المتتبّع لملف المحكمة الدولية الخاصّة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري منذ نشأتها الملتبسة قانونياً وسياسياً، يجد أنّ القيّمين على هذه المحكمة أشبه بمن سيّجوها وأحاطوها بمجموعة من التابوهات والمحرّمات السياسية، عبر تحديد مسار فرضياتها الاتهامية وتكييفها حسب ظروف كل مرحلة سياسية وما تفرضه من توازنات على الأرض

سلمان عبد الحسين*
في الفترة التي اتُّهمت فيها سوريا باغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان المتابعون للشأن السياسي اللبناني، يلحظون صعوبة طرح فرضيات أخرى غير اتهام سوريا باغتيال الحريري، ما يكشف عن حجم التسييج المحكم لهذه الفرضيات وإحاطتها بكامل التركة الثقيلة من العلاقة الأمنية بين لبنان وسوريا أثناء الوجود العسكري السوري في لبنان، واعتباره الأساس لهذه الفرضيات، وخصوصاً بعد منجز خروج الجيش السوري من لبنان وفق أدبيات قوى 14 آذار.
إن جزءاًَ من ثقل هذه التركة وثقل الصدمة التي أنتجت كل هذا التطور الدراماتيكي في العلاقة بين لبنان وسوريا، وصولاً إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، هو الذي أعطى لفرضية اتهام سوريا باغتيال الحريري دفعاً استثنائياً، كما أعطاها الحماية المطلوبة لتستقر في الذهنية العامة بوصفها الدعامة الأساسية التي ارتكز عليها مشروع قوى 14 آذار، ما جعل هذه القوى تذكي هذه الفرضية وتشعل وقودها بالخطابات النارية. وهذا الإذكاء الحماسي والجارف والجنوني في بعض الأحيان، أسهم في خلق تابوهات غليظة على الفرضيات الأخرى.
الكل سمع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في تلك الفترة يتحدث عن فرضية اغتيال إسرائيل للحريري، ويرى أن عدم وضع هذه الفرضية ضمن الفرضيات القائمة يجعل التحقيق فاقداً الصدقيّة، وغير شفّاف وغير نزيه.

انتقلت بعض التابوهات من مرحلة الحجر المطلق إلى مرحلة البوح بها علناً من طرف واحد
إلا أن الإحاطة الغليظة من جانب قوى 14 آذار بفرضية اتهام سوريا باغتيال الحريري، والزهو بمنجز خروج الجيش السوري من لبنان كمصداق وشاهد ملتبس وتمويهي لهذه الفرضية، جعلا من كلام السيد نصر الله على أهميته وتأسيسه القانوني المتين كلاماً باهتاً يسبح عكس تيار التابوهات المحرمة، لكون ثقل المشهد قد أنجز كامل الصورة الاتهامية، ولم يعطِ مجالاً لأحد في تلك الفترة الملتبسة أمنياً وسياسياً كي يقول بغير فرضية اغتيال سوريا للرئيس الحريري.
إلا أن صمود سوريا أمام هذه الموجة العالية الارتداد، ورفض المقاومة تحديداً لاتهام سوريا باغتيال الحريري حتى مع إغراء التحالف الرباعي في انتخابات عام 2005 المفضي إلى تنزيه المقاومة عن الشراكة في هذا الجرم مقابل تخلّيها عن تحالفها مع سوريا، هذا الصمود أثمر بالتدريج كسراً للإحاطة الغليظة من جانب قوى 14 آذار بفرضية اتهام سوريا للحريري.
لقد جاء انكشاف أمر شهود الزور، ليمثّل فضيحة كبرى للمحكمة الدولية. وجاء انتصار تموز عام 2006 ليفرض توازن قوى جديداً ولجت من خلاله المقاومة إلى الشأن الداخلي اللبناني، وبدأت تمسك شيئاً فشيئاً بخيوط اللعبة، ثم جاءت أحداث 7 أيار عام 2008 لتقلب المشهد بالكامل، وتعطي التقدم للمقاومة في لعبة التوازنات الداخلية حتى مع خسارتها انتخابات عام 2009. ثم جاء الإفراج عن الضباط الأربعة ليسكت فرضية الاتهام لسوريا إلى الأبد.
