لقد حوّل الكيان العبري «الحرب الذي يشنها على قطاع غزة، إلى أكبر مقتلة للصحافيين في التاريخ الحديث». هكذا صرّح «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» بُعيد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لقد دفعت الصحافة الفلسطينية ثمناً باهظاً في مقابل نقل صورة المحرقة والمجازر التي يرتكبها العدو الإسرائيلي. إذ استُشهد أكثر من 110 صحافيين ومراسلين وناشطين على صفحات السوشال ميديا، ولا تزال عملية استهدافهم متواصلة حتى كتابة هذه السطور. شهد الصحافيون على أبشع المجازر التي ارتُكبت بحقهم وسط صمت الدول والجمعيات العالمية المعنية بحقوق الصحافة. في بداية العدوان، ودّع مدير مكتب «الجزيرة» في غزة وائل الدحدوح، عائلته التي استُشهدت في القصف (الأخبار 27/10/2023). لاحقاً تعرّض المراسل الذي يحظى بشعبية واسعة في العالم العربي، لمحاولة استهداف إسرائيلية (الأخبار 28/12/2023)، فأُصيب في يده بينما استُشهد زميله المصور سامر أبو دقة (1978-2023). كذلك، استشهدت مجموعة من المراسلين من مختلف القنوات العربية والفلسطينية، بينما لا يزال حتى اليوم مصير بعضهم مجهولاً كما هي حال مراسل ومدير مكتب صحيفة «العربي الجديد» في غزة ضياء الكحلوت (الأخبار 8/12/2023).في المقابل، كان 2023 عام انبطاح الإعلام العربي والخليجي أمام إسرائيل. ظهر ذلك أثناء تغطيته للعدوان، إذ تماهت القنوات الخليجية مع السردية الإسرائيلية، وراحت تحمّل المقاومين الفلسطينيين مسؤولية العدوان الذي راح ضحيته آلاف الشهداء من المدنيين. تماهت السياسة التحريرية لـ «العربية» مع سياسة العدو، وكانت بمثابة الصوت العربي الناطق باسمه (الأخبار 1/11/2023). راحت القناة السعودية تعرض فيديوهات وتحليلات تهاجم المقاومين في غزة، وتحديداً «حماس» وسخّرت كل جهودها لتشويه عملية السابع من تشرين الأول، وتحميل المقاومين مسؤولية المجازر، ودعم العدو في قصفه الأنفاق. وكان لافتاً أن الإعلام السعودي غاب كلياً عن العدوان، إذ انشغل بالمهرجانات الفنية التي أقامتها الرياض أبرزها «موسم الرياض» (الأخبار 30/10/2023) . على الضفة الأخرى، لم يحمل العام الماضي أي تغييرات بالنسبة إلى سياسة «الجزيرة». واصلت المحطة القطرية سياسة ازدواجية المعايير في تغطيتها للعدوان على غزة. صحيح أنّها استعادت بريقها وجزءاً من مشاهديها الذين فقدتهم إبان «الربيع العربي»، ولكنها ظلّت ضمن السياسة التحريرية التي تخدم الأجندة القطرية الرسمية. وبرزت ازدواجية المعايير في المواظبة على استضافة محللين وسياسيين إسرائيليين، في وقت يتعرّض فيه مراسلوها في غزة لإبادة وترهيب إسرائيليَّين بحق الإعلاميين بهدف ثنيهم عن تغطية المجازر. من جانبه، سار الإعلام الإماراتي على خطى نظيره السعودي في مقاربته للحدث الفلسطيني والتخفّي وراء «الحيادية» الكاذبة، وتابعت الشاشات الإماراتية عرض برامجها بشكل طبيعي غير آبهة بالجرائم.
على الضفة نفسها، سقط الإعلام الأجنبي الناطق باللغة العربية أمام امتحان المهنية وحرية الرأي والتعبير في غزة. لقد خدمت هذه القنوات السردية الصهيونية، وبرّرت المجازر المرتكبة، بل مهّدت لها أحياناً على رأسها «بي. بي. سي عربي». الهيئة البريطانية التي صرعتنا بشعارات المهنية وحرية الرأي والتعبير، جمّدت عمل عدد من موظفيها بسبب آرائهم الداعمة لفلسطين على حساباتهم، فيما تفننت في نشر تقارير مزيفة حول وجود أنفاق تحت المنشآت المدنية في غزة، ما مهّد لمجازر مريعة ارتكبها العدو بحق الأبرياء في «مستشفى المعمداني»، إلى جانب وصفها المتظاهرين في لندن بأنّهم مناصرون لـ «حماس» وغيرها من حملات التضليل والأكاذيب التي تخدم حرب الإبادة الإسرائيلية. وكانت الشبكة قد أقدمت في بداية العدوان على غزة، على وقف عمل الصحافيتين اللبنانيتين سناء الخوري وندى عبدالصمد، والمصريين سلمى خطاب، وسالي نبيل، وآية حسام، ومحمود شليب بسبب مواقفهم المؤيدة لفلسطين (الأخبار 17/10/2023). جاء قرار الإدارة بعدما نشر موقع «تلغراف» تقريراً تجسسياً على صفحات الصحافيين الشخصية، مستنداً إلى معلومات أرسلها موقع «كاميرا» الذي تديره مجموعة صحافيين إسرائيليين ومطبّعين عرب.
