حسام كنفانيرغم كل كوارث السلطة وسقطاتها، لا يزال هناك من يثق بها وبرئيسها. هذه هي نتيجة أحدث استطلاع للرأي. نتائج مفاجئة، ليس فقط لجهة بقاء الثقة، ولكن لارتفاعها، ووصولها إلى درجة قاربت خمسين في المئة. هكذا خرج أمس «مركز القدس للإعلام والاتصال»، ومقرّه رام الله (مع ما يحمل ذلك من دلالات)، بنتائج استطلاع للرأي يشير إلى «ارتفاع في نسبة رضى الجمهور الفلسطيني عن الطريقة التي يدير بها محمود عباس عمله رئيساً للسلطة الوطنية، من 39.4 في المئة في تشرين الأول الماضي عام 2009 إلى (48.2 في المئة في نيسان الحالي».
ماذا فعل محمود عبّاس خلال فترة الأشهر الستة الماضية ليستحقّ هذه «القفزة الشعبية»؟ سؤال لا بد من طرحه في حال تم التصديق على هذه الثقة الشعبية. ربما الأمر يحتاج إلى جردة لأفعال السلطة عموماً، وأبو مازن خصوصاً، لاستبيان هذا المزاج الشعبي.
عمليّاً، لم تشهد الأشهر الستة الأخيرة مواقف عبّاسيّة تبرر صعوده في استطلاعات الرأي. لتكن البداية من ملف المفاوضات والعمليّة السلميّة. خلال الفترة هذه، كانت مواقف أبو مازن خاضعة لما يمكن تسميته «انفصاماً سياسياً في الشخصية». هو من ناحية مصمّم على عدم استئناف المفاوضات من دون وقف الاستيطان، ومن الناحية الثانية مقنتع بطريق السلام لحل القضية الفلسطينية. موقفان متناقضان، لا يمكن أن يتماشى أحدهما مع الآخر، وخصوصاً من «رجل سياسة» يفترض أن يكون قائداً لشعب يخوض معركة التحرر الوطني. أبو مازن ماض في طريق السلام، رغم أن الطريق مغلق بعوائق الاستيطان والتهويد والموقف الإسرائيلي المتعنّت، الرافض أساساً لقيام الدولة ذات السيادة على أرضها وبحرها وجوّها.
الطريق المغلق لم يدفع عبّاس إلى تغيير خياراته أو تعديل موقفه، بل وجد ضالته بالجلوس في منتصف الطريق وانتظار «الفرج الأميركي» لفتح الطريق مجدّداً والعودة إلى السير في هذا الممر المعبّد بالمطبّات.
جلس أبو مازن يستجدي ضغطاً أميركيّاً على الحكومة اليمينية في الدولة العبرية. ضغط أثمر اقتراح مفاوضات «تقارب» هلّل لها أبو مازن، وروّج لها في المحافل العربية لتوفير الغطاء اللازم. لكن ما لبثت الأمور أن انقلبت عليه مجدداً، ليعاود الجلوس أمام الحائط المسدود.
هل من الممكن أن تؤدي هذه المسيرة «العبّاسيّة» خلال الأشهر الماضية إلى نيل رضى الشعب الفلسطيني، والحديث يجري هنا عن أولئك الموجودين في الضفة الغربية؟ التقدير أن هذا الشعب على درجة كافية من الوعي كي لا تخدعه المواقف الفارغة والتصريحات العنترية للقيادة الفلسطينية في رفضها للإجراءات الإسرائيلية، وخصوصاً أن الرفض لا يتعدّى حدود الأحرف التي ينطق بها.
عند متابعة قراءة الاستفتاء قد يبطل العجب من النتائج، ولا سيما بعد التوقّف عند سؤال المستطلَعين عن أفضل السبل لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة. الإجابات رجّحت خيارات السلطة الفلسطينية، إذ فضّل 43.7 في المئة المفاوضات السلمية، وجاء الكفاح المسلح في الدرجة الثانية بتأييد 29.8 في المئة، فيما أيّد 21.9 في المئة المقاومة السلمية لإنهاء الاحتلال.
هذه الإجابات ترسم بعض ملامح العيّنة المستطلَعة، التي يبدو أن غالبيتها موجودة داخل مقرّ المقاطعة في رام الله، وعملها هو التصديق على السياسة التي يعتمدها محمود عبّاس. فغالبية الشعب الفلسطيني بالتأكيد لم تصب بعد بعمى ألوان سياسي يمنعها من تمييز سياسة الصالح من الطالح.
هذا ما يحاول الاستطلاع تقديمه، عندما يشير إلى تراجع الاعتقاد بوجود فساد في السلطة الوطنية من 87.3 في المئة في آذار 2007 إلى 73.1 في المئة في نيسان الحالي.
مثل هذا التراجع غير منطقي، ولا يتماشى مع الأحداث وقضايا الفساد التي أثيرت في السلطة الفلسطينية خلال هذه الفترة الزمنية. قضايا بدأت من روحي فتوح وتهريبه للهواتف الخلوية، وتوّجت بقضية رفيق الحسيني الشهيرة. قضايا قد تكون مجرد رأس جبل جليد الفساد المتورّط فيه كبار رجال «الدولة»، الذين تربّوا في كنفه. فالفساد ليس طارئاً على الساحة الفلسطينية، ولم يولد مع ظهور السلطة، بل جاء إليها امتداداً للممارسات في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وتونس والأردن والكويت، وغيرها من الدول التي وصل إليها أخطبوط المنظمة.
في العادة يكون هامش الخطأ في أي استفتاء 3 في المئة، لكن بالنسبة إلى حال الاستفتاء هذا، فقد يكون هذا الهامش في المستفتين أنفسهم، وإلا فعلى القضية السلام.