موسكو | مع دخول الأزمة السورية عامها الثالث، لا تزال التكهّنات حول حقيقة الوضع الراهن في البلاد مستمرة. هنا مَن يُكذّب الإعلام الغربي متّهماً إياه بتشويه الصور الحقيقية على برامج حواسيب لمصلحة جهة ما من الصراع، وهناك من يوجه أصابع الاتهام إلى الإعلام الذي يمرر كلمات وتصريحات النظام السوري وكل مناصر له من دون مسافة نقدية. لن يعرف أحد الحقيقة ما لم يتوجه إلى هذه الأرض التي تنزف منذ سنتين على المحافل الدولية والمنابر السياسية وصفحات الصحف وشاشات التلفزيونات.
هذا الصراع الدموي كان قاسياً على الصحافيين عموماً. ولعلّ الأرض السورية تحوّلت إلى أكثر الأماكن دموية في تاريخ الإعلام في القرن الحالي، بعد العراق طبعاً؛ إذ تشير مصادر إلى أنّ 36 صحافياً قتلوا خلال العام الماضي في سوريا، من بينهم 13 عاملاً في الإعلام الأجنبي. حتى إنّ منظمة «مراسلون بلا حدود» وصفت سوريا خلال عام 2012 بأنّها «مقبرة الإعلاميين». مع الحال هذه، كيف للعالم أن يعرف حقيقة ما يجري إذا أصبحت أرض المعركة حظراً على كل من يحمل قلماً أو كاميرا؟ تمكنت وكالة أنباء «نوفوستي» الروسية من إرسال عدستها قبل أشهر معدودة إلى سوريا. حمل هذه العدسة المراسل المصوّر أندري ستينين. لا ينكر أندري حالة الخوف التي انتابته قبل مغادرة أرض المطار إلى وجهة قد «تكون الأخيرة له». يقول ستينين لـ«الاخبار»: «قبل مغادرتي إلى سوريا، حاولت قدر المستطاع متابعة كافة الأخبار بمختلف توجهاتها المناصرة والمعارضة لنظام الأسد لأكوّن صورة واضحة بعض الشيء، غير أنّ الأمور اختلطت؛ لأنّ كل ما تابعته من إعلام يكشف عن حالة تناقض صارخة، دفعتني إلى الابتعاد عما يتناقله الآخرون والاتكال على الصور التي ستعكس ما رأيته».
مع وصوله إلى سوريا، تلمّس أندري ستينين مباشرة «حالة من اليأس» تخيّم على المدن التي زارها. يضيف: «ثقل كبير يخيّم على النفس وعلى القلب لمجرد المرور في شوارع المدن حتى لو كانت خالية من القتال». فسّر أندري هذه الحالة، موضحاً أنّ رقعة صغيرة من وسط مدينة دمشق تخلو من القتال، ويعمّها سكون تام، في وقت تسمع فيه الطلقات عن بعد لتترك المجال للمخيلة بتصوّر ما يجري. ويشدد على كلمة مخيلة؛ لأنّ «الجيش لم يسمح لأندري وفريقه بدخول الأماكن التي يرغبون في زيارتها بحجة الحفاظ على أمنهم وسلامتهم».
وبالتالي، بقي أندري بعيداً عن المعركة الحقيقية ليعيش الحالة العامة في المنطقة. نزل مع فريقه في فندق خُصّص للمراسلين والصحافيين في العاصمة، إلا أنّه أشار إلى أنّ الفندق كان خالياً من المراسلين الأجانب أو على الأقل هذا ما كان خلال مكوثه فيه. ويتابع: «خلال الفترة التي قضيتها في الفندق، لم ألتق بمراسلين أجانب، حتى إنّ عدد المراسلين عموماً كان قليلاً جداً». من هذه الرحلة المنظّمة، صور كثيرة علقت في ذاكرة أندري، وكان أكثرها تأثيراً بالنسبة إليه زحمة السير في مدن شبه خالية من السكان.
لكن مع مرور الوقت، بدت هذه الزحمة لأندري اعتيادية ومنطقية إلى حد ما، فمن الطبيعي أن تتراكم السيارات في مدن الأشباح إذا كانت تقف في كل متر واحد أمام الحاجز لتخضع لتفتيش دقيق. يصمت أندري قليلاً قبل أن يعرض صوراً في رأسه ويقول: «ماذا يمكنني أن أقول لكم؟ مهما وصفت الوضع وما رأيته بنفسي، تبقى كلمة واحدة معبرة عن واقع ما يجري: الحرب هي الحرب».