ما هو الشيء الذي يدفع هذا الجمهور البائس إلى تكرار التجربة ذاتها وهو يتوقع أن تأتي بنتائج مختلفة؟ لعلّه، هذا الجمهور، لم يقرأ لآينشتاين أنّ فعلاً كهذا هو محض غباء. وحدها العصبيات المذهبية ونشيد الخوف على الذات من الآخر كفيلة بردع فلول القطعان المتمردة عن خوض تجربة مختلفة، فهي ببساطة تخاف. لكن لو فكّر الجمهور الحزين الذي يجتّر أيامه في هذا المكان التعيس من الأرض، لماذا عليه أن يخاف؟ وهل التغيير يمكن أن يحمل أياماً أسوأ ممّا هو فيه؟ يتربع لبنان على عرش مرض السرطان في محيطه ويتسلق بسرعة عجيبة سلّم هذا المرض في المعدلات العالمية، بينما تتجاوز معدلات تلوّث الهواء ثلاثة أضعاف الحدّ المسموح به عالمياً. لقد اعتاد الجمهور أن يتصالح مع المزبلة، صارت شيئاً من عيشه اليومي تماماً كفنجان قهوة، تصاحبه على امتداد الخط الساحلي حتى صار غاز الميثان شيئاً من دورته الدموية ومكوّناً أساسياً من تلافيف دماغه حتى وصل حدّ الإدمان. لا شيء هنا بقي صالحاً للحياة البشرية، الأسمدة الزراعية المجرمة المحرّمة التي لوّثت التربة والخضر القاتلة التي تجاوزت فيها معدلات النيتروجين عشرات أضعاف الحدّ المسموح ومياه الأنهار المسمومة بالزئبق والسلمونيلا وعبوات الماء البلاستيكية التي تطحن الكلى البشرية وتسدّ منافذها واللحوم المجهولة المصدر ودجاج الإستروجين والأعلاف القاتلة. إنّه جنون البشر وهو يزداد وضوحاً كل يوم في ارتفاع معدلات الجريمة وطرق التفنن في التنفيذ والتخطيط وتفشي المخدرات وكلّ أنواع الحبوب المهلوسة وانهيار القيم الاجتماعية والأخلاقية من سوء معاملة الأطفال إلى ارتفاع جنوني في بورصة الطلاق. حرفياً، هناك جرائم حرب تتعدى نتائجها أي حرب عسكرية شنت على لبنان أو قد تشن. لا غرابة في هذه الهلوسة الجماعية على أعتاب ما يسمى بالانتخابات النيابية حين نشهد على تدافع القطعان البشرية اليائسة لنجدة جلاديها وإعادة تسميتهم من جديد وتنصيبهم ملوكاً مرة أخرى فوق حطام هذه المقبرة المسماة زوراً وطناً. قد نتفهم وقاحة الطبقة السياسية بكل تلاوينها المذهبية في الدفاع عن مصالحها ومصالح المعتاشين على فتاتها لكن ما هو ليس مفهوماً كيف لبشر تشهد على حفاري قبور أطفالها أن تعاود تصديق وعود الكذابين وأن تزجّ بأسمائهم في صناديق اقتراع، وهي في الحقيقة ليست صناديق اقتراع بل نعوش لجيل جديد قادم على الاحتضار على أسرّة مستشفيات ليس من السهل بالمطلق عبور أبوابها إلا بإرادة المشرفين على القطعان، وهم سادة هذا الجحيم الأرضي. ليس من الصعب أن يقول الميت لا، فلن يستطيع أحد في هذا العالم أن يجازيه بأكثر من الموت، وهو أصلاً ميت. إنّ أقلّ ما يمكن فعله هو أن نوجّه صفعة، صفعة قوية وبذيئة تشبه مجموع المزابل التي صارت هي خريطة الوطن، على أن تكون مفعمة بروائح مجاري الصرف الصحي التي كانت يوماً أنهاراً. منذ زمن طويل غادرنا مكانتنا كشعب. لقد سلبوا منّا كرامتنا منذ أن تحولّنا إلى متسوّلين على أبواب الزعامات الوضيعة والمؤسسات الواهية والدوائر التي تعتاش على الرشوة والإذلال. إن شعباً يصوّت لجلاديه يستحق المعاناة ويستحق هذه النهايات. يحتاج الأمر لجرأة، جرأة تتخطى الموروث المغروس في الثقافة الجماعية لكائنات اعتادت أن ترى في ذواتها قطعاناً ما دامت هي وريثة إيديولوجيات لم تعترف يوماً بمفهوم المواطنة، بل ترى في الجموع وقوداً لطموحات ليس الكائن البشري في أولوياتها قيمة، لذا فلن يعنيها حاله، كيف يعيش أو كيف يموت. أن تصل الأمور إلى اتهامك بالخيانة لأنك ترفض أن يدخل القمح المسموم بالفطريات في العنابر الفاسدة إلى فم أطفالك، فهذا يعني أنّ التخلّف الفكريّ قد وصل إلى مراحل لا تمكن مواجهتها إلاّ بمواقف راديكالية تعيد للإنسان كرامته السليبة. في 6 أيار فرصة وهي فرصة يجب اغتنامها لتوجيه ركلة أسطورية لمن لم يعترف يوماً بنا كبشر وأنّ لنا الحق في العيش كبشر، أقلّه كما أولئك على الضفة الأخرى للمتوسط.* كاتب لبناني