حسام مطر*مما يثير الاستغراب أن الجهة السياسية التي نظّرت بحدّة خلال السنوات الأربع الماضية لفكرة الحكم الأكثري ونقض فكرة الديموقراطية التوافقية، هي ذاتها التي تبدي حساسية بل عدائية تجاه إلغاء الطائفية السياسية، بل تجاه مجرد فكرة إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. فهل يستقيم رفض الديموقراطية التوافقية بكل مقتضياتها (بما فيها الثلث زائداً واحداً، وخاصةً في لحظات الانقسام الإقليمي/ الداخلي الحاد) بالتوازي مع رفض فكرة إلغاء الطائفية السياسية أيضاً؟ أي بصياغة أبسط، هل يصح أن تجتمع كل من «لا» للديموقراطية التوافقية و«لا» لإلغاء الطائفية السياسية؟ الإجابة عن هذا السؤال ستصل إلى محصّلة مفادها أن رفض أحد هذين المفهومين لا يمكن إلا أن يُنتج قبول الآخر.
إن رفض صيغة الحكم التوافقي يعني، كما كان يصرح أصحاب هذا الاتجاه، اعتماد صيغة الحكم الأكثري كما في الأنظمة البرلمانية الكلاسيكية. وبالتالي، فإنّ الأكثرية النيابية تحكم والأقلية تعارض. إلا أنّ الفارق الذي لا يمكن تجاهله ـــــ والناشئ من خصوصية الواقع اللبناني ـــــ هو أن الانقسام السياسي يمثّل إلى حد بعيد انقساماً طائفياً/ مذهبياً على المستوى الديموغرافي، حيث يكفي ذكر اسم الطائفة/ المذهب مثلاً ليتحدد الموقف السياسي تجاه أيّ قضية أو حزب سياسي أو الارتباط الإقليمي أو حتى العدوّ الخارجي. فهذه جميعها متغيرات تابعة لمتغير مستقل هو الانتماء الديني. وعليه تصبح الأكثرية والأقلية بهذا المعنى ذات صبغة طائفية/ مذهبية، فيغلب على الأكثرية لون طائفي/ مذهبي مهيمن بوضوح، وكذلك بالنسبة إلى الأقلية، وبالتالي فإن إحدى الطوائف الكبرى أو أحد المذاهب الكبيرة على الأقل تصبح خارج دائرة الحكم.
كانت السنوات التي تلت الخروج السوري، الذي كان ضابطاً للعملية السياسية بتوافق دولي إقليمي (أميركي ـــــ سعودي بالتحديد)، شاهداً إضافياً إلى سابقاتها من التاريخ السياسي اللبناني على تماثل الانقسام السياسي/ الطائفي، وإن بمستوى أكثر حدّة. فقد انقسم المشهد السياسي بعد انتخابات 2005 النيابية إلى أكثرية نيابية عصبها السنّة، وأقلية نيابية عصبها الشيعة، وسط توازن نسبي للقوى المسيحية، وإن كان يميل باتجاه الأقلية. انطلاقاً من هذا الواقع، تبنّى فريق من المسيحيين يتقدمهم البطريرك الماروني نصر الله صفير، وبحكم تحالف هذا الفريق مع تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، اللذين مثّلا رافعة الأكثرية النيابية، مقولة أن الأكثرية تحكم، وأن التوافقية بدعة تجعل السلطة كعربة يجرها حصانان باتجاهين متعاكسين مما يعطّل دور السلطة ويشلّها. وبالتالي، فإنّ الصيغة البرلمانية الكلاسيكية هي الأفضل على مستوى الفعالية والإنتاجية، وإن كانت على حساب تغييب طائفة أساسية عن الحكم كالطائفة الشيعية مثلاً، إضافةً إلى ما يقارب 70% من الطائفة المسيحية، مع تناسي محورية التوافقية الطائفية والمشاركة في الدستور اللبناني.