كما أن عودة العلاقات السورية اللبنانية من خلال التمثيل الدبلوماسي وتفعيل اتفاقيات التعاون بين البلدين، وتوقيعها أخيراً، والعلاقة المستجدة والحميمة بين رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والرئيس السوري بشار الأسد أنهت كل الإحاطة الغليظة السابقة، وجعلتها من الماضي. وأخيراً، جاء انكشاف شبكات التجسّس لإسرائيل، وصولاً إلى الاشتباه بعميلي الاتصالات شربل ق. وطارق ر. ليلوّن المشهد اللبناني بواقع المؤامرة وحجم التعقيدات والتشابكات والتداخلات فيها، وليعيد إنتاج الفرضيات حتى مع بقاء التابوهات قائمة.
لقد أُسقطت فرضية اتهام سوريا، لكن التابوهات لم تسقط ولم تُكسر بعد، لأنها العصب الذي يشدّ قوى 14 آذار ويعيد استيلاد مشروع جديد لهم من رحم هذه التابوهات. وهذا يفتح المجال لتساؤلات أكثر إلحاحاً وأكثر صدىً وسماعاً من ذي قبل، حتى مع محاولة إنتاج هبّة ثانية من الفرضيات تطاول هذه المرة حزب الله أو كما تروّج قوى 14 آذار «عناصر غير منضبطة داخله». والسبب: أنّ الظروف الصادمة التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري ليست متوافرة حالياً، وكانت هذه الظروف تمثّل السياج الاتهامي لأيّ طرف تريد اتهامه هذه القوى، فيما الوقت الحالي مليء بالكثير من الخيوط التي كُشفت، والتي هي مثار تساؤل وإدانة بصوت عال، ولا مجال لمحاصرتها أو تطويقها كما كان يجري في السابق.
لقد أعيد الاعتبار مثلاً إلى المنطق القانوني الذي يقول إنّ تأسيس المحكمة غير قانوني وغير دستوري وفقاً للدستور اللبناني، وإنه ينتهك السيادة اللبنانية، انطلاقاً من كون إبرام المعاهدات، التي منها معاهدة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، منوط برئيس الجمهورية لا رئيس الحكومة.
وهذا المنطق القانوني لم يكن ليرفّ جفن حكومة الرئيس الأسبق فؤاد السنيورة له حين قررت المضيّ في إبرام اتفاقية المحكمة الدولية من دون موافقة رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، بعدما كانت هذه الاتفاقية سبباً لجعل حكومته حكومة بتراء بانسحاب الوزراء الشيعة منها. لكن هذا المنطق اليوم من دون كلفة انسحاب أي وزير يتداول على أنه جزء من ثُغر تأليف المحكمة الدولية، وسبب للطعن في صدقيتها وشرعيتها، ويأخذ مساحته الموضوعية في التداول والتصديق والتفهم كحد أدنى.
أمّا عن شهود الزور، فقد كانت القفزة كبيرة جداً في تحريك ملفهم، إذ انتقل الحديث عنهم من الإشارة والتلميح إلى استحضارهم إلى قلب الحدث، واعتبار محاكمتهم ومحاكمة من يقف وراءهم نقطة ارتكاز في الوصول إلى حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري. وتزامناً مع ذلك، برزت إفاداتهم التفصيلية في الصحف مع تسجيلات صوتية لبعضهم وهم يتّصلون بأقطاب 14 آذار، تعبيراً عن العلاقة الاستثنائية بينهم وبين قوى 14 آذار.
هذا الاستحضار لشهود الزور إلى قلب الحدث لم يكن ليحصل لولا تسريبات القرار الاتهامي التي طاولت حزب الله بالاتهام. فكان رد حزب الله عبر لسان أمينه العام بضرورة محاكمتهم، ومحاكمة من يقف وراءهم للوصول إلى الحقيقة، فيما كانت تجري معركة محاكمتهم على نار هادئة، ويتولاها اللواء جميل السيد من خلال القضايا التي رفعها عليهم أمام القضاءين السوري والفرنسي، وأمام المحكمة الدولية.
وهذا يعني أن أحد التابوهات التي حظيت بحماية استثنائية من قوى 14 آذار، ومن الجهات القريبة والمحيطة من أولياء الدم قد بدأ بالاهتزاز تمهيداً إلى سقوطه مع توالي الحقائق الصادمة في هذا الملف.
