Strong>نزار صاغية * مع الإفراج عن الضبّاط الأربعة (29 نيسان 2009) بموجب قرار صادر عن محكمة الحريري، ساد اعتقاد بأن وقع الحدث سيفرض إشكاليّات أساسية في الخطاب العام، وأنه سيولّد تالياً أجواءً إيجابية تسهم في تعزيز التوجهات الإصلاحية في مجالي العمل القضائي واللجوء إلى الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق. فبأيّ حق أبقى القاضي اللبناني المختص هؤلاء الضباط قيد الاحتجاز لمدة 44 شهراً من دون دليل ذي مصداقية، كما جاء في القرار، ولماذا أصرّت النيابة العامة التمييزية على ذلك؟ فهل تعرّض القضاة المعنيّون لضغوط من السلطة الإجرائية على نحو يطرح إشكالية استقلالية القضاء وتحصينه؟ أم أنهم ارتكبوا أخطاءً جسيمة من تلقاء أنفسهم، ممّا يوجب تفعيل المساءلة والمحاسبة؟ وفي مطلق الأحوال، أليس من المفيد أن يسترشد المشرّع بالمعايير والضوابط الدولية المعتمدة في مجال الحبس الاحتياطي، التي تضمّنها قرار الإفراج لتعزيز الضوابط القانونية الوطنية في حماية الحرية الشخصية؟ وما عزّز الاعتقاد بتأثيرات إيجابية للقرار هو أن الظروف المحيطة به فرضت على الأطراف السياسية كافة الانحناء أمامه: فالأكثرية النيابية تلتزم بمرجعية محكمة الحريري، فيما يتجاوب القرار مع مطالب الأقلية تجاوباً كاملاً. وهكذا، بدت لوهلة أصداء القرار وتأثيراته المتوقعة نموذجاً أوّلياً للدور التربوي لمحكمة الحريري، الذي يمثّل حسب المنظمات الدولية أحد المبررات الأساسية لإنشائها (انظر على سبيل المثال: كتاب هيومان رايتس واتش إلى كوفي أنان، 30 نيسان 2006).
وللأسف، فإنّ الحصيلة النهائية التي أدّى إليها القرار بعد ما يقارب سنة من صدوره ليست فقط تجريده من أي أثر إصلاحي، بل على العكس تماماً استخدامه للوصول إلى نتائج مناقضة تماماً للمبادئ التي أعلنها. ففضلاً عن القفز سريعاً فوق إشكاليتي استقلالية القضاء ومساءلته، آلت الجلسة النيابية المنعقدة في 15/6/2010 إلى قلب التوجّه الإصلاحي المتمثّل في تعديل شروط التوقيف الاحتياطي في قضايا الجنايات، رأساً على عقب. ففيما آل المشروع الحكومي الذي صاغه وزير العدل غداة الإفراج عن الضباط الأربعة إلى إلغاء غالبية الاستثناءات التي نصت عليها المادة 108 بشأن تطبيق المدة القصوى للحبس الاحتياطي، وذلك بهدف مواءمتها مع المعايير الدولية حسب ما جاء في أسبابه الموجبة، انتهى المجلس النيابي، ليس فقط إلى رفض التعديل المقترح، بل إلى إضافة استثناءات جديدة على هذه القاعدة. كأنّما النظام اللبناني نجح في الالتفاف حول قرار الإفراج وفي تبديد الإشكاليات والاضطرابات الضميرية الناجمة عنه، واحدة بعد الأخرى، وصولاً إلى حجبها بالكامل، بل إلى نقضها.
وما يريده هذا المقال هو بالدرجة الأولى الإضاءة على هذه الحصيلة السلبية ودرس مراحل هذا المسار الذي أدى إليها.
وقبل المضي في ذلك، يهمني الإشارة إلى تحفظين اثنين سبق لي إبداؤهما بشأن الدور البيداغوجي للمحكمة، يبدوان لي في ظل هذه الحصيلة السلبية أكثر قوة من ذي قبل:
الأول، أن محكمة الحريري نشأت أساساً بهدف محاكمة قتلة قائد سياسي في بلد تنكر ولا يزال لجرائم كبرى ضد الإنسانية. وما يُخشى هو أن تؤدي المحكمة في ظروف مماثلة ليس إلى تعزيز قاعدة القانون (rule of law)، أو إلى وضع حد لثقافة التفلت من العقاب (impunity)، بل بالدرجة الأولى، إلى تكريس مكانة القائد (الكاريسما)، التي من أجلها اجترح مجلس الأمن محكمة هي الأولى من نوعها، والتي تتماشى تماماً مع النظام اللبناني السائد (الذي غالباً ما يمنح الزعماء ظاهراً أو ضمناً امتيازات كبرى) وتناقض في الغالب في مبدئها فكرة الحق المبني على المساواة وأيضاً المساءلة (فمن عساه يسائل قائداً بحجم القادة اللبنانيين؟)! وللذي يرى لغواً في هذا القول، أن ينظر إلى قانون العفو اللبناني (1991) الذي منح العفو لجميع الجرائم السياسية، بما فيها المجازر الكبرى والجرائم ضد الإنسانية، باستثناء الجرائم المرتكبة ضد القادة السياسيين والدينيين بحجة أنهم رموز وطنية وأن الجرم ضدهم لا يُغتفر.
