تزامناً مع صدور هذا العدد من «مونودوز»، الذي يصدر لمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة، وبدء حملة الـ 16 يوماً الدوليّة، تُطلق جمعيّة «كفى»، اليوم، كتيباً بعنوان «تساؤلات زلفا حول قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري». وفيه، تتحدث «زلفا» (الصبيّة التي في الصورة)، عن ملخص اللقاءات مع النساء اللواتي تعرضن للعنف، في محاولة للإجابة على معظم الأسئلة المطروحة. زلفا «أونلاين»، ابتداءً من اليوم
لم تتعلم جدتي القراءة والكتابة، ولم تعرف الحياة إلا من خلال العمل والأولاد وزوج يأتي متأخراً عند المساء. أما النزهة، فكانت أسبوعية إلى القداس. كانت تدير المنزل وتهتم بشؤونه، وتمارس دور الرجل الغائب في كثير من الأحيان. ورغم محاولات كثيرة، لم ينه الأولاد تعليمهم، وراحت جدتي تتلقى الصفعات واحدة تلو الأخرى. جاءت الحرب وتهجّرت العائلة من بيروت. الابنتان لم تنهيا تعليمهما، وابن ترك المدرسة من دون رضاها وابن آخر خطفه الموت. امرأة مثيرة للجدال. هكذا كانت جدتي بالنسبة إلينا، قاسية على أبنائها ورقيقة جداً معنا نحن أحفادها. كانت كتاباً للحكايا: سليمان الحكيم. جعفر البرمكي. شخصيات من الانجيل. كانت تأتينا بحكم حياتية قرأناها لاحقاً في الكتب. لم نستمع إليها في كثير من الأحيان ولكنها لم تستسلم. علّمتنا الصلاة واكتشفنا لاحقاً أنها كانت تصلّي لبيلاطس البنطي، فضحكنا كثيراً. جدتي ورثت الصلاة عن كهنة ربّتهم هي. حفظت الصلوات كي تنقذ من أحبتهم، وتمسّكت بالله كي يجمعها بابنها في يوم الآخرة. هذه المرأة الجبارة كجبل فتتها موت ابنها الصغير، ابن من آلاف حصدتهم الحرب اللبنانية، كان ضحية آخر حرب عرفها لبنان. أذكر جيداً كيف أن جدتي كانت تخرج من منزلها في الليالي التي عقبت حادثة الموت هذه لتبحث عن ابنها، وأذكر أيضاً كيف طحنت فكّيها وهي تضربهما بيديها. لم تعد بحاجة إلى فم لا يمكن أن ينده صوت ابنها.
احتاجت جدتي الكثير لتستيقظ من هذيان الفقد. لم تظن يوماً أن الحياة ستكون بهذه الوحشيّة. حاربت سطحيّتها ورفضت أن تخضع لأمور وجدتها شكليّة. الجمال بالنسبة إليها كان داخلياً فقط، فيما الروح تعكس جمال المرأة، لكن الروح لم تستطع مقاومة عنف هذه الحياة التي أحدثت ثقوباً كثيرة لم ينفع رتقها. استسلمت جدتي للمرض، فراح يضرب أجزاء منها ويخرّبها، لكنها حافظت على قوتها وبقيت تحضّر لنا الطعام وتجمعنا في الأعياد وتردد عبارات ظلت في الذاكرة وتمطرنا بالدعوات. حافظت جدتي على قوتها حتى آخر حفيد، أطعمته وغنّت له «frère Jacques» على طريقتها الخاصة مكوّرة يديها المجعّدتين. حافظت جدتي على قوتها طويلاً، ومضت كطفل. هذه المرأة الشاهقة التي كنا نتمسك بطرف فستانها راحت تتقلص مع سنوات المرض والفقد حتى أصبحت بحجم قبلة. خسرت عينيها وشعرها وأسنانها وجسدها الممتلئ، ورسيت صغيرة في سرير المستشفى. كأنها عاشت الحياة بشكل معاكس وغادرتها مكوّمة على نفسها كجنين. امرأة صغيرة بحجم قبلة.