غير أن طرح محاكمة شهود الزور بطريقة جادّة، واعتبار ذلك مدخلاً إلزامياً لتصحيح مسار عمل المحكمة الدولية ومعرفة حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري، يجعل المتابعين أمام استنتاجين لا ثالث لهما:
الاستنتاج الأول: يرتبط بمنظومة الحماية التي تحمي شهود الزور. فهذه المنظومة بحسب ما يرد من أخبار هي لأسماء مرتبطة من الناحية التنظيمية والسياسية بأولياء الدم، والداعون إلى محاكمتهم يعدّون ذلك مدخلاً لمعرفة حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري، فكيف يحمي أولياء الدم شهود الزور ويكون بعضهم متهماً بفبركة إفاداتهم الاتهامية بحق سوريا، ويكونون بعد ذلك طالبين للحقيقة؟
هل تعني هذه الحماية وهذه الفبركة أنّ هناك من داخل القوى السياسية التي تطالب بدم الرئيس الحريري من تورّط في اغتياله وجعل من قضية اغتياله قميص عثمان ليدين بها خصومه السياسيين، وأنّ هذا الأمر مسكوت عنه إلى الآن من جميع القوى السياسية؟ أم أن المسألة لها قطبة مخفيّة ونتيجة غير معلنة إلى الآن في ظل وجود مقدمات تحتمل الكثير من التأويلات؟ فما يعني فعلا أن محاكمة شهود الزور مدخل لمعرفة قتلة الرئيس رفيق الحريري؟
الاستنتاج الثاني: أنّ مسار المحكمة، ومعها شهود الزور، والجهات السياسية الداعمة لهم في لبنان وخارجها، مرتبطة جميعها بأجندة خارجية تريد المسار السياسي في لبنان في هذا الاتجاه، وأن هذه القوى قد تكون على علم بمن قتل الحريري من دون أن يكون من داخل صفوفها. لكن التصريح بالقتلة يقع في دائرة التابوهات والمحرّمات السياسية، وأنّ فبركة الاتهامات التي أدلى بها شهود الزور من بعض المحسوبين على فريق 14 آذار في الاتجاه المعاكس للحقيقة مرتبطة بإرادة دولية وإقليمية لا قِبَل لهولاء على مواجهتها أو الوقوف في وجهها، لأنها تلغي أساس مشروع قوى 14 آذار على يد من صدّره إلى الساحة اللبنانية.
ومن هنا يمكن معرفة سبب تنكّر هؤلاء لكل ما يكشف من حقائق في قضية اغتيال الحريري، ابتداءً بشهود الزور، ورفض محاكمتهم والجهات اللبنانية الراعية والممولة لهم من جانب المحكمة الدولية بدعوى عدم الاختصاص، وصولاً إلى انكشاف شبكات التجسس الإسرائيلية المرتبطة بقطاع الاتصالات، ودورها في نسف الأدلّة التي تبني عليها المحكمة الدولية قرارها الاتهامي بحق حزب الله، في ظل المعلومات التي تؤكد أن إسرائيل باتت تسيطر على قطاع الاتصالات بالكامل، فضلاً عن التسريبات التي ترد من المحكمة الدولية عن مضمون القرار الاتهامي، وتتداولها وسائل الإعلام، وكيان العدو الصهيوني، الذي دخل على خط هذه التسريبات بقوة، إضافةً إلى الأوساط الإعلامية والسياسية في الداخل اللبناني.
كل هذه المعطيات لم تحرف أجندة المتشبّثين بحبال المحكمة الدولية إلى إنتاج فرضيات اتهامية أخرى غير اتهام سوريا سابقاً وحزب اللّه حالياً، لا لعدم موضوعية ما يساق من أدلة مضادة، بل للثمن المطلوب دفعه في حال تبنّي فرضيات موضوعية تتساوق مع المعطيات المستجدة التي تتوالى بالظهور مع وصول الملف الأمني في لبنان إلى ما يشبه المشهد المفزع والمستنفر بكل معنى الكلمة.
فالمعطيات الموضوعية لا قيمة لها هنا، وهذا جزء من سلبيات العمل الحزبي القائم على الأجندة والقناعات المسبّقة، والمشروعات السياسية القائمة على التضاد، وحتى لو أتت الحقيقة ناصعة واضحة بهيّة لا لبس فيها، ولو جاءت مئات القرائن لتؤكد عكس الفرضيات الحالية، فما لم تجرِ زعزعة أركان المشروع عملياً وعلى الأرض، فإن القناعات المسبّقة ستبقى مسنودة ببقاء المشروع المضاد فاعلاً على الأرض، وهنا تقع المشكلة.
