ما هو التفكيرُ بدءاً؟، وكيفَ يكونُ «دينيّاً»؟ وهل ثمّة مساحةٌ للفكر في منظومة الدّين، أم أنّ الله يُقولِبُ الحياة في قوانين الأمر والنّهي (الحلال والحرام)، ويحظر علينا الفكر حين يرتفع صوت الدين، أو ما نظنّه ديناً. ليس ثمّة شكٌّ أنّ البيئة المعرفيّة الإسلاميّة منقسمةٌ حول مصطلح «التفكير» ذاته؛ حيث يكاد ينحصر لدى البعض في التفكّر (التأمّل) في حِكم وبدائع صنعة الإله في الوجود والإذعان لها، في حين يصل آخرون لجرأة الاجتهاد الشخصي لدى كلّ إنسانٍ «مُكلّف» دينيّاً؛ في بناء فهمه الموضوعيّ حول «الخالق»، الهدف من وجود الكائن البشري، العالم الآخر،... وغيرها الكثير من مفردات الاعتقاد الديني المقلقة لوعيه.

أمّا التفكير _بمعناه التقنيّ_ فهو عمليّة العقل في نمذجة العالم، وتقنين طرائق التعاطي مع موجوداته؛ وهو بهذا المعنى لا يَعرفُ حدّاً، تقريباً.
بعيداً عن ضرورة هذا التقديم المتخصص، نرى أنّ واقع البيئة المتديّنة اليوم يميلُ إلى نمطيةٍ فكريةٍ حادّة؛ حيث يكاد العقلُ الجمعيّ يلغي مبدأ «حريّة التفكير» (الذي قد يستغلّهُ البعض بشكلٍ فوضويٍّ أيضاً).
المجتمع يفكّر عنك... و«رجل الدين» يُفكّر عنك... والأكبر يفكّر عنك... وهكذا تتالى العُقدُ حدّ استنزاف الطاقات المبدعة في عقول الملايين؛ الذين كان من المفترض أن تناط بهم نهضة الحضارة المتدينة، لو قدّر لهم بعضٌ من مساحة التفكير الحرّ. على امتداد الساحة الدينيّة، ثمّة قولبةٌ قاسيةٌ للعقل المعاصر؛ يكاد الإنسانُ يصبح معها غريباً عن مرحلته الزمنيّة، وتُلقي بالكثيرين ممن لا ينصاعُ عقلهم للخطاب النمطيّ في دوّامة القلق المستديم؛ حول مسائل لم يُشبِع التلقينُ الدينيّ شغفهم لفهمها. في حين أنّ مبدأ الإله في الحياة: كلّ إنسانٍ يُفكّر بذاته ولذاته، وعليه أن يمتلك أدوات المعرفة ومهاراتها، ومن ثمّ «من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»؛ هذا جوهر ومنطق الفكرِ المسؤول. من هنا كان امتلاك آليات التفكير الديني وظيفةً فرديّة لكلّ إنسانٍ ملتزم؛ فلا يُسلِمُ عقلَه ووعيَه لأفكار الآخرين، ولا يكتفي بمبدأ «التعبّد» في قبول الفكرة والتزامها.
أسئلة العقيدة:
لا يخفى _إلا على المتعامي_ أنّ البيئة العلميّة الجديدة طرحت مسائل عقَديّة جديدة؛ هي في حقيقتها مُخالِفةٌ للكثير من أسئلة العقيدة السابقة، رغم تشابه بعضها من حيث الشكل والقالب.
التقنيّة الدفاعيّة الأولى لدى حرّاس العقائد هي وضع كلّ جديدٍ تحت «كُلّياتٍ» قديمة، والاكتفاء بإجراء «حكم الكلّ على أجزائه».
في الحقيقة هذه التقنيّة تُسهّل الأمر كثيراً؛ وتكفي المدافعين شرّ حداثة السؤال؛ لكنّها في الوقت ذاته تترك الباحثَ والسائلَ أقرب إلى الحيرة من الاقتناع، فيعيش القبولَ القلِق انسجاماً مع موروثه، أو ينفجر في وجه اللاجواب انتصاراً لعقله وأسئلته.
ليس من السهل أبداً تطوير البنى العلميّة المتصلّبة على امتداد مئات السنوات؛ لكنه ضرورة قصوى في عامل العقيدة تحديداً؛ فتحدياتُ المعاصرةِ ومستجدّاتها أوسع من رتابة مؤسسة المعرفة الدينية المعاصرة، التي لم تولها الأهميّة الكافية بعد.
والقاعدة الرئيسة لتعلّم التفكير العقائديّ الناضج؛ هي أن تجعل «العقل» معيار الحكم الأوّل في ما يمكن للعقل الجزمُ به، وتحديداً في أوّليات العقيدة المتعلّقة بوجود الإله وإرساله الأنبياء وحقيقة «يومٍ آخر» يحصدُ فيه الناس جزاء أعمالهم. وللضرورة يُشار هنا إلى أنّ «العقل» ليس الذوقَ الشخصيّ كما يخاله البعض، وإنّما هو باقة من القواعد المنطقية المشتركة لدى كلّ البشر، توصل إلى أسس معرفيّة أوليّة متينة.