إن المناداة بحكم الأكثرية ورفض منطق التوافقية الطائفية من باب ضمان الفاعلية والإنتاجية في عمل السلطة، وتماثلاً مع نموذج النظام البرلماني، يصلحان أيضاً أساساً لاعتماد الديموقرطية العددية دون القيد الطائفي كما في أيّ نظام برلماني، وبغضّ النظر عن وجود نص دستوري بذلك. وهذا مما قد يؤدي إلى غياب أو ضعف حضور بعض الطوائف في السلطة نتيجة الاختلالات الديموغرافية أو التحالفات السياسية، تماماً كما هي الحال عند اعتماد صيغة الأكثرية والأقليّة كما طرحها مسيحيّو 14 آذار. وعليه، لا يجوز لهذه القوى رفض بند إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، أو الإلغاء بذاته بحجة الخوف من تهميش الدور المسيحي في السلطة إلى حد المطالبة بالفدرالية كضمانة، على حد تعبير النائب سامي الجميل، لكونهم قد ارتضوا الصيغة الأخرى التي أنتجت فعلياً وليس فقط نظرياً تهميشاً لطائفة بأكملها ولأغلبية طائفة أخرى. فما بالك بوجود نص دستوري يوجب إنشاء الهيئة؟
على حين غرّة استفاق مسيحيّو 14 آذار على ضرورة حفظ الصيغة الطائفية التوافقية بما يثَبّت المناصفة ويمنع طغيان طائفة على أخرى، حتى لو على حساب نص دستوري واضح يؤسس لإلغاء الطائفية السياسية. وتصدّوا على هذا الأساس لطرح الرئيس نبيه بري إنشاء الهيئة المذكورة بسيل من الفرضيات والتشكيكات والاتهامات. على أنه لو صدق أن الرئيس بري يطرح تطبيق الفقرة الدستورية المتعلقة بالهيئة من باب التكتيك السياسي كما يتهمه هذا الفريق، لكان الأجدر ببري أن يستعمل هذا التكتيك في اللحظة السياسية الأشد حراجةً عندما كانت تتعرض طائفته للتهميش السياسي والمعنوي ويُتّهَم بإغلاق البرلمان نظراً لما عدّه (كرئيس للسلطة التشريعية) فقدان الحكومة حينها للشرعية الميثاقية والدستورية بعد استقالة وزراء الطائفة الشيعية من الحكومة، ودولته ممّن لا تنقصهم الحنكة والدراية لتكتيك كهذا لو شاء.
في المحصّلة، لقد ارتكب الفريق المسيحي في 14 آذار خطأً استراتيجياً بحق الدور المسيحي عندما اندفع إلى واجهة المنادين بالديموقراطية دون اعتبار للصيغة التوافقية، متأثّراً ومزهوّاً باللحظة السياسية التي جعلته ضمن حلقة الأكثرية النيابية ممثلاً لجزء من المسيحيين لا يتجاوز نصفهم في أحسن الأحوال، حتى لا ندخل في جدل الأرقام. وقد استمر هذا المنطق حتى إلى ما قبل تأليف حكومة الوحدة الوطنية الحالية، لينقلب السحر على الساحر بعد التسوية الإقليمية/ الداخلية، التي رأبت الصدع السياسي الإسلامي خصوصاً، وعلى حساب مسيحيي 14 آذار إلى حد كبير، بعدما استطاع تكتل التغيير والإصلاح تعزيز حضوره الوزاري، وتثقيل وزنه السياسي داخلياً وإقليمياً، والمحافظة على انسجامه مع مواقفه السابقة للانتخابات، ولا سيما تأييد مفهوم الديموقراطية التوافقية، التي يرتكز عليها الآن لمحاججة خصومه، بل وبعض حلفائه، في ما يعدّه تحرير الدور المسيحي في السلطة والإدارات العامة من قبضة غير المسيحيين.
وبالعودة إلى السؤال المطروح: هل يستقيم رفض الديموقراطية التوافقية بكل مقتضياتها بالتوازي مع رفض فكرة إلغاء الطائفية السياسية؟ الواقع أنه إما أن يجري تبنّي مفهوم الديموقراطية التوافقية، سواء كصيغة مؤقتة للحكم، بانتظار إلغاء الطائفية السياسية، أو كصيغة نهائية، وبالتالي المبادرة إلى طلب تعديل دستوري لإلغاء النصوص المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية، وإما السير فوراً في تنفيذ النص الدستوري الحالي تجاه إنشاء الهيئة ومن ثم الإلغاء. فليختاروا، ولكن على طريقة «جواب نهائي».
* باحث لبناني