تبقى مسألة إسقاط التابو الأكبر المرتبط بإيجاد حيز موضوعي وقانوني وسياسي لفرضية اغتيال الرئيس الحريري من جانب إسرائيل، وإعطائها المساحة المطلوبة للتحرك في فضاء الفرضيات الأخرى.
وفي هذا المجال: انتقل هذا التابو من مرحلة الحجْر المطلق على تداوله، كما كان مع بدايات الصدمة باغتيال الحريري ومصاديقها الحسيّة المرتبطة بخروج الجيش السوري من لبنان، وما تبعها من سنوات الاتهام والعداء لسوريا، إلى مرحلة البوح به علناً وبصوت عال، ومن طرف واحد، وهو الطرف المراد اتهامه حالياً باغتيال الرئيس الحريري، ألا وهو حزب الله، من دون أن يعطى إلى الآن الحيز الموضوعي لتقبّله كفرضية قائمة من فريق 14 آذار والجهة الضيقة اللصيقة بأولياء الدم!
غير أن مساحة السماع والتقبّل على مستوى الرأي العام غير المضغوط بصدمة اللحظات الأولى للاغتيال، وخصوصاً بعد تجربته المرّة مع وقائع الاتهام السياسي الذي حصل لسوريا، والذي حاكمه السيد نصر الله في مؤتمره الصحافي الأول، ودعا قوى 14 آذار على أساسه إلى المراجعة النقدية لمواقفهم الاتهامية، هذه المساحة أخذت تتسع اتساعاً كبيراً تمهيداً لإسقاط بقية المحرمات في الفرضيات الاتهامية.
ويعدّ اختيار نصر الله لمحاكمة موقف قوى 14 آذار من اتهام سوريا باغتيال الحريري قاعدة تأسيسية صلبة وموفّقة وذكية في الوقت نفسه لرفض اتهام حزب الله من الفريق ذاته، وإثبات براءته بطريقة واقعية، كما أنه يؤسس لإنتاج الفرضيات المضادة، ومنها فرضية اغتيال إسرائيل للرئيس رفيق الحريري بطريقة أكثر تقبّلاً.
فالسلوك السياسي المحض لقوى 14 آذار في ممارساتهم الاتهامية، أفقدهم الصدقية اللازمة للمضيّ في مشاريعهم الاتهامية إلى الأمام، وتوافر المعطيات المستجدة حاصرهم أكثر فأكثر، وربما أدخل بعضهم في دائرة الاتهام بدلاً من اتهامهم للآخرين.
فقد كان رد الأمين العام لحزب الله في مؤتمره الصحافي الأول على مسألة عدم اعترافه بصدقية المحكمة الدولية، لكونها ترفض وضع إسرائيل ذات المصلحة والدافع والقدرة على تنفيذ جريمة اغتيال الحريري ضمن الفرضيات المحتملة، كان هذا الرد كأنه يُسمع لأول مرة، وكان استشهاده القانوني كأنه بكر لحظته، لم يشنف سمع أي قاض قبل ذلك. والسبب هو حيز التقبل الذي فرضته مستجدات المشهد اللبناني من واقع شهود الزور ومن يقف وراءهم، والدعوة إلى محاكمتهم، إلى طبيعة الدور الذي كان يؤديه عملاء الاتصالات لمصلحة إسرائيل، بعد انزياح ثقل الجريمة ومفاعيلها التعبوية والضاغطة عن فضاء الفرضيات، وتغيّر توزانات المشهد السياسي الداخلي.
وقبل كسر السيد نصر الله للتابو في 3 آب الجاري في إطلالته لمناسبة عيد الانتصار الرابع باتهامه المباشر لإسرائيل باغتيال الحريري، وحديثه عن معطيات مقرونة بالأدلة سيكشف عنها في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين 9 آب، فإنّ أيّ متتبّع حصيف لتفاصيل المشهد اللبناني، يدرك أن في جعبة حزب الله الكثير من المعطيات عن اغتيال الحريري وفرضيات الاغتيال، وخصوصاً بعد إطلالة السيد نصر الله في عيد الجريح المقاوم، وسؤاله فرع المعلومات إن كان يملك معلومات عن عمالة شربل ق. قبل إلقاء استخبارات الجيش القبض عليه، وصولاً إلى حديثه عن العملاء الكبار الذين يقفون خلف عمالة الصغار، واعتباره ملف الاتصالات بمثابة حجر الزاوية الذي أُسقط للقرار الاتهامي المفترض ضد حزب الله.
