نجاح واكيم *كنت صغيراً عندما انتقلت أسرتنا إلى مدينة عاليه. هناك تعرّفت، في مَن تعرّفت، إلى أولاد كانوا في مثل عمري. كانوا يشبهون الآخرين في كلّ شيء، إلّا أنّ لهجتهم كانت مختلفة قليلاً. وكانت على وجوههم مسحة شقاء وحزن تشبه الصلاة في صوت أمّي عندما كانت تسكب الصلاة كلّ مساء في نعاسنا، أنا وأخواتي، وحكايات الطفل والمذود والمغارة وصلب المسيح وقيامته. هكذا ارتسمت في عيني فلسطين واللاجئين، واليهود الذين سرقوا فلسطين ويسرقون الأطفال لكي يأخذوا دمهم
ويبيعوه.
«يعيش جمال عبد الناصر»، صدح في مدرستنا صوت فتاة فلسطينية من آل البيبي. وانطلقت، من فلسطين، في الأرض زوابع وثارت براكين. من السويس إلى جبال الأطلس، ومن أدغال الكونغو إلىstrongغابات كوبا. من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق. وتزاحمت الأسماء والصور والوجوه. بعضها كان يأتي من البعيد... باتريس لومومبا، كوامي نكروما، أحمد سوكارنو، ماو تسي تونغ، كاسترو، غيفارا... وبعضها كان يشرق من القلب، عبد الناصر، أحمد بن بلّا، واحدة كانت كأنّما قد نسجتها خيوط الصلاة في صوت أمّي على هتاف تلك الفتاة الفلسطينيّة. كانت الصورة لجورج حبش.
كان أحمد بن بلّا يتحدّث بحيوية وتدفّق عن تلك المرحلة العظيمة، الحميمة إلى القلب والوجدان. وعن الكبار الذين انطبعت أسماؤهم ووجوههم على أعمارنا، من آخر الطفولة إلى مطلع الشباب. ذلك عندما التقيته أول مرة في غرفة متواضعة، تحت الدرج، في أحد أحياء
باريس.
ـ لكن لماذا انكسرتم؟ قلت.
ـ كان علينا أن نعمل الكثير وأن نتعلّم الكثير. كانت تركة الاستعمار ثقيلة على بلداننا وشعوبنا. وكان علينا أيضاً أن نقاتل في معارك متشابكة متواصلة لا تنتهي. أميركا، وهذا النظام العالمي الجائر لم يتركا لنا فرصة لالتقاط الأنفاس. قاتلنا على كلّ الجبهات بشجاعة وشرف وعناد و... تخبّط. عملنا الكثير... وهزّني بن بلّا من كتفي، جمال، جمال عمل الكثير. ثم بدأنا نسقط تباعاً.
ـ ومن أجل تجديد حركة التحرر العربية والعالمية، ما العمل؟ سألت.
ـ هذا بالضبط ما يجب العمل من أجله. هذا هو السؤال الذي لا بدّ من الإجابة عنه.
وفي مرّة تالية التقيته في بيته في أحد أحياء باريس. كان ذلك مساء يوم الأحد في 6 حزيران سنة 1982. كانت الدبّابات الإسرائيليّة قد توغّلت عميقاً في لبنان. حمّلني رسالة إلى جورج حبش، إلى جورج حبش بالذات قال، فهذا الرجل أثق به: إسرائيل ارتكبت غلطة استراتيجية كبرى، غلطة العمر، فلا تنقذوها من غلطتها. لا تخرجوا من بيروت.
هنا، في بيروت، بين انفجارات القذائف ودويّ القصف والنيران والحطام، التقيت الحكيم أوّل مرّة في حياتي. نقلت الرسالة. كان الرجل ممزَّقاً بين «أصدقاء وحلفاء ورفاق» يلحّون عليه بأن يرحل، ويثقلون وجدانه ببيروت «التي حضنت المقاومة»، وبالدم الذي «يُهرَق عبثاً». وبين جورج حبش المقاتل المؤمن العنيد: طيّب، نخرج من بيروت، قال، ولكن إلى مخيّماتنا، نقاتل فيها وحدنا حتى الطلقة الأخيرة والرمق الأخير. لكنه عاد وخرج من بيروت ومن لبنان. انتصر عليه أولئك «الأصدقاء والحلفاء والرفاق»، وبيروتهم التي حرام أن تُهدَم، والدم الذي قالوا إنه يُهرَق عبثاً. كان ذلك قبل مجزرة صبرا وشاتيلا.
إلى دمشق، حيث أقام جورج حبش بعد النكبة الثانية، كنت أذهب إليه كلّ أسبوع تقريباً، بالطائرة عبر مطار لارنكا. كانت الطريق مقطوعة، وكانت بيروت آنذاك في قبضة إسرائيل وجماعتها، ترفرف عليها أعلام «الحرية والسيادة والاستقلال»، تماماً كما هي اليوم. وكانت، كما هي اليوم، عدوّة لدمشق.
كنت أحمل إليه عذابات الفلسطينيين في لبنان الذي استعادت له «سيادته» دبّابات إسرائيل وجهود الطيّب الذكر فيليب حبيب. كنت ألمُّ له نتفه من أنين الفلسطينيين تحت التعذيب، وأغرزها في جراحه...
ـ هل أخطأنا بأن خرجنا من بيروت؟ سألني غير مرّة.
ـ نعم، قلت، ألف مرّة.
كنت أعذّبه. كنت أنتقم لجورج حبش من الحكيم. كنت أنتقم له من أولئك «الأصدقاء والرفاق والحلفاء». وكان في سحيق عذابه يغمرني بعطف أبوي ومحبّة وتسامح.
تكرّرت اللقاءات، وكان ذلك السؤال الكبير يلحّ على عقله ووجدانه، على روح الثورة المتأجّجة فيه، على روح الثورة المتجدّدة فيه. يجب إعادة إحياء حركة التحرّر العربية، ولكن كيف؟
كيف؟ وكان الرجل الثائر الكبير جورج حبش يتطلّع حوله في هذا العالم. لقد غاب الكبار، ماتوا أو انكفأوا، تركوا الميدان وغاروا في أعماق الأرض، في وجدان الناس المقهورين. أحسّ بالغربة فانكفأ.
غاب الثوّار المبدئيّون وحضر الشطّار «الواقعيّون». وحضر الباعة والدلّالون والسماسرة. من كمب دايفيد إلى أنابوليس، وما بين هذا وذاك، أسواق تفتح على مزادات وأسواق تقفل على مناقصات.
وتبقى فلسطين أكبر من قطعة أرض. بل أكبر من وطن. هي الشاهد الحيّ على وحشية الحضارة الرأسمالية وهمجية استعمارها البشع.
هي جرح كلّ المعذَّبين في الأرض، كلّ الشرفاء في الأرض، هويّتهم وقضيّتهم وثورتهم. الذين يريدون منها قطعة أرض لن يعطيهم أحد حبّة تراب منها، ولن تعطيهم هي من ذاتها حبّة تراب. والذين يؤمنون بها قضية تختصر كل معاني الكرامة والحرية والعدالة والإنسانية، لتعطيهم فلسطين مجدها وقدسها.
الذين قالوا إنها تعبت من اجتراح القيامة لم يعرفوا فلسطين يوماً، ولن يعرفوا فلسطين أبداً. على تراب كلّ شهيد هناك يولَد بطل كمثل جورج حبش.
وهذه غزّة التي كسرت أمس الحصار، لهي ألف فالوجة تكسر الحصار، تعد بألف ألف جمال عبد
الناصر.
* نائب لبناني سابق