بعد قرار تجميد عمل الصحافيين، شهدت الشبكة البريطانية مجموعة استقالات في صفوف موظفيها من بينهم اللبناني إبراهيم شمص الذي كتب على فايسبوك «تقدّمت بالاستقالة من «bbc عربي»، احتجاجاً على تغطية الحرب». وبعد شهر تقريباً على قرار الشبكة البريطانية الناطقة بالعربية، تراجعت عن تجميد عمل الموظفين وقررت إعادتهم إلى مكاتبهم. لكن برز الخلاف بين القائمين على الشبكة والمراسلة ندى عبدالصمد التي قررت رفع دعوى قضائية ضد إدارة الشبكة بسبب طريقة تعاملها مع قضيتهم.
إلى جانب تغطية الإعلام العربي المتأسرل، تابعت القنوات الخليجية حروبها المبطّنة التي بدأتها قبل ثلاثة أعوام. فقد كان العام الماضي استكمالاً لعملية إعادة التموضع بين «الإخوة الأعداء» واستمرار التنافس الذي انعكس على الخريطة الإعلامية. في هذا السياق، شهد العام الماضي تكملة الخطة السعودية لانتقال وسائل الإعلام التابعة لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام» من الإمارات إلى الرياض. حزمت غالبية موظفي «العربية - الحدث» أحزمتها إلى العاصمة السعودية، حيث بدأت القناة تنقل أكثرية برامجها مباشرة على الهواء (الأخبار 24/11/2023). تأتي هذه الخطوة لتكمل خطة ولي العهد محمد بن سلمان في تعزيز الرياض على الساحة الإعلامية والاقتصادية والسياحية العالمية وتلميع صورته. كذلك الحال بالنسبة إلى شبكة mbc التي بدأت عملية تحضيرها للانتقال إلى الرياض، وترك مدينة الإعلام في دبي، على أن تستكمل الخطة النهائية لانتقال الموظفين بين نهاية العام الحالي وبداية العام المقبل.
غزّة أسقطت ورقة التوت عن الإعلام الغربي الناطق بالعربية وعلى رأسه BBC


على الضفة نفسها، أحكمَ رئيس «هيئة الترفيه في المملكة» تركي آل الشيخ قبضته على القرارات المصيرية التي تتعلق بالقنوات السعودية، وتحديداً شبكة mbc وتعامله مع الإعلاميين بفوقية وقمع. فقد تعرّض الإعلامي المصري عمرو أديب لحملة انتقادات واسعة بعدما انتشر فيديو له حيث يتوجّه له «بو ناصر» قائلاً «أنت صناعة سعودية»، فما كان من المقدم إلا أن هزّ رأسه معلناً عن سعادته باللقب. لم تنته فصول أديب عند هذا الحد، بل أعلن عن حصوله على الجنسية السعودية، وسخّر برنامجه «الحكاية» على «mbc مصر» للانبطاح أمام السعوديين ومهاجمة المقاومة في فلسطين ولبنان. واصلت السعودية كم أفواه الصحافيين، فقد تعرض الصحافي داود الشريان لحملة أثناء الحرب على غزة، بعدما غرد قائلاً بأنّ «قناة «العربية» أصغر من التعبير عن السعودية، ولا تعرف حجم الرياض، ومكانتها العربية والإسلامية ودورها المحوري في إدارة أزمات المنطقة». تغريدة كانت كفيلة بتراجع الصحافي السعودي عن موقفه، معلناً اعتذاره عن كلامه. من جانبهم، حاول الإماراتيون ملء الفراغ الذي سيتركه انتقال «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام»، فأطلقوا العديد من المواقع والمنصات التي تواكب التطور الحاصل في عالم التكنولوجيا والسوشال ميديا. وبعد تحضير لسنوات، انطلقت قناة «المشهد» (دبي) التي يديرها طوني خليفة، لكنّها لم تحقق حتى اليوم أيّ مكانة لها بين المحطات المنافسة، لكنّ الإماراتيين يصرون على تعزيزها أكثر في ظل المنافسة السعودية الإعلامية.
أما بالنسبة إلى ملف شبكة «دويتشه فيله» الألمانية (DW) الناطقة بالعربية، فقد عادت للتعاون مع قناة «الجديد» اللبنانية في مشاريع عدة صوِّرت في بيروت الصيف الماضي. وكانت الشبكة المتأسرلة قد صرفت عدداً من موظفيها العرب واللبنانيين قبل أكثر من عامين بدعوى «معاداة السامية» (الأخبار 6/1/2021). وراح الجميع يتساءل عما إذا كانت «الجديد» قد وقّعت على شروط تعاونها مع القناة الألمانية التي باتت تفرض على كل موظّف وجهة متعاونة معها «الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود».