أنطوان فليفل *اللغط حول العلمانيّة. «العلمنة كلمة صعبة القبول في أوساط كثيرة لكونها مفهومة محسوبة مرادفة للإلحاد أو نافية للشرع الإسلامي». وتزيد اللغة العربيّة من غموض المفهوم، إذ تعطي مرادفاً واحداً لمفهومين: laïcité من جهة وsécularisme أو laïcisme من جهة أخرى (هذان التعبيران مرادفان في نصوص خضر). يختلف المفهومان أشد الاختلاف. فالأول هو مرادف للحكم المدني. أمّا الثاني، فهو فلسفة ملحدة تستبعد الله من السياسيّات ومن الحياة الفكريّة. يرفض المتروبوليت الأرثوذكسي المفهوم الثاني ويعارض كل تيّار سياسي يقصي الجانب الروحي ويتصرّف وكأنّ الدين غير موجود.
هذه التحاليل اللغويّة والتقنيّة حول مفهوم العلمانيّة تخوّلنا توضيح موقف جورج خضر منها. فهو يقبل بعلمانيّة تعني «الحكم المدني» ويرفض علمانيّة مرادفة للإلحاد تناهض الدين أو تتجاهله. فالحكم المدني يحافظ على التعدّدية الروحيّة ويضمن دورها فيما الـlaïcisme يقصي تأثير الدين ودوره. يضرب لنا خضر مثل الإمبراطوريّة البيزنطيّة للتكلّم عن الدولة العلمانيّة كحكم مدني. فالإمبراطوريّة لم تكن تيوقراطيّة، بل كان الحكم يساس بتناغم بين الدولة والدين. لم يحكم الإمبراطور الكنيسة، ولم تحكم هذه الإمبراطوريّة. أمّا الكثير من نماذج الحكم السياسي الإسلامي، فهي تنحو منحى مماثلاً: «تعلمت من المؤرخين المسلمين المعاصرين أن الفقهاء كانوا بعامة على مسافة من السياسة وأنهم كانوا وجدان الخلفاء». فحوى القول أنّ العلمانيّة كحكم مدني هي أحد الحلول التي يجب اعتمادها لحل مشكلة الطائفية، للحفاظ على التعدّدية الدينيّة وعلى التناغم السليم بين الدينيّات والسياسيّات. ولكن هذا الحل يبقى حلاً خارجيّاً، ضرورياً ولكنه غير كاف، لأنّ جذور المشكلة قابعة في النفوس: «العلمانيّة حلٌّ إداريٌّ

العلمانيّة كحكم مدني هي أحد الحلول التي يجب اعتمادها لحل مشكلة الطائفية والحفاظ على التعدّدية الدينيّة
لمشاكل الدولة، وليست حلاًّ فلسفيًّا. تجاهلُ الموجود الفاعل في النفوس لا يُقيم مجتمعًا واحدًا». فعمق المشكلة في الإنسان، وتحديداً في عدم القبول بالآخر: «قبل أن تقتنعوا بالعلمانيّة، اقتنعوا بعضكم ببعض». استبعاد العلمانيّة كـlaïcisme وتجنيبها كل منحى أيديولوجيّ، يُبقي الدرب سالكاً للروحيّات التي يجب أن تبقى مصدر وحي في الوطن، مع الحفاظ على التمييز الواضح بين الدينيّات والسياسيات. وعليه، يمكن الدولة العلمانيّة (حكم مدني) أن «تستوحي المصادر الدينيّة استيحاءً لقانون وضعي، وقد يأتي القانون الوضعي حراً من أي استيحاء ديني ولكن لا يصدم ضمير الناس وإخلاصهم الروحي». تندرج مسألة الزواج المدني اللبناني في هذا السياق، إذ يعتقد خضر أنّه يجب، من ضمن الحفاظ على قوانين الأحوال الشخصيّة في إطار حكم مدني، إيجاد حل للشخص الذي «لا يريد الخضوع لإيمان جماعته». وبذلك يكون الحكم المدني قد احترم علمانيّة الدولة وأخذ بعين الاعتبار التركيبة الاجتماعيّة الطائفيّة للسياق اللبناني.
ختام القول في هذا المقال أنّه على المسيحي اللبناني الإسهام بمجيء الحكم المدني، الضامن للتعددية، والمميّز بين الدينيّات والسياسيّات، والكفيل بالتوازن الطائفي السليم في لبنان. ويجب على المسيحيين أن يبقوا مصدر وحي للحياة السياسيّة للإسهام بتأطيرها ضمن خير الإنسان الزمني الأسمى: «لا بد من الشهادة لله في أمور دنياك بحيث تلتزم شؤونها فتنغمس في صفحاتها وتناضل وتغيّر فيها ما قدرت على ذلك... أنت تحمل الإنجيل في قلبك وتترجمه في الإنسانيّات، في الهيكليّات».
(الحلقة المقبلة: بولس الخوري)
* دكتور في الفلسفة