وائل عبد الفتاحاللعبة تعاد بكل ملل. الأنظمة العربية تعتبر معارضتها مؤامرة دولية. غريزة ما في هذه الأنظمة تدفعها إلى تخيّل المؤامرة وتصديقها. صحف نظام مبارك مثلاً تحدثت في تلاحق مريب عن دعم إيراني وأميركي لحركة البرادعي. في الأولى نقلت عن صحيفة «السياسة» الكويتية قصة الـ ٧ ملايين يورو التي أرسلتها الجمهورية الإسلامية عبر ثري عربي إلى البرادعي. القصة ببهاراتها «طبيخ بايت»، لكنه خرج من مطابخ محترفة في نشر الروائح الكريهة على خصومها. هذه المرة جاءت الصدقيّة من الخارج أيضاً، صحيفة كويتية تنتمي إلى «مبارك»، أكثر من صحف الرئيس الذي يعدو إلى سنته الثلاثين في الحكم بخفّة صبي يسافر إلى إيطاليا ليقابل حليفه برلوسكوني، الذي لم يتوقف أحد في هذه الصحف أمام قصة دعمه لبناء سد إثيوبيا على منابع النيل، الذي تَعدّه مصر تهديداً لأمانها المائي.
تحالفات الرئيس فوق مستوى الشبهات، وتمثّل مستوى «الوطنية» المطلوب، بينما المعارضة لا بد أن تخضع لحملة تفتيش عن وطنيتها لتثبت أنها مصرية أباً عن جد، ولهذا فالصحف نفسها التي روّجت بكل نية صافية لقصة الملايين الإيرانية، هاجمت المعارضة، وعلى رأسها البرادعي، على أنها دمى تحرّك من واشنطن.
إيران أم أميركا؟ المهم أن تكون الدولة قابلة للتحول إلى «عدو» مقبول عند العامة، الذين لا يزال معظمهم يتعامل مع الحاكم على أنه نصف إله. يختلفون معه لكنه «سيد البلاد، وصانع قيمها». هكذا فإنّ نظام مبارك حليف أميركا الأول في المنطقة يتّهم معارضيه بالعمالة لأميركا.
مفارقة عصيّة على فهم الشخص العادي الذي يتابع السياسة على أنها فيلم بوليسي نهايته معروفة.
القصص كلها تتغير ببطء، لكن لا تزال مطابخ نظام مبارك تحبك الاتهامات نفسها لتلعب على «لا وعي» يرى أن مصر هي الرئيس، وأنه موجود ليس بإرادة شعبية، لكنها قوة «ميتاسياسية» هي التي اختارته، وهي التي ستصنع خليفته.
هذه هي الصورة المستقرة عند ملايين، يعتبون على الرئيس غفلته عن حاشية مفرطة في الأنانية، سرقت العدل من الديكتاتور، ليصبح استبداده خشناً، كل آمال المجتمع المحتقن تتلخّص في ظهور «ديكتاتور عادل».
صنّاع الفضائح السياسية يعرفون جمهورهم، وأسهموا في تربيته ببراعةِ كهنة قدامى، ويلعبون جيداً على «اللاوعي» الذي يجعل الخروج عن النظام مؤامرة الخارج الشرير على الداخل السعيد.
وهذا مدخل أوحى بفكرة مدهشة لطهاة النظام، استفادوا منها في الأزمة على النيل، وبدلاً من الاعتراف بفشل إدارة العلاقات مع دول المنبع، اختصروا في «المؤامرة» الجانب الإسرائيلي، البعبع الذي يجعل الشعب يجيش في صف النظام آلياً.
المؤامرة الإسرائيلية موجودة، لكنها قديمة وفي إطار صراع لم ينته باتفاقية كامب ديفيد، وهو إدراك لا يحتاج إلى ذكاء باهر. ذيول الصراع لا تزال تلعب، ولا تكفيها استعارات من الزمن الناصري وأناشيده، أو الحديث عن الغيرة أو المنافسة على أدوار أخرجتها السياسة المصرية من حساباتها في زمن «حكمة» الرئيس مبارك.
حكمة بدأت بالانسحاب، ليس في إعادة صياغة «الوجود السياسي». والمنسحب لا يفرض شروطاً، ولا يضمن حقوقه، ولا يوفّر الحصار الذي حوّل مصر من دولة لها حضور إقليمي، إلى دولة لها شكاوى من الإقليم.
تشكو مصر من إصابع إيرانية، ومؤامرة أفريقية، وتطاولات عربية، بينما لم تستطع مثلاً حماية مصالحها في الجزائر من تأثير الغوغاء. حكمة النظام غابت هنا بعدما كانت مصر هي المستثمر الأول في الجزائر (بعيداً عن استثمارات قطاع البترول).
كان هذا واحداً من نجاحات مصرية، ونموذجاً للتعاون الاقتصادي العربي ـــــ العربي، بعيداً عن أشجان العروبة ونشر جيوشها على جبال الجزائر. وصلت الاستثمارات إلى ٨ مليارات دولار، وتجاوز عدد العاملين المصريين ١١ ألفاً قبل أزمة كرة القدم.
الكرة أفسدت النموذج، وترك حكماء مبارك الأمر لغوغائية دمرت ما بنته سياسة المصالح، وبدا أنّ مصالح أخرى تدير السياسة لتصبح «كرة القدم» جهاد العصر، ولاعبوها محرّري البلاد وأبطالها، لتصنع هوية ما لأنظمة طالت واستطالت وتريد الاستمرار عبر وراثة عائلية (الأب أو الأخ).
لم تستخدم مصر عقلانيتها مع الجزائر، كما تستخدمها مع إسرائيل، ولم تحتفظ، إلا بالمرارات والبكاء، على دور «الشقيقة الكبرى»، مقابل الاستسلام لخطاب تحريضي بدت فيه مصر على خط النار الجديد: ملاعب الكرة.