ولولا الفرملة التي مارسها السيد نصر الله على برنامج خطاباته وإطلالاته الإعلامية المعدّة سلفاً بشأن القرار الاتهامي بانتظار المبادرات الداخلية والخارجية، والتي حرمت المتتبّع السياسي نهم معرفة التفاصيل الصادمة للفرضيات المضادة في قضية اغتيال الحريري، لولا هذه الفرملة الملحوظة والمرصودة والمعروفة على مستوى ما تريده من أهداف وما تنتجه من آليات ضغط، وما تحتفظ به من أوراق سياسية، لكان المشهد مفزعاً وأكبر في إفزاعه من مشهد الانكشاف الأمني الحالي.
تبقى مسألة أخيرة ذات أهمية كبيرة، وهي مسألة السيناريوهات المتوقعة لمسار القرار الاتهامي ومسار الأحداث السياسية والأمنية في لبنان بعد القمة الثلاثية التي حصلت في بيروت في 30 تموز بين الملك السعودي والرئيسين السوري واللبناني، في ظل الدعوة إلى إلغاء القرار الاتهامي، لا إلى تأجيله، ورفض حزب الله لأيّ لقاءات أو تفاهمات قائمة على أساس التأجيل. وهنا لا بد من تقرير نقطتين تأسيسيّتين يمكن أن ترصدا مسار السيناريوهات المتوقعة:
النقطة الأولى: أنّ طبيعة العلاقة السورية السعودية لا ترقى حتّى الآن إلى التحالف السياسي أو التفاهمات الشاملة على قضايا المنطقة، بل هي علاقة قائمة على التقاطع والتفاهم الموضعي في لبنان، نتيجة حجم نفوذ كل منهما في المشهد اللبناني، وهذا التفاهم الموضعي قد يتضرر ويوصل الأمور من جديد إلى النقطة الصفر، متى تغيّر المشهد الإقليمي وتغيّرت معه موازين القوى السياسية.
فالسعودية ما زالت أقرب إلى ما تصطلح عليه دول الاعتدال، وهي غير متوافقة مع سوريا في المشهد العراقي، ولا المشهد الفلسطيني، لأنها أقرب ما تكون إلى مصر منها إلى سوريا في هذين الملفّين.
أما سوريا، فلها تحالفاتها الاستراتيجية التي لن تضحي بها نتيجة هذا التفاهم الموضعي والهش، كما أنها لن تخضع للضغوط السعودية بفك تحالفها مع إيران تحديداً، في ظل قراءتها لهشاشة الوضع العربي وتصدعه وعدم القدرة على البناء عليه، في مقابل تماسك جبهة قوى الممانعة في المنطقة، وتحقيقها انتصارات استراتيجية ذات أهمية بالغة في تحديد مسار المنطقة ومستقبلها.
هذا التناقض في الخيارات بين السِيْنَيْنِ الراعيَين للملف اللبناني، يمكن أن يغير مسار التحالفات والتموضعات السياسية في أي لحظة، وخصوصاً في الجهات الأكثر رعاية من جانب الطرفين، ما يجعل المشهد اللبناني قابلاً للإرباك والتأزم وحتى التفجّر في أي لحظة، وخصوصاً في الملفات ذات الاشتغال الحالي إذا لم تستطع هذه الجهات الراعية إقناع الجهات الدولية الممسكة حالياً بملف المحكمة الدولية بطبيعة التسوية التي يمكن أن تصدر عن هذين الراعيين.
