المقاربات التي اعتاد الباحثون والكتّاب الدنوّ من خلالها إلى الموضوع السعودي لم تفكّك، حتى اليوم، ألغاز بنية السلطة، وصناعة القرار، ودوافعه، والمؤثرات عليه، وكيف يفكّر المسؤولون من الأمراء ويقيسون الأمور والقضايا ويقوّمونها. لا تزال السعودية بلداً غامضاً حتى بالنسبة لمواطنيه، فضلاً عمّن يعيشون خارجه. ومن وجهة نظري، فإن أسباب الغموض الذي يلف السعودية، يعود بدرجة أساس إلى عناصر محليّة، أكثر منها عناصر خارجية، لذا فالمقاربات التحليلية المستخدمة عادة لم تقع حتى الآن على مفاتيح فهم القضايا السعودية المحليّة، وانعكاساتها على السياسة الخارجية
حمزة الحسن *
ثلاثة عناصر اعتمدتها المقاربات عامّة (العلاقة مع الغرب، النفط، والمركز الديني ودور المؤسسة الدينية) وهي عناصر تتكرّر في كل الكتابات والأبحاث تقريباً، ويمكن شرحها مختصراً وتبيان نواقصها على النحو الآتي:
أولها، ويتصل بعلاقة النظام في السعودية مع القوى العظمى، بريطانيا أولاً، وأميركا تالياً. ويرتبط بهذه المقاربة عنصر (الحماية) التي توفرها تلك العلاقة للنظام السياسي السعودي، سواء جاء التهديد الواقعي أو المتخيّل من بعض الجيران (مصر والعراق سابقاً، وإيران حالياً). وتلقي هذه المقاربة ضوءاً مكثّفاً على المشتركات السياسية الخارجية السعودية والسياسات الغربية عامّة، سواء تعلّق الأمر بالقضايا العربية أو غيرها على الصعيد الإقليمي والدولي، حيث الخطّ العام يتماشى مع الاستراتيجية الغربية ابتداءً من مكافحة الشيوعية وانتهاءً بمكافحة الإرهاب، والصراع مع إيران. لكن هذه المقاربة، لا تجيب عن أسئلة تتعلق بالوضع المحلّي بالذات، كما لا تقدّم توضيحات عن نوازع السياسة الخارجية السعودية وارتباطها المباشر بتركيبة السلطة والمجتمع المحليين كما بالسياسة الداخلية السعودية نفسها. غنيّ عن القول إن السياسة الخارجية السعودية، في كثير من تجلّياتها، انعكاس لبنية السلطة والسياسة الداخلية والأوضاع المحليّة.
ثانياً، ويتعلّق بموضوع النفط، الذي له ارتباط بالتحديث عامّة، وبالقدرة السعودية على دعم سياساتها الخارجية عبر التسهيلات المالية، كما ترتبط به جملة من المواضيع مثل: العمالة الأجنبية، وتمويل الحروب، وصفقات الأسلحة ورشاها، وإعادة تدوير البترودولار، وغيرها. لكن هذه المقاربة، وهي إذ ترسم صورة خارجية عن البلد الغني القادر على تفعيل دوره الخارجي وخياراته السياسية عبر البذخ المالي، كما ترسم صورة المجتمع الثري والمخملي الذي يعيش على بحيرات النفط، لا تجيب عن أسئلة محددة لها علاقة بالقرارات الاستراتيجية المتخذة في هذا الشأن النفطي والمالي والاقتصادي، كما لا تربط موضوع النفط بالوضع المحلي بصورة قويّة، ولا تبيّن مثلاً: لماذا هناك جياع في السعودية؟ وأن يكون ربع الشعب، حسب الإحصاءات الرسمية، يعيش تحت خط الفقر؟ وأن 70 في المئة من السكان لا يمتلكون بيوتاً؟ وأن 70 في المئة من المدارس هي عبارة عن بيوت مستأجرة؟ ولماذا ما يقرب من ربع القوى العاملة السعودية عاطلة من العمل؟ الخ. المقاربة هذه، قد تكون أحد أسباب التعمية والغموض الذي يلف السعودية، كونها تعطي صورة غير صحيحة عن الوضع المحلّي الذي يفاجئ المراقبين بالسخط والعنف أحياناً، وبالهجرة إلى دول الجوار بحثاً عن العمل (الإمارات وقطر والكويت).
