نستطيع القول، لا الجزم طبعاً، إنّ الإنسانيّة لن تغفر لكولومبوس اكتشافه أميركا عام 1492، فهذه الدولة العظمى، التي تتشدّق بالحريّة والتعدديّة، كانت وما زالت وستبقى رأس الأفعى في السواد الأعظم من الكوارث والمآسي والحروب التي عرفها التاريخ الحديث، وبما أنّ العلاقات الدوليّة محكومة وفقاً لموازين القوى، فإنّ الولايات المتحدّة ما زالت تتربّع على عرش المؤامرات ضدّ الشعوب المقهورة مدعومة بأمرين: الأول، هو الشغل لقرن كامل على التحّول إلى إمبراطورية تمسك بخناق العالم بأسره، والثاني، مستعينةً بربيبتها حبيبتها الحركة الصهيونيّة الكولونياليّة وصنيعتها إسرائيل التوسعيّة، وأشباه الدول العربيّة، التي تحكمها النظم الرجعيّة، والمُستباحة من واشنطن وتل أبيب، سرّاً وعلانيّةً.
وغنيٌ عن التذكير بأنّ تقاطع المصالح وتساوقها بين أضلاع الثالوث غير المُقدّس: الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعية العربيّة، تُمعن في تنفيذ المخططات الخبيثة الرامية إلى تفتيت وتمزيق ما تبقّى من الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه، لتكريس التبعيّة المُطلقة لأميركا من جميع النواحي، وفتح الطريق أمام دولة الاحتلال للإجهاز على القضية الفلسطينيّة، التي كانت قضية العرب المركزيّة، فتحولّت بقدرة غير قادرٍ من نعمةٍ إلى نقمةٍ، وبما أنّ سلطة أوسلو-ستان، التي يترأسها محمود عبّاس، تنتمي إلى معسكر الرجعيّة العربيّة، وبما أنّها تبنّت قولاً وفعلاً نظرية الرئيس المصريّ الأسبق أنور السادات، بأنّ 99 في المئة من أوراق الحلّ في أيدي واشنطن، وبما أنّها حولّت الشعب العربيّ الفلسطينيّ من شعب الجبّارين إلى شعب المُتسّولين (المعونات الاقتصاديّة)، فإنّ ما حصل في مجلس الأمن الدوليّ، الذي رفض المشروع العربيّ - الفلسطينيّ لإقامة دولة المسخ على 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخيّة، كان بمثابة تحصيل حاصل. وهنا لا بُدّ من تأكيد أنّ القرار الرافض هو انتصار بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ لشرفاء فلسطين والعرب ولأحرار العالم الذين ما زالوا يقبضون على الجمر، ويُطالبون بحقٍ، بتطبيق قرارات الشرعيّة الدوليّة، وفي مُقدّمها القرار 194، القاضي بإعادة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم العصابات الصهيونيّة خلال النكبة المنكودة، في واحدةٍ من كبرى الجرائم التي شهدها القرن العشرين، إعادتهم إلى ديارهم، لأنّ العودة، وهي من مفصليات الثوابت الفلسطينيّة، أهّم من الدولة.
