حسان الزينفيما استُشهد الزميل عساف أبو رحّال بنيران الإسرائيليّين على الحدود الجنوبيّة، كان الداخل اللبناني مصدوماً بانكشاف أمر متّهم بالتعامل مع إسرائيل من الطاقم السياسي. هذه الصدفة أقلّ من قدر، لكنّها قاسية. هي نموذج للهوّة الشاسعة بين المواطن والطاقم السياسي، بين يوميّات المواطن ومشقّة عيشه ومغامرة حياته على حدود الدنيا، وبين أجندات الطاقم السياسي وارتباطاته الخارجيّة المتنوعة ومصالحه المتعدّدة. الأمر لم يعد كلاماً في الهواء ولا اتهاماً طائشاً مراهقاً ساذجاً ينزّه المواطن، أو الفقير، ويدين السياسي، أو الثري. وقبل أي نَفَسٍ أو استحضار للغة التي تهزأ من هذا «المنطق»، أسارع إلى القول إنه لا وهم بنقاء المواطن، أو الفقير، ولا ادّعاء بأنه الخير، فيما السياسي هو الشر. تلك أسطورة لا مكان لها. فكما السياسي كذلك المواطن، أو الفقير، تتسرب المصالح من تشققات عيشه وشخصيته وثقافته. هذا وذاك عرضة لكل شيء في بلد «المبادرة الخاصّة» و«كلٌّ يدبّر رأسه» سواء أكان سياسيّاً أم مواطناً عاديّاً.
عسّاف أبو رحّال نموذج، إذا صحّ القول ومن دون توسّل المديح، للمواطن العادي المصرّ على العيش حيث ولد، في أطراف الوطن النائية المتروكة والمنسيّة، ويكافح لتأمين مستلزمات السوية مع المواطنين الآخرين في البلد عموماً وفي مركزه خصوصاً. يعمل مقابل القليل الذي يُعطى لأبناء تلك المناطق، وفق تصنيف طبقي بات بديهة تحظى بغطاء أخلاقي وثقافي كفيل بتبديد أي إحساس بالذنب أو السلوك الطبقي.
وفوق هذا، يبذل عسّاف (وأمثاله) جهداً متواصلاً لاكتساب المهارات المهنية وتطويرها وتعلّم متطلّبات الوظيفة وتوفير آلاتها التكنولوجية. عساف أبو رحّال مثال للإنسان الذي خبر الدنيا ويعرفها، وفي الوقت نفسه يبحث عن حياته حيث الرضى بالموجود مع كفاح لمواكبة الكوكب البعيد عنه وإحضاره إلى عالمه الصغير. وهو نموذج لمواطن وجد نفسه منذ ولد، وكيفما وأينما عاش، يواجه الحياة وحده. وكيّف عيشه وصاغ مخطّطاته وفق ذلك. يُعطي هذا الكائن المسمّى دولة ولا يأخذ منه، ولا ينتظر منه شيئاً، ولا سيما عبر الفساد والآليات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة. وبالرغم من ذلك، لا تراه يكفر بحلم الدولة، بل يتعامل معه كابن ينتسب إلى الكليّة الحربيّة.
أين هو وأين الطاقم السياسي؟
وقد بقي يحلم برحلة مع الحبيبة، حين أدرك أن النزهات في الحقول باتت عملاً أو ركوباً للخطر. قرأ الجريدة معها، وأشار عليها بالاطلاع على إعلان لرحلات سياحية. كان هذا مشهداً مكرراً، لكنه بقي موعداً غرامياً، تجديداً لموعد مع رفيقة الدرب ولوعد بالراحة قديم ومُتعَبٍ.
هذه حال عساف وأمثاله، الحياة إعلان سياحي ولو لرحلة، وموعد هارب من عمر كامل، موعد مؤجل إلى ما بعد تعليم الأولاد وتزويجهم وبناء البيوت أو الغرف الإضافية الملحقة على حساب الحقل وفسحة اللعب. لكنّه لم يهرب، واصل الحياة عارياً عالياً على حدود الدنيا والأشياء والأحلام، حيث للصورة أبعادٌ، وللبعد أبعادٌ: الذهاب إلى الحقل والفلاحين والمعمرجيّة والرعاة عملٌ ورفقة وانتماء، الكتابة عن الشجرة ريٌّ وإحساس بالرزق والبيئة والأرض، البيت كوكب الألفة والسجالات والأعمال، والأيام، أو العمر كله، محاولة لتصحيح الخلل والبحث عن لحظة سكينة ولحاق بالزمن.
عساف أبو رحّال مثال لمواطن، أشبه بكلمة السر، وتأخرت في اكتشافه. حصل ذلك في يوم استشهاده. هو اسم للحياة والهدوء ولقيم ريفية مجبولة بالسعي ومحكومة بالنمو البطيء والمنسيّ مثل شجرة مهدّدة.
أين هو وأين الطاقم السياسي؟