ثالثاً، ويتعلق بالعنصر الديني، كون المملكة تحتضن المقدسات الإسلامية، وتتبنّى دعوة تراها تطهرية توحيدية، هي «أصفى العقائد» كما قال الملك عبد العزيز ذات مرّة لمسؤول بريطاني. والمقاربة هذه تفترض أن السعودية ملزمة باتخاذ سياسات محافظة ودينية على الصعيد الاجتماعي، كما أنها ملزمة باتخاذ سياسات خارجية محددة لها علاقة بموقعها الديني (كدعم الأقليات الإسلامية، ودعم القضايا الإسلامية) والتي كانت إلى وقت قريب عنصراً طاغياً في السياسة الخارجية السعودية قبل أن تتحلل من الكثير منها منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. يرتبط بهذه المقاربة موضوع مصاهرة آل سعود للوهابية، ودور المؤسسة الدينية في الجهاز الحكومي، وشرعنتها الجزئية للنظام السياسي، والأهم ضغوطها على الوضع الاجتماعي السعودي بما فيه كل القضايا المتعلقة بالمرأة، وكل المسائل المتعلقة بالإكراه الاجتماعي كما بالترفيه العام (وجود مسارح وسينماءات وغيرها).
قامت على الحروب والتوسع ودور الدين فيها محوري وتحكمها عائلة مالكة وراثية
ومع أن هذه المقاربة تتواصل مع الموضوع الاجتماعي المحلّي، بالإضافة إلى موضوع السياسة الخارجية السعودية، إلا أنها قاصرة عن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بصناعة القرار السياسي والمواقف السعودية السياسية. مثلاً: السؤال المتعلق بشرعية النظام دينياً وحجمها، ولماذا تتماشى تلك الشرعية جنباً إلى جنب مع التحالف السعودي الأميركي/ الغربي؟ ومثله ما يتعلق بالمؤسسة الدينية وعلاقتها بالنظام السياسي، فهل هي مؤسسة مستقلّة، أم أداة بيد النظام؟ هل هي أقوى من النظام في فرض أجندتها أم العكس؟ لماذا يتجاوزها النظام في قضايا محددة (التحالف مع الغرب عامة، والبنوك الربوية، والاختلاط كما في جامعة الملك عبد الله، والقضاء غير الشرعي، والقنوات الفضائية والإعلام السعودي الماجن) ويسكت عنها في قضايا أخرى، وخاصة تلك التي تتعلق بقهر الجمهور، كما في ممارسات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفتاوى الطائفية ضد أكثرية السكان شرقاً وغرباً وجنوباً؟
المقاربة الدينية للموضوع السعودي تبقى ناقصة إن لم تعتمد تحليلاً لبنية المجتمع في الأساس وانقساماته المناطقية والطائفية والسياسية. ولذا استساغ البعض التعمية على الموضوع الديني، بنسبة كل الشرّ إلى المؤسسة الدينية، وتبرئة النظام الذي يمنحها القوة. وهي مقاربة ناقصة من جهة أن متبنيات النظام السياسية ودوافعها لا تفهم جيداً إن لم تعتمد مقاربة أو عدّة مقاربات أخرى من أجل فك طلاسم الغموض في الحراك السعودي الرسمي محلياً وخارجياً.

محاولة تأسيس أولى للفهم

مفتاحان أساسيان لفهم مجمل القضايا التي تحدث في السعودية، وهما يجيبان عن أكثر الأسئلة إلحاحاً وغموضاً والمتعلقة بـ(الدولة، والعائلة المالكة، والمجتمع السعودي). هذان المفتاحان يمكن تكثيفهما على النحو الآتي:
المفتاح الأول، وله علاقة بتوصيف الدولة السعودية ونشأتها، والقضايا المتفجرة في بنيتها منذ تأسيسها.
يمكن القول إن الدولة السعودية ليست دولة قبلية tribal state، أو دولة بدوية كما وصفها البعض، بالرغم من حقيقة أن العنصر القبلي (المديّن) كان واحداً من عناصر تأسيسها. في الحقيقة، إن الدولة قامت، إلى حد بعيد، على أنقاض القبيلة. أيضاً لا يمكن القول إن المجتمع السعودي هو مجتمع قبلي، فأكثريته حضرية، كما لا يمكن القول إن الحكومة السعودية قبليّة أو تحتكم لقيم القبيلة، والعائلة المالكة تعدّ نفسها، حسب فيلبي، فوق الانتماء القبلي، لأن المناظرة القبلية لا تخدمها ولا تشرعن حكمها.
