معتصم حمادة* تمثّل نتائج لقاء فياض ــــ باراك صفعة جديدة للاعتقاد القائم على وهم إمكانية بناء مؤسسات السلطة تحت الاحتلال، والاعتقاد القائم على وهم إمكانية الخلاص من الاحتلال والاستيطان عبر خيار وحيد هو المفاوضات بصيغتها الراهنة. صفعة جديدة تلقاها مشروع رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض، ببناء مؤسسات الدولة المستقلة تحت الاحتلال، ولجم الحركة الجماهيرية والمقاومة الشعبية ضد الاحتلال والاستيطان، بذريعة صون هذه المؤسسات وعدم توفير ذرائع للإسرائيليين لتدميرها.
تمثلت هذه الصفعة بنتائج اللقاء الفاشل الذي عقده فياض مع وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك في الخامس من الشهر الجاري (تموز/ يوليو 2010). والاجتماع الذي انعقد في سياق مسار للعلاقات الثنائية، كانت قد «اقترحته» على الطرفين وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندوليزا رايس، ليبحثا خلاله «العلاقات الثنائية والقضايا اليومية». وهو مسار مختلف عن مسار مفاوضات الحل الدائم الذي يتولاه كل من رئيس السلطة محمود عباس مقابل رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو. ولقد سبق أن التقى فياض وباراك أكثر من مرة، بحثا معاً مسألة الحواجز والاعتقالات وتسهيل تنقلات المواطنين الفلسطينيين، كما بحثا، ما أطلق عليه باراك، آنذاك، التحريض الفلسطيني ضد إسرائيل، وتقاعس السلطة الفلسطينية، في لجم هذا التحريض ووضع حدّ له. كما يبحث الطرفان ما يطلقان عليه «التنسيق الأمني»، وهو ملف شديد التعقيد وواحد من التداعيات المرة، بل شديدة المرارة، لاتفاق أوسلو وخارطة الطريق، وإكراهات اللجنة الرباعية. وكثيراً ما طالبت فصائل العمل الوطني والفعاليات الفلسطينية على اختلاف اتجاهاتها، بوقف هذا «التنسيق» لما يلحقه من أذى سياسي وأمني، ومعنوي، بالحالة الفلسطينية.
الاجتماع الأخير بين الطرفين، وبناءً على طلب الجانب الفلسطيني وبوساطة الجانب الأميركي متمثلاً بالقنصل الأميركي في القدس، اعتمد جدول أعمال حافلاً بالنقاط المهمة التي طرحها فياض على باراك:
1ــــ طالبه بوقف عمليات إبعاد الفلسطينيين من القدس المحتلة، ولا سيما النواب المقدسيين الأربعة الأعضاء في الكتلة البرلمانية لحركة حماس في المجلس التشريعي. واعتبر فياض هذا العمل خرقاً للاتفاقات وانتهاكاً للأعراف الدولية ومحاولة إسرائيلية مكشوفة لإفراغ القدس من أهلها الفلسطينيين.
2ــــ طالبه بوقف اقتحام المدن والبلدات الفلسطينية، لأن في ذلك مساً بهيبة السلطة الفلسطينية وإضعافاً لدورها. وكما قالت بعض المصادر، فإن فياض أبدى استعداداً «للتعاون الأمني» بما «يعفي» إسرائيل من هذه الاقتحامات، وبما «يحفظ» للسلطة ماء وجهها.
3ــــ طالبه بالسماح بنشر المزيد من مخافر الشرطة الفلسطينية في مناطق «ب»، بما في ذلك المناطق التي كانت فيها هذه المخافر قبل 28/9/2000 وسحبت تحت تداعيات الأعمال الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين ومؤسسات السلطة آنذاك، بذريعة قمع الانتفاضة.
4ــــ طالبه كذلك بفك الحصار على قطاع غزة، والسماح بإدخال المواد كلها. أما المواد ذات «الاستخدام المزدوج» كالإسمنت والحديد والحصى (أي تلك التي تستعمل في بناء المنازل المهدمة كما تصلح في الوقت نفسه «لإقامة التحصينات العسكرية» كما تقول إسرائيل) فإن السلطة على استعداد لنقلها بنفسها إلى القطاع وتسليمها إلى المؤسسات الدولية، كوكالة الأونروا، لتشرف هي على بناء المنازل والمؤسسات المدنية والإنسانية المدمرة، وتضمن عدم تسربها إلى «أيد أخرى».
