ومن مستلزمات أيّ استدلال أيضًا حول المرحلة، الإقرار بأنّ الولايات المتحدة لم تكن اللاعب الوحيد، وإن كانت اللاعب الرئيسي. لقد كان لها أعداء كما كان لها حلفاء. وهؤلاء وأولئك، قاموا بأدوار بسيطة أو معقدة، مباشرة أو غير مباشرة، سياسية أو عسكرية وأمنية في خدمة السياسة والمشروع الأميركيَيْن، أو في مواجهة هذين، وعلى امتداد منطقة الشرق الأوسط، ومنها خصوصًا لبنان. ويقود هذا السياق أيضًا إلى أنّ الصراعات لم تكن كالعادة، بعيدة عن المكائد والمناورات والخدع. ومعروف أنّ أبرز أشكال هذا النوع قد شاهده العالم في مقرّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حين اندفع وزير خارجية أميركا، في حينه، الجنرال كولن باول، في عملية «إثبات» بالخريطة والصوت والصورة، أنّ لدى العراق أسلحة دمار شامل، وأنّه يوفّر دعمًا لا جدال فيه، لمنظمة «القاعدة»!
دار صراع مرير حول لبنان. وحاولت سوريا التي كان وجودها ودورها وسياستها، موضع استهداف في لبنان خصوصًا، الكثير من الطرق بما فيها الضغط والإكراه، من أجل إحباط ذلك الاستهداف. حصل ذلك خصوصًا، في معركة رئاسة الجمهورية، وحصل أيضًا في مجالات عدّة ذات طابع أمني، غالبًا وسياسي واقتصادي أحيانًا.
لم يكن الرئيس رفيق الحريري آنذاك على الحياد. لقد تعرّض هو الآخر، لضغوط عديدة من أجل اقتراح تمديد ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود. كما رعى، ضمنًا، أو علنًا، حركة المعارضة للتمديد التي كانت قد بدأت تتكوّن في تجمّع سياسي في «البريستول» متحالف مع الولايات المتحدة ومراهن على نجاح مشروعها في المنطقة، على أمل أن يؤدّي ذلك أيضًا إلى إخراج سوريا من لبنان وضرب نفوذها فيه. وكان من أهداف تلك المعارضة في تداعيات ما ذكرنا، أن يحلّ نفوذ أميركي محلّ النفوذ السوري، وأن تحلّ سلطة ذلك التحالف محلّ النظام الأمني السوري ــــ اللبناني المشترك.
هذا السياق الصاخب والمتفجّر كان ينتظر أن تترجم نتائجه في استحقاق الانتخابات النيابية الذي كان محدّدًا في أواسط آب 2005. في هذه اللحظة السياسية المثقلة بالصراع وبالاحتمالات، جرى اغتيال رفيق الحريري.
اندفع عديدون إلى ملاقاة المشروع الأميركي بغية إسقاط النظام في سوريا بعد إخراج قواتها من لبنان
اتخذت الاتهامات ضدّ سوريا شكل حركة دولية وداخلية صاخبة، ما لبثت أن أدّت إلى فرض قرار سريع وحتى مهين للقوات السورية من لبنان...
في قراءة موضوعية لمسار الأحداث، يستطيع المتابع أن يعقد محاكمة من نوع: لقد استحق «المذنب» عقابه. فخروج القوات السورية بهذه السرعة وبدون ثمن أو شروط، كان أمرًا غير قابل للتصديق قبل اغتيال الحريري وقبل استثمار هذا الاغتيال.
الارتباك السوري الطبيعي في حينه، وكذلك ارتباك حلفاء سوريا في لبنان، هو أيضًا ما سهّل مهمة خصومهم ضدّهم، بالإضافة إلى جملة أخطاء متراكمة واختراقات حقيقية في الأجهزة السورية نفسها، وعلى أعلى المستويات.
باختصار: سوريا وحلفاؤها في لبنان هما من دفع الثمن. لم يسأل أحد، وسط هذه المناخات المحمومة، عن المستفيد، رغم أنّه كان واضحًا كوضوح الشمس. لقد جرى السؤال عن المتضرّر من التغييرات التي طرأت على مواقف المغدور الحريري. أكثر من ذلك، لقد بلغ الخلل في المعادلات والموازين والحسابات، درجة أنّ المستفيد قد تحوّل في نظر فئة من اللبنانيين إلى منقذ وحام وحليف. وقد انسحب ذلك على العدوّ الإسرائيلي نفسه!
لكنّ تصفية الحساب مع سوريا في لبنان لم تكن هي الهدف الوحيد، وإن كانت الهدف الأوّل. هذا هو منطق الصراع الذي لم يتوقّف ولم ينتهِ بخروج القوات السورية من لبنان. الدليل على ذلك عدوان 2006، من جهة، وتبديل الجهة المتهمة من المحكمة الدولية، من جهة أخرى.