أيضاً فإن الدولة السعودية ليست دولة عائلية بالمعنى الحرفي للكلمة (familial state)، وإن اتخذت الحكومة صفة عائلية، فهذا إحدى سماتها، أو الغالب في سماتها.
كذلك فالدولة السعودية ليست دولة ثيوقراطية theocratic state لأن أهم سمات الدولة الثيوقراطية هي سيطرة رجال الدين على الحكم، وهذا غير متوافر حالياً مع أن مشايخ الوهابية لهم صولة ومكانة فيها. ولا هي دولة متأثرة في سياساتها بقيم الأكثرية الدينية (وهي بالمناسبة غير وهابية) مع الاعتراف مسبقاً بأن الدولة قامت على أسس عصبية دينية وهابية أقلّوية. بل يمكن القول إن السعودية، حسب المواصفات الوهابية نفسها، ليست دولة إسلامية بمعنى أن المرجعية فيها للإسلام، وإن بنسخته الوهابية، وأن حكامها ملتزمون في مسلكهم الشخصي أو في سياساتهم الداخلية والخارجية بما يمكن تبريره إسلامياً، لذا تجد الكثيرين ممن اعترضوا على الحكم في العقود الأخيرة إلى حد استخدام العنف، حاكموا النظام على أساس ما يزعم أنها معتقداته، وبالتالي سوّغوا الخروج عليه بالسلاح.
لقد أطلقت على الدولة السعودية صفات مختلفة، كدولة ريعية أو أبوية أو صحراوية أو غيرها، ولكن تلك الأوصاف وإن صدقت في جانب، فإنها لم تلامس جوهر الدولة وروحها وأيضاً عقدتها ومشكلتها.
يمكن مثلي أن يزعم أن السعودية، التي هي دولة قومية/ قطرية بالاسم فحسب، هي (دولة إمبراطورية An Empire-State) وكل المشاكل والعيوب الجوهرية التي تعترضها، وكذلك معظم السياسات المتخذة، ناتجة في الأساس من عيوب في البنية الإمبراطورية نفسها. لماذا نسم الدولة السعودية بأنها دولة إمبراطورية، وتلاحقها التحديات التي واجهت الإمبراطوريات في التاريخ؟
(1) أنها دولة قامت على الحروب والتوسع، كما كل الإمبراطوريات تبدأ بمنطقة صغيرة ثم تتوسع، مستخدمة إما القومية، وفي الغالب المسوّغ الديني لتبرير التوسع وفي بعض الأحيان (المصاهرة والتوارث). من نجد انطلقت الحملات العسكرية، فاحتلت المناطق المستقلة أو شبه المستقلة (الأحساء والقطيف عام 1913، والحجاز 1924ــــ1926، والجنوب 1921، وحائل 1922). هذا يفسر لماذا أصبح مذهب الأقلية الوهابية حاكماً، وهو ما يفسر في جزء كبير دور رجال الدين الوهابيين في الدولة التي ساهموا في صنعها، وأيضاً هذا ما يفسر حكم أقليّة على مقدرات الدولة، لأن نجد هي التي قامت بالتوسع، وبالتالي أصبح الحكم «غنيمة للمنتصر». وهذا ما يفسر التقسيم في المواطنة ودرجاتها واستحقاقاتها في الدولة. وهذا أيضاً ما يفسّر اختفاء التنوّع الثقافي والمذهبي في المملكة، وسيادة أحادية ثقافية ومذهبية مفروضة من المركز، كما يفسر لماذا يكون وجه الدولة السعودية في الخارج «وهابياً نجدياً»؟
هذا ولا تزال روح التوسّع قائمة، وهذا ما يفسر تحويل التوسع عبر السلاح في الداخل أو لدول الجوار، إلى التوسع عبر نشر (الدعوة) في الخارج، وهذا ما يجيب عن تساؤل: لماذا يساهم السعوديون (الوهابيون منهم) في معارك الخارج وبنشاط، من أفغانستان إلى الصومال إلى البوسنة إلى الشيشان إلى العراق إلى مجاهل أفريقيا. هناك روح حركية لم تخمد بعد، ولم تكن الوسائل الحكومية جادة في صدّها، لأن ذلك يعني تحويل المشكلة إلى الداخل بدل تصديرها للخارج.
