تكاد أن تشعر معه. تكاد أن تتعاطف مع أزمته النفسيّة العميقة. الأرض تتزلزل تحت قدميْه، والعالم يتغيّر من حوله على غير ما وُعد به. أصيب بالدوار منذ أن نزل السود إلى الشوارع للتظاهر. الجمهوريّة تأسّست من أجله، وشُيّدت الأنصاب تكريماً له. رُفع إلى درجة الأنبياء، لكن ضعفاً وهزالاً أصابه. لا، ليست هي الحياة كما نشدها، ولا هي البلاد التي حلم بها وعَبَر البحار توقاً لها. أميركا لم تعد له، هي تتملّص من بين أصابعه. الحظوة التي كُرِّست له ضاعت منه — أو هكذا شُبِّه له من قبل ساسته. السماء تغيّر لونها، والبحار باتت رماديّة. الرجل الأميركي الأبيض يمرّ في أزمة لا يفهمها إلّا فلاسفة الوجوديّة أو علماء النفس. لم يأتِ دونالد ترامب من عدم. هو نتاج لعمليّة اختمار تجري على مرّ عقود طويلة. المحافظة، أو الفكر المحافظ، هي في صلب تأسيس الجمهوريّة الأميركيّة. صُمّم النظام الأميركي وفق معايير محافظة جدّاً. الدستور بقي حتى اليوم هو نفسه من القرن الثامن عشر، فيما غيّرت فرنسا أكثر من ١٦ دستوراً (المزاج العام لا يقبل بأكثر من تعديلات على الدستور المقدّس). مزاج البلاد الأميركيّة مُحافظ، وشعبها لا يؤمن بالثورة. صحيح، هم لهم «الثورة الأميركيّة» الشهيرة، لكنها قد تكون أكثر ثورة محافظة. «الثورة الأميركيّة» هي الاسم «الكودي» لحرب الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني. لكن صفة «الثورة» أعطتها في حينه مشروعيّة عالميّة. وبناة الجمهوريّة الأميركيّة كانوا شديدي المحافظة (حتى في ليبراليّيهم). شيّدوا نظاماً سياسيّاً لا يقبل بالتغيير إلا تدريجيّاً وعلى مرّ سنوات وعقود طويلة. تعديل الدستور عمليّة شاقة وطويلة تحتاج إلى موافقة ثلثيْ مجلسيْ النواب والشيوخ، وتحتاج أيضاً إلى موافقة ثلاثة أرباع المجالس الاشتراعيّة في الولايات (أي ٣٨ ولاية). أي ان التعديل يجب ان يكون مقبولاً من مزاج النخبة الفيدراليّة ومن مزاج النخبة المحليّة. لكن هكذا أرادها المؤسّسون الذين حذّروا من «الإفراط الديمقراطيّ»، أي من التسليم بالإرادة الشعبيّة. والكلام الذي يبيعه الخطاب الأميركي إلى بلدان العالم عن «حكومة من الشعب وإلى الشعب»، لم تكن تعني إلا الشعب بمعنى مُحدّد: النخبة البيضاء الحاكمة ذات الامتيازات الماديّة (والاستعباديّة ذات يوم). ليس الشعب هو الشعب في أغاني المرحلة الناصريّة. وكان أعضاء مجلس الشيوخ يُعيّنون لأن المؤسّسين لم يثقوا بإختيار العامّة ذوي «التعصّب» بحسب آراء المؤسّسين. كما ان اختيار الرئيس الأميركي يمرّ في مرحلة من أكثر مراحل الاختيار رجعيّة حول العالم: لكن المؤسّسين لم يريدوا ان يُترك أمر اختيار الرئيس في يد أهواء ومزاج العامّة. والازدواجيّة في الحكم بين المستوى الفيدرالي والمستوى المحلّي (على صعيد الولايات) لم يكن إلا توفيقاً بين صراع محتدم في سنوات التأسيس بين الملاك الكبار وتجّار «نيو إنغلاند» وأصحاب المزارع في الجنوب وبين الفئات الدنيا من أصحاب الدكاكين والتجّار الصغار والمزارعين (وكانوا جميعاً من البيض طبعاً) —وهذا الصراع الطبقي المنبت تبلور في صراع بين دعاة الفيدراليّة وبين معارضي الفيدراليّة.
طبقة الأثرياء في أميركا تحظى بمنافع لا يحظى بها أثرياء الدول الصناعيّة

هذه الامتيازات للبيض تقلّصت، بنظر التحريض العنصري. لم تعد الجمهوريّة في يدهم. المعاناة باتت مزدوجة: هي معاناة الطبقة الحاكمة فعليّاً، أي الأثرياء والشركات الكُبرى التي تتحكّم بمقدّرات الحزبيْن والتي تستثمر في مرشّحي الحزبيْن، وهي أيضاً معاناة البيض من العمّال ومن الشريحة الدنيا والوسطى من الطبقة المتوسّطة. الهوّة بين الأثرياء وبين الفقراء تزداد، وحصّة نخبة الواحد في المئة من أثرياء أميركا من الناتج القومي تضاعفت بين سنوات الحرب العالميّة الثانية وبين اليوم. كما ان دخل أغنى ١ في المئة من الأميركيّين تضاعفت ثلاث مرّات بين سنوات ١٩٧٩ و٢٠٠٧. هذا ما دفع الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي في كتابه الشهير، «رأس المال في القرن الواحد والعشرين»، إلى الاستنتاج أن تفاوت الدخل في الولايات المتحدة بلغ حداً من الارتفاع «لم يبلغه أي مجتمع في أي وقت وفي أي مكان من قبل، حتى في المجتمعات التي تعاني من تفاوت كبير في المهارات» (ص. ٢٦٥).
وطبقة الأثرياء في أميركا تحظى بمنافع لا يحظى بها الأثرياء (إلى الدرجة نفسها) في الدول الصناعيّة، إذ ان نسبة حصة الضرائب من الاقتصاد هي أقل في أميركا مما هي عليه في الدول الصناعيّة المتقدّمة (بحساب المصارف الدوليّة). وشكوى المرشحين في الحزب الجمهوري من أن الضرائب على الأثرياء هنا هي الأعلى بين الدول الصناعيّة هي شكوى باطلة، فالضرائب على الأعلى دخلاً في الدنمارك تصل إلى ٦٠,٢٪، أي نحو ضعف النسبة في أميركا.
أي ان هناك في أميركا ثورة مزدوجة: طبقة الأثرياء تقاوم محاولة زيادة الضريبة على ثرواتها وعلى تركاتها من بعدها، وطبقة ذوي الدخل المحدود تقاوم الإفقار المتزايد والركود في المداخيل على مرّ السنوات الماضية، وهي تشكو أيضاً من سطوة نظام يخضع لفساد الأثرياء، لكنها تتبع لثري يعدها بالتخلّص من فساد الأثرياء. لكن الطبقتين تتلاقيان بفعل أيديولوجيّة الطبقة الحاكمة، او مشاريع الحزب الجمهوري. تنجح طبقة الأثرياء في تجنيد طبقة ذوي الدخل المحدود من البيض عبر فكر الرأسماليّة الفجّ، المتمثّل بالاقتصاد السياسي لعهد رونالد ريغان المتمثّل بنظريّة «التقطير من فوق إلى تحت»، أي نظريّة ان كلّما زاد ثراء الأثرياء زاد ازدهار الطبقات الدنيا لأن الأرباح تنتقل من الطبقات العليا إلى الدنيا. ليس هناك من أدلّة ملموسة أبداً على صحّة النظريّة (على العكس) لكن الفكرة عمّت واعتنقها الحزب الديمقراطي في عهد بيل كلينتون. لكن الحزب الجمهوري زاد عليها بأن نجح في إقناع الجمهور الأبيض الذكوري ان كل مصائبه تنبع من وفود المهاجرين ومن الأقليّات التي تعتمد على البرامج الاجتماعيّة. والمهاجرون (الشرعيّون وغير الشرعيّين) ينفعون الاقتصاد أكثر مما يأخذون منه، حسب دراسات مراكز دراسات الهجرة، لكن الساسة المحافظين يقنعون الناخب الأبيض انه لا يقف بينه وبين الثروة إلا مهاجر فقير من المسكيك.
نجح كوري روبن في كتابه «العقل الرجعي: الفكر المحافظ من إدموند برك إلى سارة بيلين» في وصل أصول الفكر المحافظ من زمن الثورة الفرنسيّة إلى زمن ما بعد ١١ أيلول. إن الرجعيّة هي في رفض قاطع لحق الطبقات الدنيا في فعل الإرادة السياسيّة الفعليّة (ص. ٧). فحوى الاعتراض المحافظ هوَ هوَ عبر عقود طويلة. إدموند برك كان أصرح من غيره، كتب في ١٧٩٠ ضد آثام الثورة الفرنسيّة أنها تهدف إلى تقويض روابط الإخضاع في المجتمع، وانها تثوّر الخدّام ضد الأسياد. والرجل الأبيض في أميركا مرّ بتنازلات كثيرة. كان عليه أن يقبل بتحرّر العبيد، ليس عن رضا طبعاً. حتّى «مُحرّر العبيد» —كما كنا نقرأ عنه في مدارس لبنان— إبراهام لينكولن، آمن بتفوّق العنصر الأبيض على الأسود (أوضح ذلك في المناظرات الانتخابيّة المعروفة بـ«مناظرات لينكلن-دوغلاس»)، وفضّل دوماً «عودة» (أي ترحيل) السود إلى أفريقيا. وبعد تحرّر السود، قاوم الأبيض من دون جدوى المساواة بعد ان كانت المحكمة الفدراليّة العليا قد سنّت تشريع التفرقة العنصريّة بوسائل شتّى. لم تبدأ مسيرة المساواة (وبالتدريج البطيء التي يفضّله المزاج الأميركي المُحافظ) إلاّ في عام ١٩٥٤ في قرار المحكمة العليا في منع الفصل العنصري. لكن بعد عشر سنوات من القرار لم يكن إلاّ ١٪ من التلاميذ السود في «الجنوب العميق» من البلاد يحضر صفوفاً مختلطة عرقيّاً. لا، وبعد تحرّر العبيد أرادت النسوة ثم المثليّين التحرّر. كان هذا فوق طاقة الرجل الأبيض على التحمّل.
إذ لم يكد الأبيض يتأقلم عنوة مع قرارات المساواة (التي لم تحقّق) حتى بدأت النساء بمعركتهن من أجل المساواة (أو بدأت نساء الطبقة الوسطى من البيض في حملة المساواة التي تفيد نساء الطبقات المحظيّة فقط). كلّ هذا مرّ مع تسارع موجة النازحين من دول أميركا اللاتينيّة. والعرق الجنوبي يذكّر الأبيض في الولايات الحدوديّة الجنوبيّة بماض لا يريد الأبيض ان يتذكّره: عن تاريخ مارس فيه اللاتيني السيادة على أرضه التي انتزعها منه البيض بالقوّة في ما بعد. لكن البيض في أميركا لا يعترفون ان هجرة الفقراء من اميركا الوسطى والجنوبيّة هي نتيجة سياسات وحروب الولايات المتحدة في أميركا الجنوبيّة والوسطى. أجّجت أميركا وأشعلت حروباً أهليّة في عدد كبير من هذه الدول (من السلفادور إلى غواتيمالا، إلى نيكاراغوا والبيرو وهندوراس)، ثم قرّرت الانصراف إلى الحروب على الإرهاب والمخدّرات، والتي كانت غالباً تنعكس حروباً على الفقراء.
الفقراء لهم ثوراتهم، وللأثرياء ثوراتهم أيضاً (عندما مات جورج واشنطن كان أكبر ملاّك أميركا قاطبةً وترك وراءه عبيداً أوصى بإعتاقهم بعد موت زوجته —وأصيبت الأخيرة بالهلع عندما فضّت الوصيّة فاعتقت عبيدها على الفور طمعاً بالحياة). وهذا ما فصّله روبن في كتابه: ان المحافظين يمكن ان يكونوا راديكاليّين أيضاً، وان المحافظة لا تعني فقط التطوّر البطيء وإنما يمكن ان تعني الإصرار العنيف على العودة إلى الماضي. لم تكن مقاومة الولايات الجنوبيّة «مُحافظة» في حقبة الحقوق المدنيّة.
تعبّر الأكثريّة البيضاء من الذكور عن غضبها في كل حقبة انتخابيّة. هي كانت وراء حملة ترشيح ديفيد ديوك (العنصري النازي والقائد السابق في كوكلوكس كلان والذي تستضيفه «الجزيرة» للحديث عن مواضيع السياسة الخارجيّة ربّما لأن خطابه النازي يتوافق مع توجّهات البعض في كراهية اليهود، كيهود —وليس كصهاينة). نال ديوك أكثر من ٦٠٪ من أصوات البيض في حملة انتخابات محافظ ولاية لويزيانا في عام ١٩٩١، وكان ترشيحه تحدّياً من الذكور البيض ضد الأقليّات الملوّنة التي باتت تجرؤ على الاقتراع وعلى تقرير مصير التمثيل السياسي في أميركا. الحزب الجمهوري بات الحزب الرسمي للذكور البيض الغاضبين أبداً: لو أن البيض الذكور هم وحدهم الذين يقترعون في أميركا لحُرم الديمقراطيّون من الرئاسة منذ عهد جيمي كارتر.
هذا ما يُعبّر دونالد ترامب عنه. الغضبة الذكوريّة البيضاء. وهذه الأكثريّة المتناقصة باتت تخشى على مصالحها وامتيازاتها. باتت مقتنعة (خصوصاً في أوساط حاملي الشهادة الثانويّة فقط) ان السلطة تُسحب من بين أيديها. المفارقة ان الفقراء ومحدودي الدخل من الذكور البيض يمكن ان يشكّلوا تحالفاً قويّاً مع الملوّنين (ونسبة الفقر بين السود وبين ذوي الأصول اللاتينيّة هي ضعف النسبة عند البيض) لكن القوى المُتنفّذة في اليمين الأميركي تجعل الفقراء من الملوّنين والنساء أعداء لهم. إحداث الشقاق بين الأعراق والإثنيّات من أساسيّات التحريض النخبوي الطبقي هنا. والمهاجرين (الشرعيّين وغير الشرعيّين) هم أسهل الأهداف للتصويب: لأن لا قوّة سياسيّة لهم ولا لوبياً خاصّاً. هم يعيشون على أطراف المجتمع وفي ظروف بائسة. وأصحاب الشركات الكبرى في كاليفورنيا يعتاشون من المهاجرين «غير الشرعيّين» (من المفارقة ان يُطلق مصطلح «مهاجر غير شرعي» على المتحدّرين من أصحاب الأرض الحقيقيّين في كاليفورنيا وأريزونا وتكساس وغيرها من الولايات الحدوديّة). المهاجرون غير الشرعيّين يقطفون الثمار من مزارع كاليفورنيا ويخدمون في منازل الأثرياء ويقومون بأعمال يأنفها الرجل الأبيض -ولو كان فقيراً.
كان «حزب الشاي» هو عنوان الغضبة الشعبيّة للبيض قبل سنوات لكن الحركة استنفدت نفسها بعد وصول ممثّليها إلى الكونغرس وفشلهم في دفع اليمين إلى أقصى اليمين وفي تعطيل كل أعمال وبرامج الحزب الديمقراطي. روس بيرو كان عنواناً آخر (وهو من أصحاب المليارات في تكساس) في عام ١٩٩٢ وفي عام ١٩٩٦، لكنه انسحب من الحياة السياسيّة. الأثرياء في أميركا شكّلوا نظاماً سياسيّاً رجعيّاً محافظاً على مقاسهم، وفصّلوا نظاماً انتخابيّاً على أساس الدائرة الصغيرة الوحيدة مما يُقصي كل الأحزاب «الثالثة». المداورة بين الحزبيْن هي المؤامرة التي يتفق عليها الحزبان والتي لا تهدّد النظام السياسي والاقتصادي القائم. وحده رالف نادر أصابهم بالذعر في عام ٢٠٠٠، لكنهم أعادوا تنظيم المناظرات الرئاسيّة كي يُمنع امثاله من احتلال المنصّة مستقبلاً. والنظام الرئاسي الأميركي وفصل السلطات هو الضامن لمنع التغيير الجذري السريع كما يمكن ان يحدث في الأنظمة البرلمانيّة (المتقدّمة) في أوروبا.
الفكر المحافظ هو
في صلب تأسيس الجمهوريّة الأميركيّة

لكن الحزب الجمهوري في أزمة عميقة: القاعدة انفصلت عن القيادة. ومن مهام القيادة التوصّل إلى اتفاق في الكونغرس لسن القوانين واتخاذ القرارات. لكن القاعدة سحبت الحزب نحو اليمين المتطرّف، والبلاد كلّها (في بيضها لا في ملوّنيها) تجنح نحو اليمين منذ ثورة رونالد ريغان المضادة. والجنوح اليميني عصف بالحزب الديمقراطي أيضاً مما أتاح لبيل كلينتون ان يكرّس هذا الجنوح ليفوز بالانتخابات الرئاسيّة مرتيْن. وأوباما خاض حملة ترشيح في ٢٠٠٨ وألهم أحلام الليبراليّين لكنه حكم (في السياسة الداخليّة والخارجيّة) من موقع اليمين. دونالد ترامب هو مرشّح القاعدة ضد القيادة الجمهوريّة في الكونغرس التي تفتقر إلى الشرعيّة الشعبيّة (وتلك القيادة تعمل جاهدة لتعطيل ترشيح ترامب بوسائل غير ديمقراطيّة). لكن مبرّر وجود الحزب في الكونغرس —أيّ حزب— هو التوصّل إلى ارضيّة مشتركة مع الحزب الآخر كي تستقيم العمليّة السياسيّة. لم يعد هذا ممكناً. القاعدة تريد التعطيل، والمرشّح ترامب هو مرشّح التعطيل. القيادة أصيبت بالذعر وهي تفعل المستحيل كي تجهض ترشيحه (لكلا الحزبيْن قواعد وقوانين داخليّة مُعقّدة تتيح للقيادة بطريقة غير ديمقراطية التأثير على عمليّة اختيار المرشّح الرئاسي). لكن ترامب يهدّد بتمرّد في مؤتمر الحزب القادم في كليفلاند في الصيف المقبل.
