في لبنان وخارجه، أنّ النظام اللبناني اليوم يقوم على التعايش بين حركة مقاومةٍ مسلّحة وشعبيّة، لها امتدادٌ على طول الاقليم، تعيش في كنف دولةٍ تابعة مخترقة، تشبه الأردن أو المغرب، وهذا التزاوج بين النقيضين لا يصلح، هو الآخر، لأن يكون رهاناً أو أن يستمرّ الى الأبد.

طريق «المعارضة»
في وسعك، إن كنت تملك فائضاً من الوقت وتريد أن تلبس لبوس «المعارضة الجذريّة»، أن تتخيّل بأنّ كلّ القضايا أعلاه ليست بذات قيمة، أو هي «وهمٌ»، وأنّ الخيار «الحقيقي» هو بين «النّظام» (الذي يمثّله كلّ هؤلاء) وبين «المعارضة» التي تمثّلها انت ورفاقك (ومن الطبيعي حينها أن تصعد نظريات لوم الناس وتحقيرهم وممارسة الفوقية عليهم، كأنهم غير واعين لخياراتهم، حين تجدهم قد اختاروا «النظام» عليك). كانت لديّ نظريّة أنّه من الصّعب أن تكتب عن السياسة اللبنانيّة إن أخذت مقولاتها وقواعدها على محمل الجدّ، وعلى اعتبار أنّ لبنان بلدٌ حقيقي، اذ تصبح الكلمات فضفاضة والنقاشات دائرية والمقدّمات غير منطقيّة. ولكنّك، إن فهمت السياسة في لبنان على أنّها أشبه بمسرحٍ هزليّ أو كوميديا، تصبح الأمور أسهل على الفهم، ويمكنك أن تعالجها بلغةٍ تناسبها (وهذا لا يعني على الإطلاق أنّ التصرفات الهزلية لا تثمر نتائج مأسوية). ماذا تقول في سياسيّين يتكلّمون عن «إصلاحاتٍ» وعن إدارة الاقتصاد والدّولة وهم يعرفون جيّداً أنّ الدّولة مفلسة، وأننا تحت دينٍ عامّ لن نتمكّن من دفعه، والبلد يسير الى المجهول؟ ماذا تفعل حين يتوقّف من هم في القرار عن التخطيط على المدى البعيد لأنهم يعرفون أنّه قد لا يكون هناك «مدى بعيد» تظلّ فيه الدّولة كما هي؟ وماذا تقول في معارضة وأحزاب تتكلّم كأنّها تشنّ باستمرار ثورةً جماهيرية على «النظام» وبعضها، حرفياً، حالة كوميدية (أو حالة نرجسية، أو حالة مشبوهة)؛ وتريد أن تكون «صوت المواطن» من دون أن تفهم أنّ إفقار المجتمع له أسباب بنيويّة ويستلزم مواجهات حقيقيّة قاسية، ولن يوقفه دخول نائبٍ الى البرلمان أو اصلاح مجلس الخدمة المدنيّة.
سؤال «المعارضة» ليس معقّداً، وهو يبدأ عادةً في أن تبحث عن المهمّشين والمضطهدين والمقهورين وأن تعمل معهم (الّا إن كنت تنوي معارضة «النظام» وقلبه من خلال نخبته)، وأن تكون قادراً على جمع مظاهرةٍ خارج وسط العاصمة، وأن يكون عملك اليومي هو في الأطراف والأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين. حين تكسب هؤلاء النّاس وتثبّت نفسك بينهم، فأنت تبني حركة حقيقيّة ـــ ولمن يعتقد أنّ هذا كلامٌ مثاليّ فما أمامه سوى نموذج أسامة سعد. سعد لا يملك سلطةً ولا سلاحاً ولا مالاً، ولكنّه يفوز في المدينة التي شهدت أكبر استثمارٍ للحريرية السياسية، وأكبر قدرٍ من المغريات والضخّ الطائفي. يقود حركةً علمانيّة وتقدّميّة وتعمل مع الفلسطينيين كما اللبنانيين (كانت العلاقة الوثيقة بين فلسطينيي صيدا وآل سعد من أبرز عناصر التحريض ضدّه في التسعينيات، خاصة في صفوف الطبقة الوسطى)، وتؤيّد المقاومة حتّى النهاية وللأسباب الصّحيحة، وتفوز بأصوات الفقراء. ومع ذلك يعتبر الكثير من «المعارضين» ــــ والعلمانيين منهم تحديداً ــــ أنّ جومانا حدّاد هي من يشبههم ولا يحبّون أسامة سعد.
لهذه الأسباب، فإنّ الإنتخابات في بلدٍ كلبنان، قد لا تغيّر في الواقع شيئاً كثيراً، بل وقد لا تكون انتخاباتٍ تمثيليّة وشرعيّةً حتّى، الّا أنّها تعكس صورةً واضحة عن المسرح السياسي والإعلامي الذي يكتنفنا، وتقدّم دروساً لمن يريد أن يتعلّم. ليست كلّ السياسة اللبنانية كوميديا، وهناك أمورٌ قليلة «حقيقيّة» هي التي تظلّ بعد إعلان النتائج، وبعضها كان، هذه المرّة، ايجابيّاً ومشرقاً: خيبة المسؤولين في السّفارات وهم يستطلعون نتائج استثمارهم، فرح جمهور النّاصريين في صيدا، ونظرة اطمئنان على وجه مقاوم.