(2) دور الدين في الدولة محوري، كما في معظم الإمبراطوريات، وأقربها مثالاً العثمانية وإلى حد ما الإمبراطورية الهنغارية النمساوية التي اتخذت من الدفاع عن الكاثوليكية واحداً من أهم أهدافها. من الصعب الفصل بين الطموحات السياسية والتوسعات الدينية. فأيديولوجية الدولة السعودية تتخفى وراءها المطامح السياسية، وكما الدين/الوهابية صار مطية للدولة للاستخدام الداخلي (تبرير التوسع، وفرض الثقافة الواحدية، وشرعنة الدولة وسياسات حاكميها)، كذلك فإن الدولة صارت مركباً للمذهب من جهة تسويده محلياً بقوة الدولة ونشره بإمكانياتها في الخارج. لذا صار من غير الممكن اليوم مجرد التفكير في تخلّي الحكومة السعودية عن الوهابية كأيديولوجية وكأتباع جاهزين للاستخدام. إن ذلك يقضي على الطرفين. ومهما اتسع الخلاف، أو اقتحمت الدولة فضاء الدين وضيّقت عليه أو العكس، فإن الخلافات تبقى تحت سقف المصلحة الخاصة الناتجة من التحالف بين الطرفين. ويمكن استخدام مقياس العلاقة بينهما كإحدى الإشارات إلى ما إذا كانت الدولة تميل إلى الانحلال من عدمه. يبقى أن نشير هنا، إلى أن فرض المذهب استتبعه تدمير الهويات الدينية في المناطق الأخرى، إلى حد يمكن القول معه اليوم إنه جرى على نحو شبه كامل تدمير الوجود الديني الحجازي، القائم على التعدد المذهبي، وغاب كل رجال الدين الحجازيين بالموت، ولم يبق سوى بضعة أنفار فحسب، مهمشين من الناحية الدينية.
(3) وجود عائلة مالكة، فالإمبراطوريات تحكم في الغالب عبر عوائل مالكة وراثية. لكن العائلة المالكة السعودية تختلف عن كثير من غيرها من العوائل المالكة القائمة حالياً أو الماضية في ثلاثة مواضع:
الأول، أنها عائلة لا تستطيع أن تتسامى فوق الأديان والثقافات المتعددة والتحدرات القبلية أو المناطقية للسكان. أي إنها لا تستطيع أن تلعب دوراً أبوياً للمجتمع، ولا أن تمثل حالة رمزية فيه لكل الأطياف. إنها عائلة تنتمي إلى منطقة محددة، وتأتي من خلفية اجتماعية ومذهبية محددة مرتبطة بتلك المنطقة (الدعوة النجدية كما تسمى)، وهي فوق هذا منافح ومدافع عن مصالح تلك المنطقة وخياراتها الثقافية وتقول ذلك علناً (أخذناها بالسيف، ودولتنا سلفية وستبقى). الولاء للدولة، ولصانعها (العائلة المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية والنخبة النجدية) ليس موجوداً إلا كأفراد خارج حدود نجد. لا غرو إذاً أن تكون الدولة في كل مؤسساتها تدار من نجديين، وحسب تعبير د. غسان سلامة، فإن كل فرد في السعودية يدرك أن الدولة السعودية في جوهرها «نجدية». وبسبب الشك في الولاء، جاءت سياسة التهميش والتمييز ضد أكثرية المواطنين، معززة بمنطق الغلبة والاستفراد بالحكم، لذا فإن النزعات الانفصالية عن جسد الدولة التي ظهرت أخيراً لم تكن سوى محصلة من ردود الأفعال على السياسات القائمة.
أما الموضوع الثاني الذي تختلف فيه العائلة المالكة عن غيرها، فيتعلق بحجم العائلة (عدد أفرادها). إنه رقم غير مسبوق تاريخياً، ويقدر بين خمسة آلاف شخص إلى ثلاثين ألف شخص. هذا الرقم الضخم سبّب مشاكل في ما يتعلق بالخلافة والحكم والملك، كما سبّب مشاكل بين العصب داخل العائلة المالكة من جهة التنافس للوصول إلى المناصب والحصول على المخصصات المالية والأراضي. وقد سبب العدد خاصة ضغطاً كبيراً على المواطنين وليس فقط على ميزانية الدولة وإمكاناتها والمناصب العليا فيها. للمرء أن يتخيل حجم التجاوزات التي يحدثها هذا العدد، وليتصور مقدار الجهد في ضبط تصرفات أمراء العائلة المالكة ضمن القانون.
