بدا المشهد سوريالياً. محطات التلفزة الفضائية ــــ لا اللبنانية ــــ تنقل ما يحدث لحظةً بلحظة في غزّة وغلافها: شبانٌ غاضبون يحملون بنادقهم ويحرّرون «مغتصبات» (التسمية الأدق للمستوطنة الصهيونية) ما يسمى بمنطقة «غلاف غزّة» وفق التعبير الجيوسياسي. إنها إذاً مرحلة جديدة من التغطية الإعلامية في القضية الفلسطينية. في عام 2014، دخلت القضية الفلسطينية عالم السوشال ميديا، يومها كُسر الاحتكار الكبير لقنوات التلفزة الكلاسيكية صاحب الرأي الواحد، والتوجه الواحد أمام الصورة الحقيقية والمباشرة التي يصوّرها «متابعٌ/مراقب» للحدث يسجله بشكلٍ مباشر عبر آلةٍ بسيطة (هاتف خليوي أو ما شابه) ويبثه بالمباشرة نفسها من دون أي تعديل –إلا في ما ندر- ليتلقّفه ملايين المتابعين حول العالم. يومها كُسرت دائرة «المعتاد» في نقل الخبر الفلسطيني، وأصبح أصحاب الخبر هم صنّاعه، وانتشر الخبر الفلسطيني كما هو من دون «مواربات»؛ وإن ظلت قنوات التلفزة الكلاسيكية تمتلك ميزة «التحليل» و«التعليق» وحتى «التدليس».
استعاد بعضهم الشهيد ناجي العلي ورسمته وعبارته قبل أكثر من 30 عاماً: «في جنوب فلسطين، وباسم الأقصى... سيهبط الفدائيون من السماء»

«صليات» الفيديو و«رشقات» الصور
منذ الصباح الباكر أول من أمس السبت، بدأت بشائر المشاهد لما يحدث: شارعٌ أنيقٌ ونظيفٌ بشدة، يبدو من خارج «فلسطين». إنها إذاً مستوطنة صهيونية، كما يشير الفيديو المصوّر بواسطة هاتف خليوي. شبان ملثّمون بالحطّة الفلسطينية، يحملون بنادقهم الآلية بكثيرٍ من الفخر، ويدورون في هذه الشوارع. «إنه أمرٌ لا يُصدق»، يعلق أحد المتابعين على منصة «أكس». فعلياً إنه أمرٌ لا يصدق، هذه المستوطنة «سديروت» هي الأقرب إلى غزة، وقلب ما يسمّى بالعمل الصهيوني العسكري الممنهج تجاه غزّة. سرعان ما بدأت الصور والفيديوات تنتشر بشكلٍ ممنهج أقرب إلى «الرشقات» أو «الصليات» الصاروخية. كانت صوراً لا تصدق فعلياً: إنهم مقاومون فلسطينيون لا يقتحمون المواقع الصهيونية فحسب، بل يعتقلون جنوداً صهاينة يبدو عليهم الرعب الشديد، من هول المفاجأة والصدمة. كان معظم الجنود الصهاينة بثيابهم الداخلية، كما لو أن وقع المفاجأة عليهم كان شبيهاً بوقع المفاجأة على المتابع على السوشيال ميديا. كيف لهذا أن يحدث بهذه الطريقة؟ بدا أنّ «الجيش الذي لا يقهر» بحسب التوصيف الدائم لوسائل الإعلام الكلاسيكية «أوهن من بيت العنكبوت» كما يقول السيد حسن نصر الله. الجملة سرعان ما اقتبسها كثيرون في التعليقات على الصور والفيديوات لمجندي جيش الاحتلال العدو وهم في إطار الأسر.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بدا الإعلام العسكري التابع للمقاومة الفلسطينية ذكياً بما يكفي كي ينتشر أفقياً وعمودياً على وسائل التواصل الاجتماعي، فذهب إلى التيك توك وبدأ بنشر فيديواته بذكاء واحترافية. شاهدنا مجموعات «الصقر» تقتحم مواقع صهيونية في تدريباتٍ لإظهار أن ما حدث على الأرض والواقع اليوم هو أمرٌ غير عفوي. إنه عملٌ دؤوبٌ ومستمر. سرعان ما تضاعف الأمر وحتى قبل استيقاظ معظم الناس. في الساعة الثامنة كان الموعد مع خطابٍ صوتيٍ لمحمد الضيف، «أبو خالد»، قائد الجناح العسكري لكتائب الشهيد عزالدين القسام، أحد أهم قادة المقاومة الفلسطينية حالياً. لطالما كانت خطابات الضيف تحمل معنى رمزياً، إذ قلّما يتحدّث وهو لا يفعل ذلك إلا ليقول شيئاً خطيراً. أن يخطب في الساعة الثامنة، يعني أنّ ما حدث عظيمٌ للغاية. كل هذا كان يحدث بسرعةٍ بالغة عبر السوشال ميديا التي تحولت في لحظةٍ تاريخية إلى متحدث باسم المقاومة في غفلةٍ عن مُلّاكها الغربيّين.
تحوّلت السوشال ميديا إلى متحدث إعلامي باسم المقاومة في غفلةٍ عن مُلاكها الغربيّين