والثاني، وهو مرتبط بالتحفظ الأول، أن الفريق السياسي المؤيد لمحكمة الحريري تعاطى مع القضية منذ بدء الحديث عن إنشائها، على أنها قضية تخص «زعيماً» يفوق الناس أهمية (جريمة العصر)، وتالياً على أنها قضية مميزة لا صلة لها بالإطار العام اللبناني. ومن هنا، بإمكان النظام القانوني اللبناني أن يبقى منيعاً إزاء أي من المعايير الدولية المعتمدة في محكمة الحريري، فما ينطبق على هذه المحكمة لا ينطبق بالضرورة على أي قضية أخرى. ألم يشهد لبنان تظاهرات تطالب بالحقيقة والعدالة في هذه القضية في موازاة العمل، بالحماسة نفسها، على إصدار قانون عفو عام في قضايا تفوقها خطورة (قانونا العفو عن سمير جعجع ورفاقه وعن جرائم الضنية وعنجر، 18 تموز 2005)؟
فما هي هذه المواقف التي رسمت خارطة طريق لإباحة الرجوع إلى الوراء؟ هذا ما سأحاول إيضاحه أدناه.
1ــــ المواقف الآيلة إلى حجب الإصلاحات التنظيمية للقضاء في اتجاه ضمان استقلاليته:
لدى مراجعة التصريحات التي أعقبت صدور القرار، نرى أن قلة منها ربطت الخطأ الفادح في إطالة أمد التوقيف الاحتياطي بالتنظيمات القضائية التي لا توفر ضمانات كافية لاستقلالية القضاء عن السلطة الإجرائية. «فالقرار يبقى، بحسب «منبر الوحدة الوطنية»، في يد السلطة الإجرائية في كثير مما يتعلق بشؤون الهيكلية القضائية عبر صلاحيات التعيين والتشكيل والترفيع، الأمر الذي يُبقي يد السلطة السياسية ممدودة للتدخل في سير القضاء» («الأخبار»، 6 أيار 2009). أما سائر التصريحات، فقد انقسمت عموماً إلى فئتين:
ــــ الفئة الأقرب إلى الأقلية النيابية، ركزت على وجوب إقالة القضاة المعنيين، تحديداً سعيد ميرزا وصقر صقر، لانصياعهما للمصالح السياسية لفريق 14 آذار على نحو يُعدّ مخالفة أساسية للمناقبية القضائية. كما ذهبت هذه الفئة بالطبع إلى تحميل هذا الفريق مسؤولية ذلك. بل طالب البعض بإجراء تحقيقات لتحديد المسؤوليات في هذا الإطار (مثلاً، جبران باسيل، جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 30/4/2009، «الأخبار»، 1/5/2009).
ــــ الفئة الأقرب إلى الأكثرية النيابية (المتهمة بالتدخل في أعمال القضاء)، دعت إلى وقف الانتقادات الموجهة إلى القضاء (وتالياً إلى الذين يتدخلون في أعمالهم) باسم «هيبة القضاء». لا بل إن الرئيس السنيورة ذهب إلى حد المطالبة بإصدار بيان حكومي بتوجيه الشكر للقضاء اللبناني على جهوده في هذا المجال! أما وزير العدل، فسعى، ونجح كثيراً، إلى فرض فئة جديدة من المواقف من شأنها حجب الإشكاليات المتصلة بالعمل القضائي برمتها، حسبما أبيّن أدناه.
2ــــ المواقف الآيلة إلى حجب الإشكاليات المتصلة بمسؤولية القضاء عبر تسليط الأضواء على غياب الضوابط القانونية للحبس الاحتياطي:
كما سبق بيانه، أبرز المواقف، في هذا الصدد، هو موقف وزير العدل الذي أحال في 4 أيار (أي في غضون أقل من أسبوع من قرار الإفراج عن الضباط)، إلى مجلس الوزراء مشروع قانون لتعديل المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في اتجاه إلغاء العدد الأكبر من الجنايات المستثناة (القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل) من أحكام المدة القصوى للحبس الاحتياطي المنصوص عليها في هذه المادة (ستة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار معلل).