المفارقة الثالثة تتعلق بأن العائلة المالكة هي العائلة الوحيدة التي تنسب شعبها إليها، وتسمي الدولة باسمها، في إشارة إلى أن العائلة المالكة وبقاء الدولة لا ينفكان. وتفتح التسمية ذاتها أزمة الهوية الوطنية في دولة إمبراطورية يراد منها التحوّل إلى دولة قطرية/ قومية. حتى الآن هناك فشل ذريع في بناء هوية وطنية سعودية، وكما كانت القوميّة «حفّار قبور» الإمبراطوريات الغابرة، فإن الانتماءات الفطرية المناطقية والمذهبية والقبلية تقوم بالعمل ذاته، وتتغلّب من حيث القوة على الهوية الوطنية نفسها. من الصعب استزراع هوية وطنيّة في دولة هكذا مواصفاتها: مناطق متعددة الثقافة والتاريخ السياسي والهوية، أجبرت أن تكون جزءاً من دولة موحدة، مع بقاء السيادة والثقافة والمنفعة للفئوية الجامحة. هذه أرض لا يمكن استزراع ثقافة وطنية فيها، إلا بتغيير كبير في بنيتها.

مجتمع الأقليات السعودي

المفتاح الثاني ـــــ نحن بحاجة إلى إعادة قراءة المجتمع السعودي كي نفهم السلطة وسياساتها. التوسع النجدي صنع دولة، وأدخل أكثرية سكانية متعددة المناطق والهويات والثقافات والمذاهب والمناخ والمناشط الاقتصادية فيها. الفواصل الجغرافية بين تلك المناطق كبيرة: مساحات هائلة من الصحاري بمئات الكيلومترات، وجبال تمثّل حدوداً طبيعية للمناطق كما في الغرب والجنوب. ورغم وجود حكومة واحدة، إلا أن المجتمعات القاطنة في تلك المناطق أقرب ما تكون إلى مجتمعات مترابطة برأس سياسي مركزي، وليست حتى متجاورة، فضلاً عن أن تكون مجتمعات متلاحمة أو منسجمة. والعلاقة بين تلك المناطق وسكانها لا تزال نمطيّة، وغير ودّية في الجملة.
يمكن توصيف المجتمع السعودي بأنه مجتمع (أقليّات)، كل أقلية لها مذهبها ومنطقتها الجغرافية المحددة، وعاداتها وتقاليدها وإرثها السياسي وحتى قبائلها المختلفة عن الأخرى، فضلاً عن مناخها وحياتها الاقتصادية وطوبوغرافيتها، ما جعلها مؤهلة حتى قبل قيام الدولة السعودية أن تُعدّ ككيانات سياسية شبه مستقلة. كل سكان تلك المناطق نجحوا قبل قيام الدولة السعودية في بناء هويتهم الخاصة بهم، المستندة في الأغلب إلى عنصرين: الأرض، والثقافة التي تشمل المذهب وتوابعهما (الوهابية في نجد، والتشيع في الشرق مع المذاهب السنية الأخرى غير الوهابية، وفي الجنوب النجراني هناك الإسماعيلية، فضلاً عن الطرق الصوفية في جازان وغيرها، ومثل ذلك في الحجاز حيث المذاهب الأربعة، وخاصة المذهب الشافعي الذي ترجع إليه الأغلبية، إضافة إلى وجود النزعة الصوفية القوية التي لا تزال باقية حتى اليوم رغم محاربتها).