لاحقاً، بدأت صورٌ متوازية بالعمل معاً: صور الناس وردات أفعالهم، الصور والفيديوات المرسلة من الإعلام الحربي، ردة فعل الصهاينة، والأهم من ذلك صور الأسرى من ضباط جيش الاحتلال، وجنوده، ومستوطنيه. عاد المشهد السوريالي للظهور من جديد بقوة أكبر: شبانٌ فلسطينيون يركبون دبابة ميركافا صهيونية، مذكّرين بما حدث في عام 1982 حين أسر مقاومون لبنانيون وفلسطينيون دباباتٍ مماثلة على إثر مواجهات بطولية في خلدة. لم تتوقف التشبيهات عبر السوشيال ميديا هنا: انتشرت صورة من «عبور خط بارليف» ممهرة بتاريخها 6-10-1973 وصورةٍ لجنودٍ صهاينة أسرى بمهر تاريخ 7-10-2023، في إشارةٍ إلى أنّ النصر واحد. في إطارٍ موازٍ، بدأت صور الناس المحتفلين بالانتشار بشكلٍ أقوى وأسرع. اللافت أنه لم يكن بإمكان «لوغاريتمات» السوشيال ميديا محاصرة الأمر، ملاحقته والقضاء عليه، بسبب تدفقه الشديد والسريع ربما. انتشرت صور المواطنين الغزّيين المحتفلين بالأسرى الصهاينة: يكبّرون، يصرخون، يرفعون رايات النصر، ويركبون الدبابات المحترقة والمصادرة. إنه فرحٌ بالنصر، هنا أيضاً عادت الذاكرة بإحدى صفحات السوشيال ميديا لتقارن مع انتصار عام 2000 في لبنان، وتعتبر ما يحدث «بدايةً مباركة» و«فاتحة نصر».

الهاشتاغات كانت كثيرةً هنا، فانتشرت وسوم مثل «سنَعبر»، و«الطريق إلى المنزل»، و«أوهن من بيت العنكبوت»، و«فلسطين حرة»، و«سنحرّرها»، و«عبَرنا» وسواها الكثير وكلها كتبها شبانٌ يشعرون بأن ما فعله ويفعله المقاومون الفلسطينيون هم فعلوه، وهم شركاء أصيلون فيه. بدا الشعب الفلسطيني مزهواً بانتصاره، غير مصدقٍ لما يحدث. لم يكن سكان غزة يحلمون بأكثر من ذلك، وهنا يستعاد نص محمود درويش «لسنا نحلمٌ بأكثر من ذلك». مشهد المجنّدين الصهاينة المصوّر عبر تقنياتٍ حديثة ومن خوذات المقاومين، يظهر بوضوح أنَّ المجندين الصهاينة أُخذوا بالمفاجأة، حتى إنّهم لم يستطيعوا ارتداء ملابسهم، بل إن بعضهم –بحسب صور جثثهم- قد ارتدوا جعبهم وحملوا بنادقهم فوق ثيابهم الداخلية: كان الأمر مفاجأة مدهشة. هذه المفاجأة جعلت أهل غزة ينطلقون في الشوارع بشكلٍ كرنفاليٍ احتفالي: زوجات وأمهات مقاومين وشهداء يرفعن عالياً بنادق أسرها المقاومون من جنود صهاينة. مجنداتٍ صهيونيات يجررن في شوارع غزّة بعدما كن يعرضن «كل من يمرّ أمامهن» للإذلال كما أشارت إحدى المعلقات التي تبدو أنها كانت أسيرة لدى الاحتلال.