عدم وجود مدّة قصوى للحبس الاحتياطي لا يعفي القاضي من مسؤولية التحقّق من قوّة الأدلّة المتوافرة
وقد جاء في الأسباب الموجبة للمشروع: «إن هذه المادة قد تتعارض مع حسن إدارة الدعوى الجنائية من نحو أول، ومع المقاييس الدولية والداخلية لحقوق الموقوفين ولحقوق الإنسان من نحو ثان، وبما أنه يتعين على التحقيق في القضايا الجنائية أن يستجمع القرائن والأدلة الكافية للاتهام وللسير بالدعوى خلال مهلة معقولة؛ فالتوقيف الاحتياطي هو تدبير استثنائي ويخشى إذا تجاوز مدة ما أن يؤدي إلى عكس قرينة البراءة التي ينص عليها الدستور والمبادئ القانونية العامة». وبالطبع، يظهر جلياً أن هذه الأسباب الموجبة قد استعادت بعض مضمون قرار الإفراج الذي نص حرفياً على أنه، تطبيقاً لقرينة البراءة، يشكل الحبس الاحتياطي «إجراءً استثنائياً لا يمكن تبريره إلا في حالات الضرورة القصوى وبحسب الشروط المذكورة في قواعد المحكمة» التي تمنع احتجاز مشتبه فيه لمدّة تزيد على 90 يوماً، إلا في حال صدور مضبطة اتهام مصدّقة من قاضي الإجراءات التمهيدية بحقه.
والواقع أن الإعلان عن هذا المشروع بهذه السرعة القياسية يعني أمراً من اثنين: الأول، أن الوزير احتاج إلى صدمة قوية من قبيل قرار الإفراج عن الضباط لاكتشاف سيئات أحكام المادة 108 والعمل على تعديلها، وبالطبع هذا الأمر ليس مقنعاً ما دامت مؤسسات حقوقية دولية عدة (أبرزها المفوضية العليا لحقوق الإنسان، 30 تشرين الثاني 2007) لفتت نظر الحكومة مراراً إلى تحول التوقيف الاحتياطي للضباط إلى احتجاز تعسفي. والثاني، وهو الأكثر قابلية للتصديق، أنه هدف أولاً إلى توجيه اهتمام الرأي العام نحو تعديل النصوص التي تصور إذ ذاك وكأنها المسؤولة الوحيدة عن إطالة أمد الاحتجاز، بعيداً عن إشكاليتي استقلالية القضاء ومحاسبته. وما يزيد هذه الفرضية الأخيرة رجحاناً هو أن تبرير طول أمد احتجاز الضباط بنص المادة 108 وحده غير مقنع: فأن لا يكون هنالك مدة قصوى للحبس الاحتياطي في جناية معينة لا يعفي القاضي إطلاقاً من مسؤولية التحقق من قوة الأدلة المتوافرة في الملف وتالياً من مدى الحاجة إلى إطالة أمده.
وفي الاتجاه نفسه، جاء بيان مجلس القضاء الأعلى في ختام جلسته الماراتونية (ثلاث ساعات ونصف ساعة) المنعقدة غداة الإعلان عن مشروع القانون (5 أيار). فقد سعى المجلس هنا أيضاً إلى تغليب مسألة غياب الضوابط والمعايير القانونية للتوقيف الاحتياطي على الإشكاليات الأخرى، أقله في التخاطب العام. وهكذا، أعلن من باب الدعوة إلى التروي في إطلاق الأحكام على القضاء أن «ثمة اختلافاً بين القواعد القانونية المطبقة في لبنان وتلك المحددة في الأصول الإجرائية العائدة إلى المحكمة الخاصة بلبنان، مما قد يكون من شأنه التأثير في المعايير المعتمدة والقرارات المتخذة في هذا المضمار». واذ لم يجزم المجلس في تبرئة القضاء من المسؤولية، فقد دعا بوضوح الجميع (وعلى رأسهم السياسيين) بلزوم الصمت في هذه الأمور وترك القضاء يدير شؤونه بنفسه، وبكلام آخر إلى ترك مسائل استقلالية القضاء ومحاسبته لمجلس القضاء الأعلى وحده، بعيداً عن التخاطب العام الذي ينحصر إذ ذاك بتعديل المادة 108.
