ذكرت الأنباء أنّ مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان «الحشاشين» قيد الإنجاز وربما سيعرض في شهر رمضان المقبل. والمسلسل من إخراج بيتر ميمي، وقصة وسيناريو عبد الرحيم كمال، وبطولة عدد من النجوم المصريين من بينهم كريم عبدالعزيز. هذه وقفة استباقية في هيئة لمحة تأريخية مكثفة عند موضوع هذا المسلسل، ألا وهو الحركة الإسماعيلية النزارية التي دأب خصومها وأعداؤها على تسميتها «حركة الحشاشين».«الحشاشون» اسم تشنيعي أطلقه خصوم الفرقة الإسماعيلية النزارية وأعداؤها عليها وعلى مقاتليها وجمهورها كما قلنا. والإسماعيلية النزارية فرقة مسلّحة ومعارضة للحكومات في العالم الإسلامي وللغزاة الفرنجة (الصليبيين) معاً. نشأت في غضون القرن الحادي عشر الميلادي، ولم تتحول إلى طائفة دينية لاحقاً، إذ قُضيَ عليها وتمت تصفيتها بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي وتدمير بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعدما صمدت الفرقة النزارية في القتال طويلاً أمام جميع خصومها من الإمارات والدول السنية العباسية والأموية، والشيعية (الفاطمية/ في مصر)، وحتى الإمارات الإفرنجية (الصليبية) الأربع؛ «كونتية الرُّها» (1098-1150)، و«إمارة أنطاكية» (1098-1287)، و«كونتية طرابلس» (1102-1289)، و«مملكة بيت المقدس» (1099–1291)، التي كانت قائمة في بلاد الشام. فهل سيتحول هذا المسلسل ـــ كما تحولت مسلسلات تأريخية تجارية عديدة ــ إلى «مجزرة فنية» للحقائق التأريخية ووقائع الماضي التي طالما كتبها المنتصرون والمشتغلون في خدمة المنتصرين، أم أن نوعية الكاتب المرموق، عبد الرحيم كمال، الذي تصدى لكتابة القصة والسيناريو وصفاته الإيجابية العديدة، ستنحو بالمسلسل منحىً موضوعياً آخر؟

«الحشاشين» الذي سيعرض في رمضان المقبل، يؤدي بطولته عدد من النجوم المصريين من بينهم كريم عبدالعزيز