«الطريق» (١٩٦٤) للفنّان الفلسطيني إسماعيل شموط

في لبنان، وعبر العالم العربي، انطلقت حملات الاحتفال: انتشرت حول أماكن الوجود الفلسطيني كمخيمات العائدين، توزيعات للحلوى وانتشرت الأغنيات الوطنية والحماسية مطلقةً العنان لأحلام الناس بالعودة كما لو أن بشائرها قد آنت. الدعم الشعبي انتقل من الواقع الافتراضي ومواقع التواصل إلى الواقع المعاش، فصدحت جوامع ومساجد بيروت بتكبيرات العيد والانتصار، ووزعت الحلوى في ضاحية بيروت الجنوبية وتعلبايا وبيصور والمتن الشمالي وطرابلس، ومناطق لبنانية كثيرة على امتداده الجغرافي، وانطلقت مسيرات سيارةٌ وراجلة في شوارع المدن تغرد أغنيات المقاومة وتمجّدها. المشهد نفسه تكرر هذه المرة من تونس، فانتشرت فيديوات لرجالٍ بثيابهم التقليدية أو العربية، يرفعون علم فلسطين وأصوات الموسيقى والأهازيج تزغرد في الخلفية، مع رجالٍ ونساءٍ وأطفال من مختلف الأعمار ينشدون فلسطين. في موازاة ذلك، كان الإعلام العسكري للمقاومة ينشر صوراً أشد قوة وتأثيراً: شبانٌ فلسطينيون مقاومون ينزلون بالمظلات ومن السماء على مواقع الصهاينة، ومستوطناتهم. هنا بدأت الصورة تتضح شيئاً فشيئاً، إذاً كان الاقتحام البري مكملاً لاقتحامٍ جوي، وهذه كانت ربما المرة الأولى التي تستخدم فيها المقاومة الفلسطينية «الإنزال الجوي» و«الإسقاط الجوي البشري» كسلاحٍ مباشر. هذا الأمر أيضاً استدعى مقارنةً على السوشال ميديا مع عملية «قبية» الفلسطينية الشهيرة لـ «الجبهة الشعبية-القيادة العامة» التي نفذها البطلان الشهيدان السوري خالد أكرر والتونسي ميلود بن ناجح نومة اللذان اقتحما بطائرتهما الشراعية، معسكراً لوحدة جولاني، وأرديا جنود العدو بين قتلى وجرحى. عند الساعة الثانية عشرة تقريباً، طلع «المحبب» ذو الكوفية الحمراء، أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، الذي بات جزءاً من قوة الحرب الإعلامية للمقاومة: قال ما يجب أن يقوله. ربما هو لم يكشف الكثير، فالسوشال ميديا كانت قد أضحت أمّ الخبر وأصله: صيدٌ كبير للمقاومة وانتصارٌ عظيم، جنرالٌ صهيوني كبير، يدعى نمرود ألون، يحمل رتبة قائد «لواء» غزة في قبضة المقاومة، ناهيك بعددٍ كبير من الأسرى الصهاينة. بدا أن الصهاينة يريدون رداً سريعاً، فخرج «المنسق» ليهدد الفلسطينيين وأهل قطاع غزّة تحديداً: «إن ما فعلته حماس كبير». إنها اللعبة الدرامية عينها: أن تعزل المقاومة، وأن تجعلها مرتبطة بحماس وحدها، فيما هي «كل الناس» لا حماس وحدها. انتشر الفيديو سريعاً، لكنه خفت بالسرعة نفسها وبدا تأثيره خلبياً تافهاً: كانت فرحة الناس أكبر، وأقوى وأعم، وخصوصاً مع انتشار فيديو قصير للشهيد باسل الأعرج قائلاً: «متكتكينها مزبوط الشباب» حيث كان المثقف المشتبك يتحدّث عن عملية سابقة للمقاومة، بدا فيه كما لو أنه كان عالماً بعملية «طوفان القدس» و«تكتكتة» المقاومين «المزبوطة» فيها.
الإعلام العسكري ذهب إلى التيك توك وبدأ بنشر فيديواته بذكاء واحترافية