لم يكن ترامب يتوقّع ان يلهب خيال القاعدة الجمهوريّة اليمينيّة. هو وقع (ربما بالصدفة) على موضوع العداء للمهجّرين وحوّله إلى موضوع مناقشة دائمة في مناظرات المرشحين الجمهوريّين. كما انه يبدو أقل امتهاناً للسياسة في عفويّة حديثه (الخالي من الوقار او الأدب السياسي التقليدي). وكلّما أهان فئة من الناس، خصوصاً المسلمين الذين وعد بمنعهم عن البلاد، كلّما ازدادت شعبيّته وزادت حماسة مؤيّديه. وينطبق على ترامب معادلة عالم الاجتماع الماركسي، سي. رايت. ميلز في كتابه «نخبة السلطة» عندما قال إن الحكم يستقيم لثلاثي الحكم (نخبة العسكرتاريا ونخبة السياسة ونخبة الإعمال) عبر عوامل ثلاثة: استعمال الخداع والترفيه والثناء (الثناء على الجمهور). من المشكوك فيه ان يكون ترامب قد قرأ كتاب ميلز لكنه يفرط في الاستعمال الثلاثي. الجمهور يريد المزيد، لكن المستشارين في الحملة الانتخابيّة يريدون ترفيهاً أقلّ لأنه يأتي على حساب ثقل المرشح الرئاسي (يستعمل الأميركيّون المصطلح اللاتيني «غرافيتاس» في إشارة إلى فضيلة الوزن الشخصي للمرشّح، والكلمة من فضائل الرومان). لكن ترامب في تغريداته أهان قطاعات بحالها في الأوساط الناخبة. يستطيع أن يفوز وأن يعادي مليار ونصف مليار مسلم (يؤيّد ثلثا الجمهوريّين بين الناخبين اقتراح ترامب بمنع كل المسلمين من دخول البلاد) في آن، لكن لا يمكن ان يفوز من دون تأييد النساء البيض، وهو أهان النساء في تعبيرات موغلة في السوقيّة والعنصريّة الذكوريّة في أكثر من محطّة في هذه الانتخابات المجنونة (وكل انتخابات هنا هي مجنونة، لكن هذه تفوقها جنوناً).
يستطيع عضو في النخبة المتنفّذة (ما يسمّيه الأميركيّون بـ«الاستبلشمنت») ان يخوض انتخابات ضد النخبة التي ينتمي إليها حكماً. والناخب الأميركي سهل الانقياد والتحريض خصوصاً في إذا ما تلازم التحريض مع التخويف من القادم مِن وراء الحدود. وترامب هو في النخبة وضدّها، والجمهور الأبيض يهتف. لكن استعداء الملوّنين والنساء يمنع عليه فرص النجاح، ويعجّل في تطبيق الحيل التي ستلجأ إليها قيادة الحزب الجمهوري لاستبعاده ولاستبداله بمرشّح آخر. كانت الترشيحات الرئاسيّة حتى السبعينيات تتقرّر في غرف مغلقة بين رجال الحزب. قد يتوجّب على قيادة الحزب الجمهوري العودة إلى الماضي وإلّا فإن المرشح الديمقراطي (أو المرشّحة) سيضمن فوزه.
الثورة المضادة جارية، لكن الديمغرافيا تضع البيض الذكور في البلاد في موقع صعب. سيصبح البيض أقليّة في أميركا بحلول عام ٢٠٤٥ (والأقليّات الملوّنة على أنواعها هي نصف الأطفال تحت سن الخامسة). هل معركة ترامب هي النزاع الأخير لحكم البيض؟ حتماً، لا. ما اهميّة الديمغرافيا في مجتمعات وعقائد لا تزال تؤمن بعقيدة اللورد بلفور عندما سوّغ وعده المشؤوم بالاعتراف «أننا لم نأخذ حق تقرير المصير العددي في الاعتبار»؟ وعليه، فإن حكم الأقليّة البيضاء يمكن ان يستمرّ خصوصاً وان البيض الذكور لا يزالون يملكون الثروات ويسيّرون الشركات ويتحكّمون بالإعلام وبالنخبة الحاكمة —حتى لو تسرّب إليها ملوّن واحد (أو حتى عربي أميركي واحد ذات يوم) لا يغيّر في طبيعة الحكم السائد.
ليست عنصريّة أو ذكوريّة أو شوفينيّة وزينوفوبيّة ترامب عرضيّة. هي الفكر الرجعي الحاكم، وهي عناوين للثورة المضادة ضد تقدّم المساواة (الذي لا زال حلماً بعيد المنال هنا، خصوصاً في ظل الفروقات الطبقيّة الهائلة). ما تشهده أميركا هذه الأيّام هو أشبه بالثورة، لكنها ثورة مضادة. فمزاج الرأي العام الأميركي الأبيض لا يسمح بالثورة إلاّ إذا كانت... مضادة.