إلا أن هناك فهماً يجعل المسألة تتعدى الحديث عن خريطة التحالفات في العلاقة بين السعودية وسوريا في ما يخص لبنان، وهو طبيعة المصالح الموجودة لدى كل من الطرفين في الداخل، ونوعية علاقة كل طرف بالجهة التي يرعاها، ما يجعل الأمر مرشّحاً لإنتاج تفاهم طويل الأمد بعيداً عن طبيعة التحالفات الإقليمية والخيارات السياسية للطرفين حتى مع تغير الظروف الإقليمية وانقلاب موازين القوى لمصلحة هذه الجهة أو تلك. وهذا الأمر مرهون تحديداً بالمدى الذي وصلت إليه العلاقة بين الطرفين، وبتعمق الخصوصية اللبنانية في أجندة الطرفين، بناءً على كون لبنان ساحة نفوذ حقيقية ذات طابع تاريخي ناجز لكليهما، بخلاف بقية الساحات التي تتفاوت فيها مساحات النفوذ، وتظل رهن التجريب والاختبار.
النقطة الثانية: صعوبة الحلول المطروحة التي تدعو إلى إلغاء القرار الاتهامي بحق حزب الله، وترتبط هذه الصعوبة بمجموعة مستويات:
المستوى الأول: أن يكون إلغاء القرار الاتهامي بحق حزب الله مقدمة لإلغاء المحكمة الدولية، لكون إلغاء القرار الاتهامي يفتح المجال أمام الفرضيات الاتهامية الأخرى، ومنها فرضية اغتيال إسرائيل للرئيس الحريري، وهو ما سترفضه القوى الكبرى الداعمة لهذه المحكمة، ما سيدفعها إلى تعطيل مفاعيل هذه المحكمة وصولاً إلى إنهائها إما فعلياً أو عملياً.
والنتيجة أن أولياء الدم في لبنان الذين راهنوا على هذه المحكمة في كشف حقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري سيرفضون إلغاءها، ما سيفتح المجال ربما ليمضوا في قرار الذهاب مع المحكمة حتى آخر الشوط، من دون الالتفات إلى انحراف مسار عملها. ذلك أنّ إنهاءها سيمثّل فضيحة سياسية كبيرة لكل من دعمها، وكان رافعة لها طوال السنوات الخمس الماضية، كما أنه سينهي معالم المشروع الذي قامت عليه قوى 14 آذار وكل الجهات الدولية والإقليمية الداعمة لها.
المستوى الثاني: أن تكون الجهات الراعية للحل في لبنان، وتحديداً السعودية، التي كانت راعية وممولة للمحكمة الدولية، غير قادرة فعلاً على إلغاء القرار الاتهامي الذي يتّهم حزب اللّه باغتيال الحريري، وأن تكون القوى الكبرى فعلاً هي الممسكة بالمحكمة الدولية، وأنها قررت استخدامها كسلاح تصفية للمقاومة وسلاحها، وأن تذهب بهذا الاتجاه إلى البعيد، حينها ستكون السيناريوهات مفتوحة على الأسوأ واللامتوقع.
المستوى الثالث: أن ترفض قوى 14 آذار إلغاء القرار الاتهامي من داخل مجلس الوزراء بإصدار قرار يقضي برفضه لكونه قراراً مسيساً، وأن يجري التشبّث بالمقولات السابقة من كون المحكمة الدولية مستقلة، ويجب ألا تخضع للسجال الداخلي اللبناني، فتكون الحكومة مهددة بالانهيار والعودة من جديد إلى مرحلة الفرز السابقة، بالحديث عن الحكومة البتراء في ظل اتساع رقعة المستقيلين هذه المرة، ووصولهم ربما إلى المناصفة.
في ضوء ما تقدم، يمكن طرح السيناريوهات التالية لمسار عمل المحكمة، وإمكان إصدار قرار اتهامي يتهم حزب الله باغتيال الحريري من عدمه:
السيناريو الأول: أن ينجح حزب الله من خلال حركته الاستباقية بالتصدي لمضمون القرار الاتهامي، الذي يتهمه باغتيال الحريري، ويخلق حالة إجماع أو شبه إجماع داخل الحكومة اللبنانية متزامنة مع جهود سوريا والسعودية لإيجاد المخارج، بأن يجعل الجهة التي تمثّل أولياء الدم مؤيدة لفرضيته التي يتهم من خلالها إسرائيل باغتيال الحريري، حسب الوقائع التي سيعرضها الأمين العام لحزب الله في مؤتمره الثاني. وأن يترتب على هذا الإجماع رفض رسمي لأي قرار اتهاميّ يتهم حزب الله باغتيال الحريري، في مقابل تبني فرضية اغتيال إسرائيل للرئيس الحريري، وإدراج الحكومة ملف هذه الفرضية ضمن ملفات المحكمة الدولية لتبني عليها تحقيقات جدية، ومن ثم سحب القضاة اللبنانيين من المحكمة الدولية في حال صدور هذا القرار متهماً حزب الله، وعدم استجابتها للتحقيق في الفرضيات الأخرى، مع إعلان الحكومة عدم تعاونها مع المحكمة الدولية في مفرزات قرارها الاتهامي ومتطلّباته القضائية والقانونية.