■ ■ ■
الدبلوماسيّة الفلسطينيّة الأوسلويّة فشلت فشلاً مُدوياً في مجلس الأمن الدوليّ، ولكن مع ذلك، نميل إلى الترجيح، بأنّ القيادة الفلسطينيّة، التي فرضت نفسها على الشعب، كانت على علمٍ وعلى يقينٍ بأنّ مشروع القرار سيُرفض، ولكن السؤال الذي ما زال مفتوحاً: هل علمت هذه القيادة بأنّ أميركا لن تضطر لاستخدام حقّ النقض الفيتو؟ وإذا كانت على علمٍ فهذه مأساة، وإذا لم تكُن على درايةٍ فهذه كارثة، ذلك لأنّه لو أُلزمت واشنطن باستخدام حقّ النقض كانت ستُحرج وسترتبك، خصوصاً مع «حلفائها» من عربٍ وعجمٍ، الذين يُشاركون في الحرب الافتراضيّة ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة في كلٍّ من العراق وسوريا. في هذا السياق، لا غضاضة بالتذكير بأنّ نائب وزير الخارجيّة الإسرائيليّ السابق داني أيالون، رأى أنّ فشل مشروع القرار العربيّ ــ الفلسطينيّ هو انتصار للدبلوماسيّة الأميركيّة التي استطاعت إحباط مشروع القرار، من دون اللجوء إلى استعمال الفيتو، أيْ تنفيس ناعم لهجمة شكلانية. وأضاف أيالون، الذي شغل في السابق سفير تل أبيب في واشنطن، أنّ الولايات المتحدّة، وفي الفترة الأخيرة من حكم الرئيس باراك أوباما، عادت لتؤكّد للجميع بأنّها كانت وما زالت وربّما ستبقى دولة عظمى، ملتزمة سياسةٍ حازمةٍ وصارمةٍ ضد حقوق مختلف الأمم الضعيفة وإنْ أمكن القوية.
الدبلوماسيّة الفلسطينيّة الأوسلويّة فشلت فشلاً مُدوياً في مجلس الأمن
أمّا في ما يتعلّق بالمصالح الأميركيّة التي دفعت واشنطن إلى انتهاج هذه السياسة، فقال أيالون في المقال الذي نشره في موقع «والاه» العبريّ الإخباريّ، إنّ واشنطن أرادت من وراء إفشال مشروع القرار توجيه رسالة إلى الجميع بأنّ ما يُطلق عليها العملية السلميّة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي من اختصاص الإدارة الأميركيّة فقط، وعدم السماح للأمم المتحدّة باتخاذ قرارات تؤثر سلباً في هذه السياسة الحصريّة، التي قد تؤدّي إلى إضعاف موقف أميركا في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من علمنا بأنّ ساسة دولة الاحتلال يخوضون ضدّ الأمّة العربيّة حرباً نفسيّة، إلّا أنّه لا يُمكن التغاضي عن تحليل نائب الوزير أيالون، الذي يكشف عن الخبث الأميركيّ-الصهيونيّ من ناحية، وعن العجز العربيّ والذلّ الفلسطينيّ، من الناحية الأخرى، إذْ أنّ الإدارة في واشنطن لا تسمح بأيّ حالٍ من الأحوال، للساحر أنْ ينقلب على السحر، بكلماتٍ أخرى، السلطة الفلسطينيّة، التي كانت وما زالت تُعوّل على أميركا، لا يُمكنها بين ليلة وضحاها، أنْ تنتقل من معسكر الأصدقاء إلى معسكر الأعداء لبلد الشياطين الجُدُد، في ظلّ عدم وجود قوّة عظمى أخرى تدعم مطالبها، ولا نُبالغ البتّة إذا قلنا على نفسها جنت براقش.