لماذا هذا الكلام «المنحاز» و«الأيديولوجي»؟ ببساطة: أوّلاً، لأنّ الدور السوري في لبنان، لم يكن يجسّد فقط رغبة سورية في إدارة لبنان أو ممارسة الوصاية عليه. لقد كانت للدور السوري في لبنان وظيفة إيجابية، بل شديدة الإيجابية، تمثّلت في المساهمة في بناء حالة مقاومة ضدّ العدوّ الإسرائيلي، أثمرت عام 2000 هزيمة جديدة ومدوّية للصهاينة في لبنان وفرضت عليهم انسحابًا ذليلاً لم يقاربه في المذلة إلا ما أصاب عملاءهم على أيديهم في تلك الأسابيع الصعبة في التاريخ الصهيوني.
كان للانتقام عبر كشف «الحقيقة» تتمّة إذاً، وإن كان ذلك على حساب الحقيقة نفسها. وهكذا سحب الاتهام ضد سوريا وأصبح سيف الحكمة موجّهاً نحو رقبة المقاومة ممثلة بـ«حزب الله» الذي وصفه منذ أسابيع مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، بأنّه «القوة الإرهابية الأقوى والأخطر في العالم»!
يتصل بكلّ ما تقدّم أمران: الأوّل لماذا «ضاعت الطاسة» في لبنان. ولماذا مثلاً، لم يُجرِ القادة اللبنانيون في المعارضة آنذاك، عملية «قطع حساب» كما فعل مثلاً العماد ميشال عون حين اعتبر أنّ الصراع مع سوريا يجب ألا يستمرّ بعد سحب قواتها من لبنان، وكان ذلك يعني إقفال موضوع الاغتيال وقطع الطريق على استخدام مفتوح له... بدلاً من ذلك ثارت مراهنات بالغة الثقة بالنفس وبنجاح المشروع الأميركي في لبنان. وهكذا اندفع عديدون إلى ملاقاة هذا المشروع الأميركي في منتصف الطريق بغية إسقاط النظام السوري في سوريا بعد إخراج قواتها من لبنان.
لم تكن المصلحة اللبنانية هي ما وجّه فريق المعارضة آنذاك، بل عمومًا مصالح خارجية ومصالح فئوية. ولم يكن الهدف الوحيد هو الانتقام من قتلة الحريري المفترضين، فقد حصل هذا الانتقام بأعلى ثمن ممكن، عبر خروج القوات السورية من لبنان بعد شهرين تقريبًا من عملية الاغتيال، ما دام الاتهام موجّهًا حصريًا ضدّ القيادة السورية.
واليوم، إذ تمضي إسرائيل في الترويج لـ«تدهور» في لبنان يعقب إصدار القرار الظني، يمعن فريق لبناني في العزف على وتر الرهان الخارجي والفئوية الداخلية ذاتهما!
الجديد هو أنّ مثل هذا الرهان سيكون مكلفًا على كلّ اللبنانيين، بما في ذلك على أصحابه، وربما عليهم أكثر من سواهم. هذا يستحق إعمال العقل في التطوّرات، وفي الوظيفة المتدحرجة للمحكمة الدولية، على الأقل كما يحاول الأميركيون والإسرائيليون توجيهها، وحتى تثبت المحكمة العكس لجهة قدرتها على التفلّت من التسييس نحو القضاء ومن الاستخدام نحو العدالة!
إسرائيل طرف كان المستفيد الأوّل من الجريمة. إذاً هو يملك الدافع، فضلاًَ عن أنّه يملك الإمكان. وهو الآن بدعم من حماته وشبكاته الدولية، يحاول مجدّدًا استخدام المحكمة من أجل الفتنة واستهداف المقاومة. ألا يدفعنا ذلك إلى التشكيك بعدوّنا على الأقل، بدل «الموقف المبدئي» في اتهام خصومنا المحليين؟
في الصراعات الكبرى يحصل دائمًا أنّ يُستعان بصديق. وقد يحصل أحيانًا أن يجري التضحية به. لقد كان الحريري صديقًا للولايات المتحدة، لكنّه لم يكن أبدًا بمستوى ما تمثّله إسرائيل في شبكة المصالح الأميركية والغربية الاستعمارية، فضلاً عن أنّه كان متناقضًا مع جزء من هذه المصالح بمقدار ما كان صاحب مشروع يصطدم في جانب أساسي منه، موضوعيًا، مع نهج التوسّع والعدوان والهيمنة الإسرائيلي.
*كاتب وسياسي لبناني