شرّعت نتفليكس الباب أمام الدراما الأوروبية في محاولة منها للتنويع وكسب المزيد من المشاهدين. فمنذ أعوام، تحتل الدراما الأميركية أمواج الأثير، وخصوصاً مع اقتصار وجود السينما الأوروبية على المهرجانات السينمائية وبعض قنوات التلفزة مع ندرة عرضها، فكيف إذاً بالدراما التلفزيونية الأوروبية، التي تغيب تماماً، اللهم باستثناء الحضور الخجول للدراما الإنكليزية، مع مسلسل أو اثنين من طينة Peaky plunders و Black mirror. هذه المرّة تعود الدراما الفرنسية مع تحفة جميلة هي Vortex التي أبدعت سارة فاركاس وكاميل كواس في كتابته وصناعته. تدور قصة المسلسل حول الشرطي لودفيك بيغين (تومر سيسلي) التي تُقتل زوجته ميلاني (كاميل كلاريس) في عام 1998، ليتزوج بعدها من المهاجرة الأفغانية الطبيبة بارفانا (زينب تريكي) وينجب منها ابنه سام (ماكسيم غيغين). العالم أصبح في عام 2025، والحضارة تطوّرت بشكلٍ يمكّن الشرطة من تصوير موقع الجريمة بشكلٍ محترف وكامل ضمن تقنية أشبه بالـ virtual reality. وهنا حبكة المسلسل، بمعنى أنّه يمكن للشرطة أن ترجع إلى موقع الجريمة كما لو أنّ الشرطي كان هناك، أي إن التصوير هو بكل التفاصيل وثلاثي الأبعاد. ما يحدث أنَّ لودفيك يكتشف أن جريمة قتلٍ مشابهة لطريقة مقتل زوجته قد حصلت أخيراً. هنا يقرّر أن يغوص لا في قضية الجريمة هذه بحد ذاتها، بل أن يعود إلى جريمة مقتل زوجته ميلاني. يحدث ما يسمى بالفورتيكس الزمني (Vortex)؛ والفورتيكس هو نظرية زمنية تتحدث عن «مغنطة» و«دوامات كهرومغاطيسية». وكانت هذه النظرية الأقرب إلى الخيال، قد طُرحت خلال الحديث عن أهرامات مصر، وكيف أنها تحتوي «فورتيكس» زمنياً وأبعاداً وبوابات زمنية وما شابه. في المسلسل؛ يحدث الفورتيكس. وبدلاً من أن تكون ميلاني مجرد فيديو يشاهده لودفيك ضمن التقنية الجديدة ثلاثية الأبعاد، يكتشف أنّها تسمعه وتراه. هنا تبدأ أحداث المسلسل لا بالتعقيد فحسب، بل بالتجوهر أيضاً.
يبدو أنَّ صنّاع العمل قرروا أن يجمعوا بين مسلسل Frequency الأميركي المعروف للمؤلف جيمي كارفر، الذي تقوم فكرته على قدرة المحققة رايمي سوليفان على الحديث مع والدها المقتول فرانك من عام 1996 عبر جهاز راديو قديم؛ وفيلم «أثر الفراشة» (The Butterfly effect ـــــ عام 2004 ـــ إخراج ايريك برس) الذي يتناول تأثير أحداث الماضي على المستقبل. يقرر لودفيك العمل مع زوجته ميلاني ــ كلّ في موقعه الزمني ـــــ حلّ جريمة قتلها واكتشاف قاتلها، وحتى إنقاذها. لكن كل خطوة تحدث في الماضي، تؤثر على المستقبل، وقد يكون التأثير كارثياً وذا أبعاد أكثر مما هو متوقع، فهل فعلياً يرغب لودفيك في إنقاذ زوجته؟
يطرق «فورتيكس» أبواباً أبعد من مجرد مسلسل خيال علمي معتاد، بل إنّه ليس خيالاً علمياً في بعض محطاته بمقدار ما هو واقع معاش يطرح أسئلة وجودية وفلسفية: ما هو الواقع أصلاً؟ هل هو ما نعيشه؟ ما هو الحب؟ هل هم الأشخاص الذين أحببناهم وعشنا معهم، أم الذين نعيش معهم الآن، ونحبهم الآن؟ يطرح العمل أيضاً جزءاً من متناظرة فيرمي-اينشتاين الفيزيائية المعروفة التي تسأل حول ماهية الواقع الفيزيائي المعاش، وإن كان أصلاً حقيقة فعلياً أم أنه بتأثير من الكيمياء العقلية والإحساس بالواقع ووعيه؛ وصولاً إلى نظرية الرجل المعلّق في الفضاء للشيخ الرئيس ابن سينا. كل هذه الأمور يتطرّق إليها مسلسلٌ قصير مكوّن من ست حلقات تمتد كل واحدة على قرابة خمسين دقيقة. على جانبٍ آخر، تبدو الدراما الفرنسية في حلةٍ جديدة، خصوصاً مع مسلسل خيالٍ علمي، لكنه لا يحتاج إلى صرف الكثير من المال. مَن يشاهد المسلسل، يدرك بسهولة أن كلفة المسلسل ليست مرتفعة، إذ إنه لم يستخدم الكثير من CGI أو المؤثرات المكلفة الباذخة التي تنهك عادةً هذا النوع من الأعمال.
عمل يسائل مفاهيم الأخلاق والمنطق والحب والواجب ضمن قصة محبوكة

الملاحظ في العمل بساطة الفكرة، والاتكاء بشكلٍ كلي على الماكياج وأداء الممثلين الذين أثبتوا علو كعبهم، وخصوصاً الثنائي سيسلي وكلاريس. الأمر نفسه ينسحب على طريقة تقديم الفكرة بسهولة وبساطة بعيداً عن تعقيد المسألة بشرحها الفيزيائي والعلمي، إذ لم يحاول لا بطل العمل، ولا صنّاعه، شرح الفكرة مطولاً، ولا يلجأ لودفيك (كبطل للعمل) مثلاً لشرح الفكرة بكامل تفاصيلها لمن حولها. هو يقول بكل بساطة «حصل معي هذا». حتى أنّه هو نفسه لا يحاول فهمه ولا إدراك كيف حدث ذلك. هو فقط يقبله ويحاول التعامل معه والإفادة منه. أدائياً يمكن القول إن لدى الدراما الفرنسية حصيلة جيدة من ممثلين جدد قادرين على إضافة الكثير للدراما العالمية، إذ إنهم في مسلسل من المفترض أنه خيال علمي، قدموا أداءً يذكّر بالمسلسلات المبنية على قصص عالمية تذكّر بالمسرحيات الشكسبيرية أو بأعمال الإسباني لوركا. من الجدير بالذكر أنَّ معظم أبطال العمل في الأصل ممثلون كوميديون، وهذه من المرات القليلة التي يؤدون فيها أدواراً درامية/ تراجيدية.
عملٌ يستحق المشاهدة قائمٌ على فكرة متخيلة، لكنها تنهك المشاهد بأسئلتها التي تبقى بلا أجوبة. تسائل مفاهيم الأخلاق والمنطق والحب والواجب في قصة محبوكة، ومؤداة بحرفة. علماً أنّ المسلسل كان قد حقق نجاحاً كبيراً في بلده الأم، حين عرض على «فرانس 2»، آخذاً 21.3 في المئة من مجمل مشاهدي المحطّة، ما أعطى الأخيرة أعلى نسبة مشاهدة منذ بداية العام.

* Vortex على نتفليكس