في هذا الوقت، بدأت السخرية المدهشة والمعتادة في الحالات المشابهة، فانتشر تسجيلٌ صوتي، لا يعرف مصدره أو أصله، يدعو المواطنين الغزّيين، بلغة واثقة: «كل من أخذ أسيراً صهيونياً وخبأه في منزله، ندعو إلى إعادته كي يتم إحصاء الأسرى». هذا التسجيل الصوتي أعقبه «مشاهد» لمجنداتٍ صهيونيات ألبستهن المقاومة ثياباً جديدة أو بيجامات حمراء. كانت السخرية هذه المرة متجهةٍ أكثر صوب أنَّ «ادعاء البراءة» هذا كاذب وأنهن قاتلات ومقاتلات في جيشٍ للقتلة، كان يقتل الفلسطينيين ويذلهم ويهينهم بشكلٍ يومي. لذلك إن التعاطف من أي نوعٍ معهن مرفوض. وبدا الفرح كبيراً، مع بوستات من نوع: «ناطرين نفس السيناريو بالجليل. والله عم احسبها أديش بدنا لنوصل إذا طلعنا من المخيم»، أو «نكتة سريعة: الجيش الذي لا يقهر»، و«ما أجمل أن يعرف الأشخاص مكانهم الحقيقي» مع صورة لجنود صهاينة مختبئين داخل حاويات نفايات وجملة «أحدث الملاجئ في الكيان» على الصورة نفسها، و«أهل غزة مش ملحقين زق ونقل»، و«مطلوب شباب بتقدر تحمل أكتر من 10 طن بالنقلة الواحدة». بدا الفرح عارماً، ولأن الفرح جامع، شارك حتى المشجعون الرياضيون فرحهم، فأشار بوست فيسبوكي: «إذا الله راد، «العهد» رح يلعب مع فريق «جبل المكبر» على أرضه في فلسطين».



محاولات لتشويه النصر
انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، محاولات من كثيرين للتعاطف مع صور مجندات صهيونيات يجرهن مقاومون، فكانت تعليقات مؤذية ضمن منطق «العنف ضد المرأة» و«القمع الإسلامي» وسواهما. لكن سرعان ما تم الرد عليه مع فضح أن هؤلاء الفتيات هن مقاتلات في جيش الاحتلال، ومعظمهن شارك بشكلٍ فعلي إما في قتل نساء ورجال وأطفال فلسطينيين وعرب، أو على الأقل في إذلالهم وقمعهم على حواجز الاحتلال المحيطة بقطاع غزة والأراضي الفلسطينية كافة. جاءت معظم الردود بشكلٍ منطقي وعقلاني مع تصدير صور المجندات ببنادقهن لإظهار أنّها معركة بين محتلٍ للأرض وصاحب الأرض. لا يخفى على أحد هنا أنَّ لعبة «بوستات» مواقع التواصل، كما بعض «الشخصيات المشبوهة»، فضلاً عن «الصحافيين الصهاينة» الناطقين بالعربية، قائمة أساساً على تسخيف الصورة العربية وتكذيبها، وتصدير رؤية معاكسة، والأهم من ذلك تقديمها مخالفةً لـ «الديمقراطية الغربية» وضوابطها.