■ ■ ■
عبّاس، الذي سيطر على جميع المؤسسات الفلسطينيّة، وبات الآمر الناهي، سارع إلى التوقيع على طلبٍ للانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة وإلى 19 اتفاقيّة أخرى، بهدف مُلاحقة إسرائيل ومُحاكمة قيادييها من المستويين الأمنيّ والسياسيّ بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة. قبل الولوج في هذه القضية، من الأهمية بمكان التذكير بأنّ عبّاس عينه، الذي يُريد مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين، يُواصل مع أجهزته الدايتونيّة التنسيق الأمنيّ مع الاحتلال، وهذا التنسيق، الذي يعتبره «الرئيس» مُقدّساً، هو أوّل تعاون بين الجلّاد والضحيّة، وعليه يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا لم يُعلن رئيس سلطة أوسلو-ستان توقيف التنسيق الأمنيّ مع الكيان الاستعماريّ، قبل التوجّه إلى المنظمات الدوليّة؟ ممّ يخشى؟ مُضافاً إلى ذلك، علينا التذكّر والتذكير، بأنّ المحكمة عينها اتخذّت قراراً في التاسع من تموز (يوليو) عام 2004، طالب إسرائيل بإزالة جدار العزل العنصريّ من كل الأراضي الفلسطينيّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة وضواحيها مع تعويض المتضررين من بناء الجدار. وماذا كانت النتيجة بعد مرور 10 أعوام على إصدار القرار؟ مكتب الأمم المتحدّة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة قال في الثالث من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري إنّ عشر سنوات قد مرّت على رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري تجاه جدار الفصل وعدم شرعيته والمبني على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتابع: تمّ بناء اثنتين وستين في المئة من الجدار حتى الآن، بما في ذلك 200 كيلومتر منذ صدور القرار عام 2004، أيْ أنّ إسرائيل، هذه الدولة المارقة بامتياز والمُعربدة بدعمٍ ماديّ ومعنويّ من واشنطن، واصلت تنفيذ المخطط ضاربةً عرض الحائط بالقرار الدوليّ، وبالتالي، يُمكن الاستنتاج بأنّ التوجّه الفلسطينيّ إلى التنظيمات الدوليّة لمقاضاة دولة الاحتلال، هو تعبير إضافيّ عن غياب استراتيجيّة فلسطينيّة واحدة وموحدّة تجاه التعامل مع إسرائيل وأميركا، علاوة على أنّ هذه التوجّه يؤكّد المؤكّد ويُوضّح المُوضّح: استحواذ فتح وحماس على القرار الفلسطينيّ، فتح في «دويلة» الضفّة وإمارة حماس في القطاع، وتغييب اليسار الفلسطينيّ أوْ بالأحرى انخراط اليسار الفلسطينيّ في سلطة أوسلو، يسمح للقوى الدوليّة والإقليميّة بالتلاعب بالقضية الفلسطينيّة، والعمل بإصرار أكثر على تكريس حالة الشرذمة التي تُميّز التيارات الفاعلة على الساحة الفلسطينيّة في الداخل وفي الخارج.
■ ■ ■
صحيح أنّ الأكثرية الساحقة من الدول العربيّة استأسدت على سوريا وتكالبت عليها، خدمةً للأجندات الإمبرياليّة والصهيونيّة، وخلال أقّل من عامٍ بعد اندلاع الأزمة في بلاد الشام، قررت جامعة الدول العربيّة تعليق عضوية هذه الدولة المُقاومة والمُمانعة في هذا الجسم الهلاميّ، الذي لا يُسمن ولا يُغني عن جوع، وحتى بيانات الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض، باتت ممجوجة ولا تُساوي الحبر الذي كُتبت فيه، مع كلّ ذلك، على الشعب العربيّ الفلسطينيّ، قبل أنْ يسأل ماذا فعل بنا ولنا العرب، أنْ يُوجّه هذا السؤال إلى مَنْ قاده إلى كارثة أوسلو، بمن فيهم ياسر عرفات. حتى اليوم، وعلى الرغم من الجهود الجبارّة التي بُذلت لسبر غور ظاهرة أوسلو، نُقّر ونعترف بأنّ الفشل كان من نصيبنا. أوسلو، بعد أكثر من عشرين عاماً، أوصلنا إلى الحضيض، لا بلْ إلى الدرك الأسفل، وقبل التوجّه إلى التنظيمات الدوليّة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، يتحتّم حلّ السلطة وإعادة المُسميات إلى نصابها الصحيح: الاحتلال هو احتلال، والمُقاومة، بما في ذلك الكفاح المُسلّح، هي مُقاومة شرعيّة لاحتلال غير شرعيّ، كما نصّت المواثيق والمعاهدات الدوليّة. تذكّروا ما قاله حكيم الثورة وضميرها، الشهيد د. جورج حبش: إسرائيل ليست أقوى من أميركا، والشعب الفلسطينيّ ليس اضعف من شعب فييتنام.
* كاتب عربي ــ فلسطين