مَن يستخدم هذه التطبيقات في لبنان، يعرف أنّه لطالما ظهرت عليها حسابات لمستوطنين إسرائيليّين، لكن نادراً، وكان يمكن إخفاؤها بمجرّد تغيير الإعدادات التي تحدّد المسافة حيث يتواجد أصحاب الحسابات المراد ظهورها. لكن في المدة الأخيرة، بدأت هذه الحسابات تظهر بشكل كثيف يفوق في بعض الأحيان عدد الحسابات اللبنانية بأضعاف، بغضّ النظر عن الإعدادات، حتّى ولو كان المستخدم اللبناني في منطقة بعيدة جدّاً عن الحدود مع فلسطين المحتلّة. وزاد التململ بين المستخدمين من الشباب بسبب هذا التغيّر الذي يمنعهم من التواصل مع لبنانيّين أو حتّى أجانب ساكنين في لبنان، لمصلحة ظهور إسرائيليّين تخدم نسبة معتبرة منهم في صفوف قوات الاحتلال، نظراً إلى قوانين التجنيد الإجباري لدى الكيان.
هنا نصل إلى النقطة الأهمّ، وهي المخاوف بشأن التطبيع والتواصل مع العدوّ. فمفهوم هذه التطبيقات يتمحور حول السرّية واحترام الخصوصية، ولذلك لا يمكن مراقبتها مثلما تراقَب منصّات التواصل الأخرى. فلا يمكن معرفة مَن «التقى» (هو التعبير الذي يدلّ على إضافة حسابَين بعضهما الآخر، ما يسمح لهما بالتواصل) بمَن، وأحياناً لا يمكن للمستخدم اللبناني معرفة ما إذا كان الحساب الذي أمامه تابعاً لأحد المستوطنين، إذ إنّ الاسم أو الصوَر أو المعلومات لا تساعد دائماً على التفرقة، ما يعرّضه إلى التكلّم مع شخص إسرائيلي والإفصاح عن معلومات شخصية من دون علمه بهوية الجانب الآخر، وهو أمر لا شكّ في أنّه يحصل. فوق ذلك، من المستحيل تتبّع المراسلات على هذه التطبيقات، إذ إنّها محاطة بالسرّية أيضاً بدءاً بالإشعارات التي تخفي مضمون نصّ الرسالة وتتطلّب الدخول إلى التطبيق لقراءتها، وصولاً إلى اختفائها بشكل تامّ بمجرّد قيام أحد الطرفَين بـ«عدم الالتقاء» (unmatch)، أي إزالة الشخص الآخر من حسابه. هكذا يمكن مثلاً الإفصاح عن معلومات شخصية أو حتّى متعلّقة بالأمن القومي، من دون حسيب ولا رقيب. الأسوأ هو فرضية أن يستخدم العدوّ هذه التطبيقات لتجنيد العملاء، وهو أمر وارد دائماً على منصّات التواصل العادية، فكيف على تطبيقات التعارف؟!
قال فريق «بامبل» بأنّ «التشويش خارج عن سيطرتنا، لكنّنا نعمل جاهدين للتخفيف من تأثيره على المستخدمين»
تواصلنا مع فريق تطبيق «بامبل» للاستيضاح حول ما يحصل وأسبابه، فأتى الردّ بأنّ القائمين على التطبيق تقصّوا الموضوع بعد سؤالنا، وتبيّن لهم أنّ «المشكلة متعلّقة بالتشويش المتقطّع لـ«نظام تحديد المواقع العالمي» (GPS) في المنطقة، ما يمكن أن يؤدّي إلى عدم توافر بيانات تحديد الموقع أو عدم دقّتها خلال فترات التشويش». علماً أنّ التشويش هذا تقوم به بشكل خاصّ قوات الاحتلال مباشرةً أو عبر الطلب من شركات عالمية تقدّم الخدمة كما خدمة «النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية» (GNSS)، في سبيل عدوانها على غزّة والجنوب اللبناني. وأضاف فريق «بامبل» أنّ «التشويش بحدّ ذاته خارج عن سيطرتنا، لكنّنا نعمل جاهدين للتخفيف من تأثيره على المستخدمين». أمر يمكن الشكّ به، إذ إنّ موقع المستخدم يمكن تحديده عبر تقنيّات أخرى كثيرة، ولا سيّما عبر «عنوان بروتوكول الإنترنت» (IP address)، وهو رمز يحدّد موقع الجهاز الموصول إلى الإنترنت، ويمكن لتطبيقات التعارف الاعتماد عليه. فوق ذلك، فإنّ تطبيقات التعارف تسأل المستخدم عن مكان وجوده عند إقامة حسابه قبل الولوج إليها، فما الهدف من ذلك إذاً؟ ولو أحسنّا النيّة، فإنّ ما يمكن استشفافه من ردّ «بامبل» حول أنّها لم تكن تعلم بالموضوع قبل إثارتنا له، يُبعد فرضية «العمل الجاهد»، إلا إذا بدأ العمل للتوّ، وهو ما نأمل أن يكون عليه الأمر.
المخاوف حول التطبيع والتخابر مع العدوّ وتعريض الأمن القومي للخطر، حملناها إلى مصادر مختلفة في عدد من الأجهزة الأمنية ذات الصلة بقضايا مماثلة، لكنّ أيّاً منها لم يعطنا جواباً، ما يرجّح فرضية أنّها لا تعلم بالموضوع من الأساس. لذا، وفي حال صحّت هذه الفرضية، نأمل أن تكون إثارة الموضوع هنا فرصة لتحرّك هذه الأجهزة، ولا سيّما مع اشتداد الحرب الاستخبارية في الجنوب، ما استدعى السيّد حسن نصرالله أخيراً لوصف الهاتف الخلوي بأنّه «عميل قاتل». أمّا إذا كان الموضوع سخيفاً إلى هذه الدرجة بالنسبة إلى السلطة وأجهزتها، فما المعنى عندها من أيّ موقف يعادي الكيان الصهيوني، فيما نقدّم له الخدمات المجّانية، مع احتمال مرتفع بأنّ أحد وجوهها هو تطبيقات التعارف؟