وهذا السيناريو هو الأمثل، ويرتبط بالدرجة الأولى بإمكان السيد نصر الله، من خلال ما سيعرضه من وقائع تدين إسرائيل باغتيال الحريري في مؤتمره الصحافي، كسر ما بقي من تابوهات ومحرمات سياسية تفضي إلى اقتناع وتغيّر في توجهات محيط أولياء الدم تحديداً، وقبول الجهة الراعية لهذا المحيط دفع كلفة معاكسة للتوجه الدولي حفاظاً على التركيبة اللبنانية التي كانوا طرفاً في تحديد أطرها القانونية والدستورية والميثاقية والسياسية، وطرفاً في صياغة هويّتها التعددية. فهل ينتصر المنجز التاريخي في هذه المعركة، أم تنتصر التوزانات الدولية الضاغطة على المشهد الإقليمي بقوة؟
السيناريو الثاني: ويقضي برفض اتهام إسرائيل باغتيال الرئيس الحريري نتيجة للضغط الدولي الذي يريد بقاء هذا التابو قائماً. وفي المقابل، رفض اتهام حزب الله عبر القرار الاتهامي باغتياله أيضاً، في ظل بحث القوى الراعية للبنان عن وسائل لحفظ الاستقرار فيه. غير أن هذا السيناريو سيصطدم بالدرجة الأولى بنفاد بنك الفرضيات الاتهامية تلقائياً، ما سيفضي حكماً إلى انتهاء مفاعيل المحكمة الدولية، وإغلاق أبوابها، وتقييد التهمة ضد مجهول. فهل سيروق هذا المشهد من راهن على المحكمة من أولياء الدم في لبنان والداعمين والمتحالفين معهم في الداخل والخارج؟ وهل ستقبل الدول الكبرى الراعية لإسرائيل هذه النتيجة بعد كل الكلف المدفوعة للوصول إلى محاصرة المقاومة والدول والجهات الداعمة لها؟
هناك نقطة ضوء واحدة يمكن أن تجعل هذه الفرضية قائمة ولها حظوظ وافرة حتى مع الضغوط الدولية، وهي أن توجد مساحة تعويضية على مستوى الرعاية البينيّة السعودية السورية للجهات المحسوبة على الرعاية السعودية تحديداً من أولياء الدم لإنتاج تسوية تقاسم السلطة والنفوذ داخل الأطر الدستورية والميثاقية الحالية، عبر إعادة إنتاج هذه الأطر من جديد.
السيناريو الثالث: أن يتبلور رفض داخل لبنان للقرار الاتهامي المتّهم لحزب الله، في مقابل إصرار دولي على استثمار هذا القرار إلى أبعد حد. وهنا يمكن منع المفاعيل الداخلية من تفجير الأوضاع عبر التفاهمات الناجزة والواضحة من خلال رعاية السينَين. لكن في المقابل، على لبنان أن ينتظر قرار الحرب عليه في أيّ لحظة ممكنة، تحت مندرجات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في أسوأ الظروف، أو تحت طائلة نفاد فرص الحرب السياسية والدبلوماسية لتطويق خيار المقاومة، ولجوء القوى الكبرى بطريقة قهرية إلى الحل العسكري المدمر.
السيناريو الرابع والأخير: وهو السيناريو الأسوأ والأكثر كارثية، بأن تنعدم فرص التسوية على مستوى الأطراف الداخلية والدول الراعية لها لمواجهة القرار الاتهامي ضد حزب الله، وتتلاقى مع قرار دولي بتفجير الأوضاع في لبنان ومحاصرة المقاومة وسلاحها عبر الفصل السابع بعد إنفاذ القرار الاتهامي والسعي إلى استجلاب المطلوبين من حزب الله للمحكمة الدولية في ظل ممانعة أكيدة من جانب الحزب، وصولاً إلى تشريع كون المقاومة كياناً إرهابياً عبر الأمم المتحدة، وتشريع مواجهتها ومواجهة سلاحها تحت الفصل السابع. وهنا يمكن رصد احتمالين على المستوى الداخلي والخارجي لمفاعيل سيناريو كهذا:
الاحتمال الأول: أن تذهب قوى 14 آذار بخيار المواجهة مع حزب الله عبر القرار الاتهامي إلى حافة الهاوية، اختباراً لردّ فعله أولاً، وصولاً إلى جعله يكرّر أحداث 7 أيار عام 2008 على قاعدة عدم سكوت المحيط الإقليمي والدولي على هذه الممارسة من الحزب لاستجلاب إدانة صريحة له من هذا المحيط، تمهيداً لاتهامه في شرعيته وشرعية سلاحه، وانتهاءً بتبرير ما سيُتخذ في حقه من إجراءات دولية تحت طائلة القرار الاتهامي.

نفاد بنك الفرضيات الاتهامية سيُفضي حكماً إلى انتهاء مفاعيل المحكمة الدولية وإغلاق أبوابها
وهنا يمكن أن يمضي الحزب في خيار المواجهة لتثبيت وقائع على الأرض مرتبطة بالواقع الحكومي والسعي إلى تغييره لخلق ظروف مواجهة أفضل للهجمة الدولية المفترضة عليه وعلى سلاحه.
ويمكن أن يقرر مع المعارضة سحب وزرائهم من الحكومة، مضافاً إليهم وزراء اللقاء الديموقراطي، لتعطيل الحكومة وخلق صعوبات أمام تأليفها، في مقابل خلق مساحة من الحرية أمام المقاومة لمواجهة أيّ عدوان إسرائيلي أو دولي محتمل بعيداً عن الالتزامات والتوازنات الداخلية التي كانت مفروضة عليه.
وهنا يمكن معرفة حجم الضرر الذي سيلحق بإسرائيل من جراء هذه المواجهة المفتوحة، وغير الملتزمة بشروط ولا التزامات ولا تبعات، ليرتدّ السحر على الساحر، فالمقاومة أكدت ذات مرة أنها قادرة مع مواجهة الكيان الصهيوني والتحديات الداخلية معاً من دون تأثر في قدرات الردع ولا الجهوزية العسكرية، ولا تضرّر في إمكان تحقيق النصر الحاسم.
لكنها في المقابل، لن تكون بلا مضاعفات مزمنة تحتاج إلى علاج طويل الأمد على المستوى الداخلي، إن على مستوى علاقة المقاومة بالطوائف، أو علاقة المقاومة بالقوى السياسية المضادة لها وما تمثّله من عمق شعبي، أو على صورتها الناصعة التي تسعى هذه الحملة الدولية المسعورة إلى حشرها مجبرة في الزاوية لتدافع عن نفسها في ظل كباش وخناق سياسي داخلي وخارجي محموم وموتور.
الاحتمال الثاني: وهو أن يتحول المشهد اللبناني في ظل سعي القوى الدولية للوصاية العسكرية والقانونية عليه إلى صورة من صور المواجهة الموجودة في السودان مثلاً، أو في العراق أو أفغانستان. وهنا يمكن ملاحظة الفارق في القوة العسكرية بين المقاومة والقوى السياسية في لبنان، ما سيجعل المواجهة محصورة بين المقاومة والقوى الدولية تحديداً، في ظل الثبات التنظيمي والقدرات العسكرية المتنامية، وإمكان تغير المشهد الحكومي لمصلحة المقاومة. ويمكن قراءة انحسار هذه الموجة بعد فترة وجيزة عن لبنان، والحديث مجدداً عن تسويات في ظل موازين قوى مختلفة عن الموجودة حالياً.
أخيراً: إن المشهد في لبنان من الناحية الأمنية والسياسية حمّال أوجه في ظل القرار الاتهامي المشؤوم، والإرادات المتعارضة التي لا تزال تحت دائرة الرصد والمتابعة، إلا أن هناك عوامل تحصين داخل المشهد اللبناني، لا تتوافر في أية بيئة عربية موبوءة بداء الفتنة والانقسام والصراعات، وهذا مرتبط بإمكان وضع الحواجز والتحصينات من الآن، لا بعد حلول الكارثة.
* كاتب بحريني