العائلة المالكة السعودية هي الوحيدة التي تنسب شعبها إليها، وتسمي الدولة باسمها
أيضاً فإن كل منطقة لا تمثل عددياً إلا أقلية: فحسب الإحصاءات الحكومية لعام 2004 (وأغلب الباحثين يشككون في ما تقدمه الحكومة من إحصاءات)، فإن أياً من المناطق لم تحز ثلث السكان البالغ يومها نحو 16.5 مليون نسمة. فنجد تمثل 30 في المئة من السكان، والحجاز نحو 32 في المئة، والشرقية نحو 15.5 في المئة، والمناطق الجنوبية (عسير ونجران وجازان) نحو 18.8 في المئة، ومنطقة الحدود الشمالية نحو 3.3 في المئة. الفوارق نفسها تجدها في الحجم الجغرافي للمناطق رغم التلاعبات الرسمية في الأرقام (بالقطع واللصق). الشرقية مساحتها تمثل نحو 31.28 في المئة من مجمل مساحة السعودية التي تصل نحو 2.25 مليون كيلومتر مربع. ونجد، التي أضيفت لها مساحات من الجنوب ومن الربع الخالي، تمثل 36.2 في المئة من مجمل مساحة البلاد، والحجاز 20.99 في المئة، والجنوب نحو 11.53 في المئة.
وهنا نأتي إلى جوهر المعضلة السياسية في السعودية، وهي أنها تأخذ بعين الاعتبار في سياساتها الداخلية والخارجية مسألة حيوية وهي: تحصين حكم الأقلية المناطقي والمذهبي الذي يقف وراءه آل سعود (أكثر من 95 في المئة من الوظائف العليا من المرتبة الرابعة عشرة إلى أعلى، بما يشمل كل المواقع العسكرية والمالية والدينية والتعليمية العليا وغيرها، محتكرة بيد تلك الأقليّة).
بديهي أن هذا سيؤدي إلى مشاكل داخلية بين المناطق وأتباع المذاهب. وبديهي أن يُبرّر الإقصاء على أسس دينية أو عرقية (طرش بحر، كما يوصف الحجازيون، أو قرود على حيود كما يوصف الجنوبيون، أو فرس مجوس كما يوصف الشيعة).
كل الموضوعات الكبرى التي تناقش في السعودية اليوم لها صلة بهذا الأمر.
لماذا لا توجد هوية وطنية وثقافة وطنية؟ لأن الروح الوطنية تعمل نقيض الاستئثار والتمييز، ولا أحد من النخبة الحاكمة يرغب في التخلي عما بيده لمصلحة فئات يراها دونية أو غير موالية للنظام، حتى وإن مثّلت الأكثرية.
لماذا ترفض العائلة المالكة، والنخبة الحاكمة المناطقية، ورجال المؤسسة الدينية (كل من زاويته) المشاركة السياسية الشعبية في صناعة القرار عبر الانتخابات؟ إنه للسبب ذاته: إن المشاركة ستفرز تحصيصاً للسلطة (الغنيمة).
وعلى النسق ذاته، يمكننا أن نسأل: لماذا لا تقف المؤسسة الدينية ضد العائلة المالكة التي تخرق المحرّمات الدينية من وجهة نظرها؟ لماذا ترى القذى في عين العدو، ولا ترى الجذع الضخم في عين العائلة المالكة؟! ولماذا تظهر الدعوات الانفصالية، والعودة إلى تراث الماضي غلى نحو غير مسبوق؟ ولماذا يجري التسامح إلى حد كبير مع المعارضة التي تشترك مع العائلة في خلفيتها المناطقية أو المذهبية، فيما يشدد على الآخرين ويُقمعون؟ لماذا تغلق مساجد الإسماعيلية والشيعة في أماكن وجودهم؟ لماذا تستطيع القاعدة اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية ولا يستطيع آخرون فعل الأمر ذاته؟ أليس لأن نسيجها الاجتماعي متشابه فيما «الآخر المناطقي أو المذهبي» مستبعد منها؟ ولماذا تنفجر الروح الطائفية في مناهج التعليم والإعلام وغيرها؟ ولماذا تضيّق حرية العبادة والتعبير الديني؟ أليس منعاً لثقافة منافسة من الحضور؟ ولماذا القضاء واحدي التوجه، وكل أفراده يتبعون مذهباً أقلوياً؟ ولماذا رغم تديين المجتمع بكل الوسائل، فإن الشعب السعودي مجملاً لا يعتبر مجتمعاً متديّناً، بل يميل إلى المناكفة والتحلل؟ ولماذا تصر العائلة المالكة على شرعية وهابية منقوصة تنتمي إليها أقلية، ولا تطلب شرعية دينية أو سياسية أوسع يمثلها أكثر السكان؟
يقول الموالون دفاعاً عن العائلة المالكة، إن السعودية تمثل حالة خاصة. بهذا المعنى الذي تحدثنا عنه، هي كذلك فعلاً!
* باحث سعودي