بغداد | في مطلع العام الجديد، انطفأ عالم الاجتماع متعب مناف، ليكون أولى الخسارات في 2019. يعدّ مناف من الجيل الثاني من روّاد علم الاجتماع، بعد علي الوردي (1913- 1995)، وقد اعتُبر أحد أركان ما عُرف بالمدرسة العراقية في علم الاجتماع، مع كلّ من حاتم عبدالصاحب الكعبي وعبدالجليل الطاهر. والمفارقة أنّ الثلاثة تعرّضوا للمضايقة؛ بدءاً من إيقافهم عن العمل وصولاً إلى إحالة إثنين منهم إلى التقاعد كرهاً. ولد متعب مناف في البصرة عام 1939، وحصل على شهادة البكالوريوس من «جامعة بغداد»، ثم الماجستير والدكتوراه من «جامعة سيراكوز» في نيويورك سبعينيات القرن الماضي. تدرّج في جامعة بغداد، من نيل لقب «الأستاذ الأول» لعلم الاجتماع، وصولاً إلى تسلّمه منصب رئيس قسم الاجتماع عام 1987، إضافة إلى عمله أستاذاً زائراً في الأنثروبولوجيا والخدمة الاجتماعية في جامعات أميركيّة وأوروبيّة.امتاز نهجه بالتحليل القائم على الاهتمام بالمجتمع وبصفات الفرد فيه، سعياً منه إلى تأكيد دور وخصوصية المدرسة العراقيّة في علم الاجتماع، من دون أن يكون للفاعلين فيها نزوع نحو بثّ أحكام اطلاقيّة عن المجتمع. فكّك بناءات الفرد العراقي والأساسات الخاطئة التي يساق إليها منذ الطفولة، بين شخصيتين «ورعية» و«ردعية». وهذا ما لخّصه في إجابة له على سؤال مجلة «مدارك» الفصلية في عددها الصادر في بغداد عام 2011، إذ قال: «اقرأ مناهج التربية، ستجد بأنها تؤسس لشخصية ورعية، تخيف الطالب من عدم الامتثال لله والدين، وتهدّده بيوم القيامة، وهذا كله ورع لأن الآخرة ورع والدنيا ردع. وهكذا ينشأ الجيل نشأة ورعية، ثم نأتي في مرحلة متأخرة ونطلب من هذا الجيل أن يمتثل للقانون ويحترم هويته الوطنية، وهذا صعب، فالمواطنة لا تتأسس على الورع، بل على الردع كما قلنا سابقاً. وبما أن الورع هو الأساس وهو مقدس، فسيكون الردع دائماً عبارة عن قشرة خفيفة يمكن تفتيتها ببساطة. يمكن للفرد أن يتحدى القانون، ومع ذلك يحظى باحترام الجماعة التي ينتمي إليها، بل حتى احترام المجتمع. يسمونه باللغة الدارجة «زلمة ليل». لكن هل يحظى باحترام المجتمع أو الجماعة من يخترق الورع؟».
ترك الراحل العديد من المؤلفات القيمة من بينها: «ثورة على القيم» (بغداد ـــ 1965)، و«الواقع الفكري والمجتمع العربي الجديد» (1966 مطبعة العامل- بغداد)، و«الأسس التكنو اجتماعية للتخطيط» (1976ـ مطبعة الأمة - بغداد)، و«التخطيط والمجتمع: مفاهيم مدخلية وأطر» (1978 ــ منشورات جامعة قاريونس- بيروت)، و«السوسيولوجيا العابرة» (2010 ــ المركز العلمي العراقي- بغداد)، و«تاريخ الفكر الاجتماعي» (2010 ــ المركز العلمي العراقي- بغداد)، و«محاضرات في النظرية الاجتماعية المعاصرة» (2011 دار ومكتبة البصائر- بيروت).
تحمّل متعب مناف كلّ تقلّبات الحياة العراقيّة، ومراحل العنف فيها، وبقيت علاقته بطلبته هي الوحيدة التي أدامت وجوده في بغداد، وهم في المقابل عرفوا عنه خطه الجميل في المحاضرات وتلك السرعة في طرح الأفكار وكيفية الربط في ما بينها أمامهم، شارحاً النظريات والمناهج. علاقته تلك أثمرت لاحقاً عن تأسيس «المنصة» التي أرادها منبراً أكاديميّاً حرّاً للبحث في المشكلات الاجتماعيّة. إلا أن الأحلام النبيلة سرعان ما تنطفئ في ظلّ الظروف العامّة، فلم يستمرّ المشروع، إلا أن مناف ظلّ يتابع طلبته الذين صاروا اليوم أساتذة في جامعات العراق، وهذا من ثمار عطائه الذي سيبقى خالداً ويتذكره كلّ من عرفه.