إيلي شلهوباستُكملت عناصر المشهد السياسي العراقي مع إعلان النتائج النهائية للانتخابات الأخيرة، التي يبدو أنها كرّست حال التشرذم (أربع كتل كبيرة وبعض الفكّة) بما يؤدي إلى نوع من انعدام الوزن، ويفرض نمطاً من الحكم التوافقي شبيه بالمبدأ الذي يحكم «الصيغة» اللبنانية.
صحيح، إنها التداعيات الطبيعية لنسبية الاقتراع. بل نسبية وقائمة مفتوحة، مع ما يعنيه ذلك من قدرة الجميع على حجز مكان في «بوسطة الحكم»، ومن حكومات ائتلافية ضعيفة لا تعمّر طويلاً على ما بيّنته التجارب المشابهة (حكومة المالكي كانت حكومة وحدة وطنية في ظرف استثنائي وفي بلد يضبط إيقاعه الاحتلال). وهذا طبعاً الوجه السلبي الذي يؤدي إلى عدم استقرار الحكم حيث يمتلك كلّ من المكونات المحلية (واستطراداً الجهة الإقليمية أو الدولية التي تدعمه) حق الفيتو.
لكنه في الوقت نفسه يؤدي دور الضامن لوحدة العراق، حيث لم يعد بالإمكان تغييب أحد أو تهميشه بما يؤدي إلى انكفائه على نفسه والنزع نحو الانفصال. ولم يعد أيضاً لأي فئة القدرة على الاستبداد بفئة أخرى بما يجعل الجميع مستفيداً من «الكعكة الكبرى». بل لم يعد لأحد القدرة على الحكم منفرداً، بل يحتاج إلى «الآخر»، ما يضطره إلى الاتجاه نحو الوسط، إلى حيث يمكن أن يلتقي «شريكه في الوطن».
لعلّ ذلك يفسر ظاهرة كل من المالكي وعلاوي، اللذين حققاً أفضل النتائج بخطاب «وطني» عابر للطوائف. هذا لا يحجب الفارق بينهما: شعار الأول «العراق أولاً بامتداده الإيراني (اقرأ الشيعي)» ويستبطن «التعامل مع الشيطان لمصلحة العراق». أمّا شعار الثاني، فـ«العراق بمحيطه العربي (اقرأ السني) وراعيه الأميركي» ويستبطن «الانضمام لحلف المعتدلين بزعامة أميركا».
هذا في الإطار العام. أما في التفاصيل، وبحسب النتائج نفسها، ومهما تكن التعديلات التي ستدخلها عليها المحكمة العليا لدى بتّها الطعون، فيبدو واضحاً أن جمع 164 نائباً (النصف زائداً واحداً) يحتاج إلى كتلتين برلمانيّتين ويزيد (فكيف بجمع الثلثين، 217 مقعداً؟)، مفترضين طبعاً استحالة تحالف اللائحتين الكبريين «العراقية» و«دولة القانون». وحاجة كل منهما إلى زميلتيهما «التحالف الكردستاني» و«الائتلاف الموحد» للفوز بالحكم وممارسته، تجعل للأخيرتين وزناً يفوق بأضعاف حجمهما البرلماني، بل إن المفاوضات الائتلافية لا بد أن تُدخل كلاً من المالكي وعلاوي في حال من انعدام الوزن حالما يبدأ المزاد الرامي إلى جذب الآخرين عبر تنازلات من اللحم الحي.
هذا طبعاً على فرض أن الكتل الانتخابية بقيت على حالها، ولم ينفرط عقد بعضها. أي استمرار تحالف التيار الصدري مع «المجلس الأعلى» رغم الصراع المزمن بينهما والاختلاف في النهج والبرنامج السياسي. أو تبقى لائحة علاوي متماسكة رغم التناقضات الكثيرة في صفوف مكوناتها الـ40. أو بالعكس، بمعنى اتحاد كتلتين أو أن تنضم مجموعة من النواب «الفكة» إلى إحدى الكتل بما يزيد حجمها.
أما بالنسبة إلى التنافس على الكتلة الأكبر، مع ما حمله من تهديدات بعودة الاقتتال الأهلي، فلا يعدو كونه رمزياً في دلالاته، وبلا أي تأثير عملاني نظراً إلى تقارب النتائج (الفارق مقعدان) وحقيقة أن امتلاك الكتلة الأكبر لا يكفي وحده لأيّ من علاوي أو المالكي لكي يفوز برئاسة الوزراء، ويؤلّف حكومة.
معروف طبعاً أن أحداً لم ينتظر ظهور نتائج الأمس. مفاوضات تسمية رئيس الوزراء تجري، في السر والعلن، على قدم وساق منذ اليوم الذي تلى عملية الاقتراع. المرشحان المعلنان معروفان:
الأول، نوري المالكي، ترفضه سوريا (التي اتهمها بتفجيرات بغداد) والسعودية (التي لا تزال ترفض استقباله وهو يرفض القيام بأيّ مبادرة جديدة تجاهها)، ولا تتحمس له تركيا (التي «أهانها» رفضه وساطتها مع دمشق وعدم استجابته لجهودها بجذب السنّة للعملية السياسية)، وتمانعه الولايات المتحدة (لديها مرشّحها)، ويخاصمه الأكراد (بعد موقعة البشمركة وكركوك) والتيار الصدريّ (بعد معركة البصرة)، ولا يناصره «المجلس الأعلى» (الذي كان ضده أصلاً يوم ترشّح لرئاسة الوزراء في 2006). يبدو أنه لا يتمتع إلّا برضى إيران، ومع تحفّظ.
أما الثاني، إياد علاوي، فيحظى برضى العم سام والجوار، باستثناء إيران، التي يبدو أنه لا يزال لديها الكثير من التحفّظات عليه وعلى مشروعه، رغم جهوده الجبارة والرسائل العديدة التي نقلها إليها عبر وسطاء. كما أن ليس لديه عداوات جدية في الداخل باستثناء التيار الصدري، الذي لا يُعتقد أنه نسي معركتَي النجف اللتين جرتا في عهد علاوي (جرى تجاوز دعمه لمعركة الأنبار ودرّتها الفلوجة بدليل التصويت السنّي الكثيف لمصلحته).
المالكي، الذي حصد ما حصد متسلحاً بالسلطة وبمعرفته أن «العراقيين يختارون عادةً الحاكم»، يخوض المعركة تحت شعار «إما أنا أو لا أحد» وهذا ما يجعله أكثر توتراً. أما علّاوي، فيدخلها بشعار «أيّاً كان ما عدا المالكي». لا يعني ذلك أنه يتعفّف عن رئاسة الوزراء. أصلاً لا يرضيه منصب غيره. إنها براغماتيته التي تتحدث. هو يعلم من أين تؤكل الكتف، مذ ارتضى أن يكون عميلاً أميركياً أجاد دوره في الإعداد لغزو العراق وترؤس أول حكومات الاحتلال.
إنه خيار ما بين السيّئ والأسوأ. مشكلة لائحة المالكي في شخصه، ومشكلة لائحة علاوي في مشروعه. المخرج بشخصية أخرى من «دولة القانون». آن للمالكي أن يتنحّى.