وقد جاء الموقف الحاسم في هذا المضمار حين أقر مجلس الوزراء بالإجماع من دون أي تحفظ، مشروع القانون المقترح وأحاله إلى المجلس النيابي، وذلك في 26 أيار 2009، أي في غضون أقل من شهر من قرار الإفراج، في وقت تلاشت فيه تماماً جميع الإشكاليات الأخرى في الخطاب العام. وهكذا، بدا أن الفائدة البيداغوجية الوحيدة للقرار قد انحسرت سريعاً، بما يشبه الإجماع، في تعديل نص المادة 108 وحده. لكن الأحداث اللاحقة أثبتت للأسف قدرة فائقة للنظام اللبناني في الالتفاف على أي توجه إصلاحي في هذا المضمار، بل إلى قلبه. وهذا ما يسمح لي بالانتقال إلى درس المواقف الأحدث عهداً.
3ــــ المواقف الآيلة إلى حجب إشكاليّة غياب ضوابط الحبس الاحتياطي بالبطء في العمل القضائي:
وأول هذه المواقف صدر عن رئيس لجنة الإدارة والعدل روبير غانم في تصريحه الذي أعقب جلستها المنعقدة في 10/3/2010 للنظر في مشروع القانون التعديلي للمادة 108. «فمعظم أعضاء اللجان النيابية المعنية، وفق غانم، لم يلحظوا علّة في نص المادة القانونية، بل العلّة تكمن في خطورة التمادي في التوقيف الاحتياطي والتباطؤ في التحقيقات» («الأخبار»، 11/3/2010). هكذا، بكل بساطة ومن دون أي معطيات واضحة. بل أسوأ من ذلك، لم تكتف اللجنة على هذا الأساس برفض التعديل، بل استفادت من فرصة النظر في هذه المادة لإضافة استثناء جديد على قاعدة المدة القصوى للحبس الاحتياطي وهو جنايات «الإرهاب». وقد أيدت لجنة الدفاع رفض المشروع الحكومي، بحيث صرح رئيسها سمير الجسر أن المشكلة تكمن في تباطؤ القضاة والتعسف في استخدام الحبس الاحتياطي وليس في النص الذي يبقى في محله. واللافت أن أياً من هذه التصريحات لم يتعرض للظروف التي أحاطت بوضع هذه المادة، أو للمعايير الدولية. وهي من هذه الزاوية تبدو غير مقنعة البتة: فلو صحّ ما تفوّه به غانم والجسر، لوجب أوّلاً إعلان الدعوة إلى فتح تحقيق برلماني فوري بهذا الشأن، ولاقتضى أيضاً، من باب أولى، الهروع إلى فرض ضوابط قانونية حماية لحرية المواطن ضد تعسّف القضاة بدل إبقاء النص على حاله.
أما وأنّ اللجنتين قد اكتفتا بإلقاء تهم عامة بحق القضاء من دون تقييده بضوابط، فذلك يوازي تبرير الامتناع عن وضع ضوابط ضد الفساد بحجة أنه مستشرٍ، وهو يشير بالنتيجة إلى وجود نية واضحة في إبقاء احتمالات التعسف قائمة بمنأى عن أي ضوابط. فكل احتجاز تعسفي وأنتم بخير!
وهذا ما انتهت إليه الهيئة العامة للمجلس النيابي في جلستها المنعقدة في 15/6/2010، من دون أن يتضمن محضر المناقشات أي موقف اعتراضي من هذه الزاوية، ولا حتى من أقرب المقربين من وزير العدل. وهكذا، وكما أقر مجلس الوزراء إلغاء الاستثناءات بالإجماع، أقر المجلس النيابي إبقاءها بل الإضافة عليها عملاً برأي لجنة الإدارة والعدل، وأيضاً بما يشبه الإجماع (للأمانة، يسجل أن سامي الجميل طالب بإلغاء استثناء وحيد هو الجنايات ذات الخطر الشامل بحجة أنها عبارة مطاطة). فكأنما الأبيض والأسود سيان بالنسبة إلى الطبقة السياسية، فلا يملي أياً منها إلا الظرف السياسي، ولا بأس من القفز من الواحد إلى الآخر عند تغير هذا الظرف.
بل كأنما الوقت الذي انقضى منذ ذلك الحين كان كفيلاً بتبديد أي اضطراب ضميري في هذا الصدد، وتالياً بإلغاء الحاجة لأي إجراء إصلاحي. فإذا كان المشروع التعديلي قد وضع على سبيل التمويه، بهدف توجيه الرأي العام في اتجاه معين، فمن المنطقي طبعاً أن يُستبعَد بعد زوال الحاجة إلى ذلك. بئس البيداغوجيا!
* محامٍ وباحث في القانون