يكفيك كمتابع بعيد عن عالم الرسوم المتحركة وتاريخها أن تشاهد صورة أبطال المانغا والأنيمي الياباني المنشأ، قد غلّفت بدلة مشجعي منتخب فريق الكرة الياباني في مونديال 2002 ـــ وإن كانت غير رسمية ـــ لتعلم مدى اعتزاز هذا البلد بثقافته وإنتاجه المميز الذي بدأ بغزو العالم في قطاع يدرّ المليارات... نعم المليارات..دليل قاطع وملموس على دور فوق العادة لما يسمى بالعامية «الرسوم المتحركة» (الكرتون) في الثقافة اليابانية لما تحمله من تحدٍّ واضح لكل منتجي مسلسلات الكرتون في العالم، ولا سيما الغربي. لم يكن يتصور الغرب، متمثّلاً بـ «ديزني» وأخواتها ومن لفّ لفيفها ـــــ هذا المدّ من الإبداع الآسيوي من إحدى دول المحور غير الناطقة بإحدى لغات الغرب المتفوقة والمسيطرة من القرن الحالي، بل لم يكن يتوقع هذا الإنتاج الغزير. مسلسلات وأفلام، أبطالها شخصيات يطال تأثيرها الكبار قبل الصغار، وتحاكي مواضيع حساسة وتناقش مشاكلات العالم بجدية. إقبال غير مسبوق على إنتاج مجسّمات الدمى والألعاب المختلفة كتجسيد لتلك الشخصيات والأبطال. نبدأ بالمجلات، مروراً بالثياب، فالأدوات، حتى القبعات والقمصان بدأت تحتلّها شخصيات بملامح لم يعهدها منتجو استوديوات كانت تتصور أنّ «تن تن وكلبه ميلو» سيعيشان إلى الأبد، ويشغلان خيال الأطفال.


الحق يُقال، لا تحتاج الحضارة اليابانية إلى الإنصاف. بل إنه من المعيب أن تصل بنا الحال للترويج للثقافة والأدب اليابانيين والتاريخ المديد لهذا البلد. حضارة أضافت للبشرية ليس التكنولوجيا فحسب، بل الأدب عبر كتّاب كبار على رأسهم كاواباتا ولا يتسع المجال لذكرهم... هذه بعض الأسباب التي أوصلت إلى هذا الإبداع الذي تجلّى في الأنيمي الياباني، فأثار مشكلة للإنتاج الغربي من الكرتون الذي بدأ يشعر أن المنافسة باتت محرجة ومختلفة بوجود مسلسلات كـ Attack on Titans و Parasyte و Demon Slayer وغيرهم. منافسة مختلفة بشدة، إذ لم يجد الغرب ـــ ممثلاً بـ «ديزني» وأخواتها ـــ نفسه في السنوات الثلاثين الأخيرة تحديداً في مواجهة الأنيمي الياباني من حيث الأسلوب فقط. فالمضمون الياباني كما سبق أن أشرنا أعمق بكثير، ذو مخزون ضخم مصدره مأخوذ من قصص كالـ«مانغا». هو متطور واجتماعي يكتنف فلسفة الحياة بشكل عجز عن مجاراته الغرب الذي اعتمد على الخيال السطحي في قصصه، بالرغم من إمكاناته الضخمة ناهيك بالسكان الأصليين فالمهاجرين والمناصرين الضائعين في أنحاء العالم، من الذين تجمعهم اللغات والخطابات المشتركة. هذا من دون أن نذكر صعوبة اللغة اليابانية التي يعتز بها أصحابها، فلا يخضع الأنيمي الياباني لمعايير الدونية في الإنتاج، إذ نجده في معظم الأحيان صادراً بلغته الأصلية. ولكن ما يُقال عن توتر الغرب من الإنتاج والثقافة اليابانيين أمرٌ، وانزعاج الغرب ممثلاً بـ«ديزني» وأخواتها من الشركات المنتجة للكرتون أو الرسوم المتحركة، أمرٌ آخر. لقد وجد العقل الغربي المدبر والمنتج للرسوم المتحركة (منذ عهد «ميكي ماوس» و«توم أند جيري») نفسه أمام ظاهرة لم يعرف كيفية التعامل معها والوقوف في وجهها..
أولاً، وبعدما محّص الغرب هذا المنافس من الأنيمي، تعمّد الهروب من التخصص الياباني في إنتاج «الشخصيات الآلية». حاول ففشل، إذ وجد أنّ لا طاقة له لمجابهة الأفكار اليابانية المجسدة في تلك الشخصيات. نماذج نعرفها جيداً في لبنان ومصر وبلدان عربية أخرى كـ«الرجل الحديدي»، و«جونكر»، و«غرندايزر» و«مازنجر». النزال هنا لصالح اليابان من دون إمكانية المقارنة، فكان الانسحاب أفضل الحلول. المستوى الثاني الذي تملّص منه الغرب هو إنتاج المسلسلات. إذ إنّ الإنتاج الياباني ضخم وغزير من خلال الحبكات والسيناريو المفصل الذي يطال شرائح الأعمار المختلفة مما يحتاج إلى نوع معين من الكتابة طويلة النفس، وهذا بعيد عن الاستهلاك السريع الذي يمثله الغرب حتى في أفلامه ومسلسلاته. لم يستطع الغرب أن ينتج نموذجاً كـ«مذكرة الموت» أو The Death Note الذي ألّفه تسوغومي أوبا وصمّم رسوماته تاكيشي أوباتا.


قصة يشاهدها الكبار قبل الصغار لما فيها من فلسفة الموت والحياة البشرية والصراعات التي تتجسد بين الخير والشر في قالب درامي شديد الدقة وخال من الفجوات.. طبعاً هناك العديد من هذا النموذج الذي فشل الغرب في نسخه، فتوجّب الهروب من منافسته. المستوى الثالث من المنافسة يتجسد في الشخصيات اليابانية البحت التي تختزن في الوجدان والثقافة اليابانية كالـساموراي والنينجا، والقصص التي تتعلق بحضارة الإمبراطوية وتاريخ البلد نفسه. عدم القدرة على المنافسة هنا تتجسد في عدم القدرة على استنساخ الشكل وتزوير التاريخ، ولا سيما أنّ الغرب يصنّف نفسه حامياً للملكية الفكرية في العالم. فيلم الأنيمي «مخطوطة النينجا» أو Ninja Scroll الذي صدر بداية التسعينيات وتحول إلى مسلسل بعدها في عام 2003 يعطي فكرةً كاملةً عن عدم قدرة الغرب على مواجهة هذا النوع من الأفكار والإنتاج. بعض النقاد الغربيين اعتبروا أن فيلم Matrix قد استوحى بعض أفكاره من الأنيمي الياباني كـ«مخطوطة النينجا».
أما المستوى الأصعب على الغرب الذي شكل ضربة قاضية، فكان الدورة المتكاملة لهذا الإنتاج التي تبدأ بالفكرة كتابةً، فتمرّ بالإنتاج وتنتهي عبر تحويل هذا الأنيمي إلى لعبة إلكترونية. طبيعي أن تكتمل الدورة هنا، فشركات الألعاب الإلكترونية الأشهر في العالم والمتخصصة في هذا النوع من الألعاب هي يابانية المنشأ ومنافستها صعبة. كما أن هناك ارتباطاً إدارياً بين بعض الشركات الإلكترونية والشركات المنتجة للأنيمي كما هي عليه الحال بين TMS and SEGA. وقد وجدت في هذا الإنتاج مادة خاماً لتحويله إلى ألعاب إلكترونية. وفي بعض الأحيان، يحصل العكس فيتم استخدام الألعاب الإلكترونية لإنتاج الأنيمي. وقد نجح الأمر نجاحاً باهراً. مثال على ذلك اللعبة الأشهر في التسعينيات من القرن المنصرم Street Fighter وفي وقتنا الحالي Castle Vania وغيرهما طبعاً.. بعدما ضاقت به السبل، تبين أن أقصى طموحات الغرب مجسّداً بـ«ديزني وأخواتها» هو شراء بعض شخصيات الأنيمي والدخول بها كمنتج للسوق للياباني وإيجاد مكان في هذا السوق.
متطور واجتماعي يكتنف فلسفة الحياة بشكل عجز عن مجاراته الغرب

وقد فعلت هذا فعلاً شركة Kodansha، أحد عمالقة إنتاج القصص والتوزيع في اليابان. لكن من قال إنّ الصاع لن يرد وفيلم Batman Ninja نموذج واضح لمحاولة الوصول إلى السوق الياباني ومحاولة خلق توازن مفقود. كما أنّ المنتج الياباني سبق الغرب في هذه الخطوة («المد الهائل» رواية غربية للكاتب الكسندر كاي ولكن أنتجها NIPPON Animation ويمكن إضافة «جزيرة الكنز» في الإطار نفسه).
مستويات أخرى تظهر تفوّق اليابان على الغرب كله مجتمعاً في هذا القطاع، لمن يريد الاقتناع. والأمثلة عن الفشل الغربي كثيرة. لقد استخدم الغرب كل أدواته... من هنا بحث «العقل السينمائي» الغربي والأميركي تحديداً، عن الشخصية الساحرة في الثقافة اليابانية التي شكلت له مشكلة في فترة الثمانينيات. لم يتقبل العقل السينمائي الأميركي وجود النينجا الياباني من أساسه ولا سحر هذه الأسطورة الملثمة سواداً التي اجتاحت صالات السينما في العديد من البلدان. هكذا، اخترع النينجا الأميركي في منتصف الثمانينيات وفشل فشلاً ذريعاً، محاولاً القول إنّه مقلّد بارع لأي نموذج ناجح وهذا أقصى ما استطاعه. أليس «الساموراي الأخير» الذي لعب بطولته توم كروز، جلياً؟ في قصة الفيلم، اكتفى «الكروز» (مصادفة أن اسمه على اسم صاروخ الكروز) بأسبوع تدريب واحد كانت كافية لقلب موازين الصراع على السلطة في اليابان، بل إنّ كروز وحده كان متكفلاً بحماية الإمبراطورية بعدما مات الجميع وبقي توم شامخاً في المشاهد الأخيرة.