سأكون صريحاً مع القارئ فأقول؛ بصراحة، لا أدري إلى أي درجة سيظل مؤلف المسلسل عبد الرحيم كمال وفيّاً للوقائع التاريخية، وهو كاتب متميز بين زملائه كتّاب السيناريو المصريين والعرب عموماً، وقد كتب عدداً من الأعمال التلفزيونية النوعية والجيدة كـ «الخواجة عبد القادر» و«ونوس» و«شيخ العرب همام» و«دهشة» المستوحى من مسرحية «الملك لير» لشكسبير. وقد تولى بطولة هذه المسلسلات كلها الممثل القدير يحيى الفخراني. أقول؛ لا أدري إلى أي درجة سيظل المؤلف وفياً للحيثيات والوقائع التأريخية الحقيقية، وينظر إليها بعينين نقديتين ومحايدتين مضمونياً ليكون هدفه الأول مقاربة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولن تدفعه مغريات الشاشة ومتطلبات الرقابة الحكومية في الدول العربية المشترية للمسلسل إلى الإخلال بتلك الحيثيات والوقائع والميل إلى النوادر والطرائف الملفقة من قبل خصوم هذه الفرقة ضدها!
ولهذا، سننتظر إذن حتى يعرض المسلسل ونرى، على الرغم من أنّ اختيار اسم «الحشاشين» للمسلسل وفي حالة النصب والجرّ وليس بالرفع «الحشاشون»، وهو الصحيح، لا يبشّر بالخير! ومع ذلك، سأقدم للقارئ هذه البسطة أو اللمحة التاريخية حول هذه الفرقة من باب العلم بها، قبل مشاهدة هذا المسلسل وقد تكون لنا وقفة أخرى بعد عرض المسلسل إذا كان ذلك ضرورياً:
انشقت الفرقة النزارية عن الفاطميين ودولتهم في مصر. وجاء اسمها نسبة إلى زعيمها وإمامها نزار المصطفي لدين الله أحد أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/ 1094م). والأمر الذي يجهله عامة الناس في عصرنا، وحتى ممن يسمون أنفسهم مثقفين، هو أنّ الإسماعيليين النزاريين لم يكونوا يسمون أنفسهم باسم «الحشاشين»، بل إنّ هذه التسمية أشاعها ضدهم خصومهم «الفاطميون المستعلية» وأعداؤهم من المذاهب والدويلات والفرق الأخرى. أما هم، فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم «الدعاة الجدد» أو أصحاب «الدعوة الجديدة».
ولدت هذه الفرقة بعد الانشقاق الذي حدث داخل الحركة الفاطمية الإسماعيلية وشقَّها إلى شقين أو فريقين: الأول «المستعلية» نسبة إلى المستعلي بالله، والثاني «النزارية» نسبة إلى نزار وهما ابنا الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. رأى المستعلية أن الإمامة لا يستحقها إلا المستعلي بن المستنصر، أما الفريق الثاني فقد رأى أن نزار، الابن الأكبر، هو الأحق بالإمامة السياسية والعَقَدية، وهو الأجدر بخلافة أبيه لأنه الأكبر سناً. وقد انحاز الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي، عن سابق قصد، إلى المستعلي لضعفه ليسهل عليه استغلاله والتلاعب به، فقبض على نزار وقتله؛ فاضطر الهادي بن نزار إلى الهرب. فرّ إلى بلاد العجم (إيران)، والتحق بالخلايا والمجموعات الإسماعيلية لهذه الدعوة هناك. وكان على رأس هذه المجموعات آنذاك داعٍ داهية وشجاع هو الحسن بن الصباح الذي سيغدو زعيم الفرقة الإسماعيلية النزارية ومركزها «قلعة ألموت» في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/ 1090م.
كان ظهور النزارية عاملاً مهماً من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين. خاضت الفرقة صراعات دموية مع الطوائف والإمارات الأخرى كالزنكيين والأيوبيين والخوارزميين.
بحثياً، يُعتقد أنَّ أول وثيقة ورد فيها استعمال اسم الحشاشين كوصف تشنيعي لهم، كان في رسالة كتبها الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله سنة 517هـ/1123م وأرسلها إلى الإسماعيليين في بلاد الشام بعنوان «رسالة الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية: ويتلوها إيقاع صواعق الإرغام في إدحاض حجج أولئك اللئام». كان الهدف من هذه الرسالة التبرؤ من النزاريين ونقض مزاعم إمامهم وأخيه نزار المصطفي لدين الله بالإمامة والتأكيد على شرعية الخط الفاطمي الرسمي الذي يمثله هو. وقد استُخدم فيها مصطلح «الحشيشية» وهي، كما أرجّح، ليست فصحى بل من عامية مصر والشام وكانت تعني «الحشاشين» ربما بقصد استصغارهم والإساءة إليهم ونفي انتسابهم إلى الإسماعيلية. ومن الجدير بالذكر أن الفاطميين أنفسهم كانوا ضحية لهذا الفعل التشنيعي ونفي النَّسَب الفاطمي من قبل خصومهم المذهبيين والفُرقيين الذين أطلقوا عليهم اسم «العُبيديين»، نسبة إلى شخص قالوا إنه يهودي واسمه عبد الله بن ميمون القدّاح (طبيب العيون)، ونفوا أن تكون لهم أي صلة بفاطمة الزهراء كريمة النبي محمد بن عبد الله؛ فيما أكد مؤرخون آخرون من الشيعة وبعض المحايدين صحة نسبهم الفاطمي.
وقد نسبوا إلى مؤسس هذه السُلالة الإمام عُبيد الله المهدي بالله قوله «إنَّ الفاطميين يرجعون بنسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وعليه فهُم عَلَويّون، ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء». وبحسب أبحاث المؤرِّخ الروسي فلاديمير ألكسيفيتش إيفانوف في تُراث الإسماعيليَّة والفاطميين، فإنَّ اسم الفاطميين هو الذي أُطلق على الإسماعيليَّة في بداية الأمر. ويبدو أن خصومهم وأعداءهم أطلقوا عليهم اسماً آخر للتشنيع عليهم حين اشتدّ ساعد حركتهم وأسّسوا لهم دولة في بلاد أفريقية التي كانت تعني «تونس» حصراً.
ويذكُرُ المؤرخ المعروف محمد بن جرير الطبريُّ ــ وهو من السُّنة ــــ أنَّ «بدو بني الأصبغ في بادية الشَّام، اتخذوا هذا الاسم «الفاطميين» تحت زعامة القُرمطي الإسماعيلي يحيى بن زكرويه». وما أشاع الغموض في موضوع أسماء أئمة الإسماعيليين الفاطميين ودولهم عموماً، أنهم كانوا يخشون التصريح بالأسماء الحقيقية لأئمتهم مخافة أن تبطش السلطات العباسية بهم وتقتلهم.
تمت تصفية الحركة بعد الاجتياح المغولي وتدمير بغداد عاصمة الخلافة العباسية


وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مفردة «الحشيشية» مرّتين في رسالته سالفة الذكر من دون تقديم سبب واضح لهذا الاستخدام من قبله. وأعتقد أنه جاء تكراراً لاسم أطلقه عليهم العامة ممن شهدوا عملياتهم الفدائية الجريئة إلى درجة مذهلة حتى شكَّ الناس في أنهم لا يخافون الموت لأنهم يتناولون عقار الحشيشة. فقد كانوا يقدمون على الموت الأكيد إقدام المستميت. وهذه طريقة يلجأ إليها العامة لتفسير ما يعتبرونه من خوارق المألوف، من قبل أن يقترب المقاتل النزاري المتنكر من ملك أو أمير حتى «المسافة صفر»، وهو بين خواصه وحرسه المدربين ويعاجله بطعنه قاتلة من خنجره من دون أن يتمكن أحد من منعه أو تفاديه.
ثم شاع استعمال الاسم من قبل الكتاب الغربيّين المرافقين للغزاة الفرنجة الذين يسمون أنفسهم «الصليبيين»، وهم الذين أشاعوا هذا الاسم عليهم في الغرب. وكان النزاريون إذا فشلوا في الهرب بعد تنفيذ عملياتهم الفدائية، يُقتلون من قبل أعدائهم قتلاً شنيعاً ولكنهم لم يتوقفوا عن قتالهم وكفاحهم حتى الاجتياح المغولي. وقد اغتال النزاريون عدداً كبيراً من الزعماء وقادة الجيوش من العباسيين والسلاجقة والصليبيين ومنهم الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفتين العباسيين المسترشد والراشد وملك بيت المقدس الإفرنجي كونراد. ورغم أنّ قائمة أعدائهم طويلة تشمل جميع معاصريهم ولكنهم لم يسلموا من الاتهام بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك!

اختيار اسم «الحشاشين» للمسلسل لا يبشّر بالخير!


وقد قضى المغول بقيادة هولاكو على هذه الفرقة في بلاد فارس سنة 1256م. قام هذا القائد المغولي بمهاجمة الحشاشين واستطاع ــ بعد معارك ضارية ودموية خاضها النزاريون المستميتون ـــ أن يستولي على عاصمتهم في «قلعة ألموت» وعلى أكثر من 100 قلعة أخرى من قلاعهم وأحرق القلاع والمكاتب الإسماعيلية قبل أن يتجه - هولاكو - إلى مهاجمة العباسيين وعاصمتهم بغداد وتدميرها. أما في الشام، فسرعان ما تهاوت الفرقة النزارية على يد الظاهر بيبرس سنة 1273م. وبهذا كفّت عن الوجود التأريخي وتحولت إلى أرشيف التراث الضخم للحركات المعارضة المسلحة في القرون الأخيرة من العصر الإسلامي، قبل أن تبدأ شعوب أوروبا بالخروج من القارة العجوز وتجتاح العالم كلّه بأساطيلها وأسلحتها الحديثة.
هؤلاء هم الإسماعيليون النزاريون الذين يسميهم خصومهم وأعداؤهم «الحشاشين» أو «الحشيشية»، فهل سيكون المسلسل الذي سيتصدى لقصتهم منصفاً وموضوعياً ومحايداً في مقاربة الحقيقة؟

* كاتب عراقي