5ــــ كذلك طالبه «أخيراً وليس آخراً» بإطلاق سراح دفعة من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وخاصة كبار السن، والأطفال، والمرضى، علماً بأن إسرائيل كانت قد تعهدت، في وقت سابق، بإطلاق سراح دفعة، لكنها أخلّت بتعهدها.
المصادر الفلسطينية الرفيعة المستوى، أكدت أن مواقف باراك اتسمت بالسلبية التامة، وأنه اكتفى بالاستماع إلى فياض، وتسجيل المطالب في محضر، دون أي تعليق، ودون أي رد، مكتفياً بالابتسام، عند كل طلب، وقد وعد في نهاية الاجتماع «بدراسة» هذه المطالب والبت بها، علماً بأنّ آليات الاجتماع بين الطرفين، تنص على أن يتبلغ كل طرف، مسبقاً، ما سيطرحه الطرف الآخر من قضايا، لتحضير الملفات الضرورية واللازمة للبحث. أي إن باراك كان على علم مسبق بما كان يحمله فياض من «مطالب»، وإن الوعد بالدراسة ما هو إلا «رفض دبلوماسي» و«مؤدب» (!) للمطالب الفلسطينية. ما من أحد يقلل من أهمية القضايا التي طرحها فياض على باراك، وإن كانت هذه القضايا لا تتساوى في الأهمية. يهمنا هنا أن ننوّه بالموقف الداعي لوقف الإبعاد من القدس، وفك الحصار على القطاع، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، ووقف الاقتحامات للمدن والبلدات الفلسطينية باعتبارها أعمالاً عدوانية غير مبررة، وانتهاكاً لمناطق «تحت إدارة السلطة الفلسطينية». مطالب فياض مطالب فلسطينية محقة، لا يختلف عليها اثنان، لكن الاختلاف يطال مسألتين:

كيف ستنجح مفاوضات الحل الدائم في معالجة القضايا الكبرى بينما ترفض إسرائيل حل القضايا اليومية؟

الأولى، هي مدى استعداد السلطة للتعاون الأمني مع سلطات الاحتلال «لإعفائها» من اقتحام المدن. وهذا موقف يلقى اعتراضاً وطنياً شاملاً لأنه يهدد بانزلاقات أمنية وسياسية شديدة الخطورة. ومن أراد بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقلة، وجب عليه عدم الزج بهذه المؤسسات في أعمال تلوثها أمنياً وسياسياً ووطنياً.
أما الثانية، فهي أن مثل هذه المطالب لا يمكن الحصول عليها بالمناشدات. وتقول المصادر إن فياض خرج من الاجتماع مع باراك محبطاً، وإنه سارع إلى الاتصال بالقنصل الأميركي في القدس يشكو إليه سلبية الموقف الإسرائيلي. وتنقل المصادر على لسان فياض قوله للقنصل الأميركي ما معناه: كيف ستنجح مفاوضات الحل الدائم في معالجة القضايا الكبرى، بينما ترفض إسرائيل حل القضايا اليومية كالتي كان قد طرحها على باراك؟
سؤال فياض مهم، وصائب، لكن الخطأ فيه أنه توجه به إلى القنصل الأميركي، وكان يفترض أن يتوجه به إلى نفسه، وإلى الرئيس عباس وفريقه المفاوض إلى «غير المباشرة» (الآن) و«المباشرة» (لاحقاً) مستفيداً من أكثر من 19 عاماً من المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، ومستفيداً على الأخص، من جولات مفاوضات أنابوليس والمفاوضات غير المباشرة، ومن الأسلوب الساخر الذي تعامل به معه إيهود باراك في لقائهما الأخير.
صفعة أخرى للمشروع الوهمي، الذي يعتقد أن حصر الخيارات كلها في خيار المفاوضات دون غيره هو السبيل إلى إنجاز المشروع الوطني. وصفعة أخرى للمشروع الوهمي الذي يعتقد أن بإمكانه أن يقيم مؤسسات الدولة المستقلة في ظل الاحتلال، وتحت سقف مشروع نتنياهو ــــ ليبرمان.
* كاتب فلسطيني