أسئلة التاريخ:
التاريخُ مروياتٌ بالغة التداخل؛ تتقاطعُ فيها الأفكار مع الأشخاص، وهو قابلٌ للتجيير والقراءات المختلفة إلى درجة التناقض.
حساسيّة التاريخ الديني تحديداً أنّهُ يمسُّ عملية صناعة التفكير بشكلٍ مُباشر؛ حيث تقولِبُ الجماعات الملتزمة رؤيتها ومبادئها وفق أشخاص التاريخ؛ فتقبل أو تنفي أو تعالج النصوص الدينية كافة وفق أشخاص رُواتها ومُمارسيها.
وطالما أنّ تاريخنا الإسلامي مذهبيٌّ بامتياز؛ كان انعكاسهُ على وعي القبائل المذهبيّة المعاصرة بالغ الوضوح والأثر.
ثمّة الكثير من الأحداث المحرجة، والشخصيّات المريبة، والمصالح المتناحرة، يُبرَّر أغلبُها بطرائق أشبه بقتل التفكير! وللأسف ثمة جمهورٌ عريض لهذا التسطيح التاريخي المريب.
«السلف» هي المفردة الأكثر قلقاً في تاريخنا؛ فحُرمة الأشخاص تنافس حرمة الأفكار بجدارةٍ في البيئات قليلة الثقافة.
والحقَّ أنّهُ لا قيمة فكريّة يكتنزها القِدمُ التاريخيّ سوى مفردةٍ يتيمة هي: قربُ هؤلاء من زمن المعرفة الأوّل؛ وحتى هذه القيمة يهزّها الكثير من المتعلّقات والإشكالات الخطرة، حول بشريّتهم التي مَسّت بعنف صميم الرّسالة الدينيّة وأفكارها، وأودت بهم إلى بحار من الدماء المتلاطمة عند حدود الانقسام المصلحي آنذاك.
تقديس تفكير السابقين ليس قاعدة في التفكير قطعاً، وتقدير هؤلاء ينحصرُ وفق مستواهم العلمي ونزاهتهم في نقل المادّة الدينيّة لا أكثر؛ أما أفكارنا عن الدين فينبغي أن نحيّدها عن القراءة المذهبيّة لأشخاص التاريخ وأحداثه، وأن نعتمد مناهج علم التاريخ نفسه في فهمه ومعالجته؛ عندها فقط يمكننا أن نعيش أسئلة التاريخ بشكلٍ سليمٍ أقرب إلى الوعي منهُ إلى حماسة الانتماء لهذا التيّار أو ذاك.
أسئلة الحداثة:
«الحداثة» تمسُّ أغلب معارف البيئة الدينية وعلومها، هذا المصطلح المريب لدى كثيرٍ من مثقفي الدين، والمبهر بشكلٍ مبالغٍ فيه لدى البعض الآخر.
حداثة المعتقد، حداثة الفقه، حداثة الأخلاق و... سواها من عناوين التجديد البراقة اليوم، بحاجةٍ إلى ما هو أبعدُ من طرح المشكلات، على أهمّيتها. غالباً ما يلجأ القائمون على المنبر المثقّف إلى لجم مصطلح «الحداثة» بمصطلح «التأصيل». هذه آليّةٌ لافتة، لكنّها غير كافيةٍ لإشباع الضرورات المعرفيّة المتكاثرة باطرادٍ مذهل.
ليس ثمّة مفرٌّ من عملياتٍ واسعةٍ لتطوير مناهج العلوم الدينيّة ومسائلها، ومواكبتها للأنماط المعرفيّة الحديثة، وربطها بشكلٍ حقيقيّ مع مستوى اللغة المتقدّم في العلوم الأخرى؛ فلغةُ المعرفة نقطةٌ حساسةٌ للغاية، وهي أبعد بكثير من حدود فكّ المصطلحات أو تعديل مفردات النصوص.
يكاد هذا الجمود اللغوي الحادّ يأسرنا على جزيرةٍ معرفيّة لا تستطيع التواصل والتكامل مع بيئة اليوم، وضريبة هذا الانعزال تقارِبُ انفصالَ المثقّف المعاصر عن الفكر الدينيّ، وإن جُزئيّاً. الخطوة الأولى بالنسبة للإنسان الملتزم هي أن يُحاول قراءة موروثه الدينيّ بأسلوبه الحديث في التفكير؛ شيئاً فشيئاً ستزول بعض العقبات والتراكمات التاريخيّة، وقد ينزاح جانبٌ من غموض المصطلحات كذلك؛ لكنّ هذا لن يجدي بشكلٍ تامّ، ولا يُعفي المؤسسة الدينيّة من «تكليف» التحديث والتجديد والمعاصرة.
التفكير الملتزم بحقّ هو ذاك التفكير المسؤول، الذي يحاكِمُ المعرفةَ كلّها على ميزان الدليل، لا على قاعدة التعبّد والتقليد.
وإلا.. فلنراجع أصل فهمنا لمفردة «الالتزام»، وتوابعها.
* باحث واستاذ حوزوي