القاهرة | الحقائق في أغلبها صادمة، لكنها دائماً الطريق الأقصر لحلّ المشاكل. وأكثر الحقائق صدمة أنّ لا إعلام في مصر حالياً، وما يحدث في الأزمات الكبيرة، خير دليل على ذلك.أخيراً، وقعت اشتباكات عنيفة بين قوات الشرطة، وسكان جزيرة «الوراق»، إحدى الجزر المنتشرة في النيل في منطقة الجيزة.

قررت الحكومة تنفيذ قرارات إزالة لما أسمتها حالات تعدٍّ على أراضي الدولة، بينما كان السكان يرونها خطوة أولى لطردهم من أجل مستثمر إماراتي أو تطوير يحرمهم الإقامة في أرض ورثوا الإقامة عليها من أجدادهم.
وكانت هذه الواقعة اختباراً جديداً للإعلام، وككل مرة، رسب في الامتحان. في حادثة الوراق، كانت أغلبية الصحف الورقية والإلكترونية، إلى جانب الفضائيات صوتاً لما تقوله الحكومة، لا ما يقوله الناس. تبنّت تلك الوسائل بأغلبها وجهة نظر واحدة، تفيد بأنّه يحقّ للحكومة أن تفعل ما فعلته في جزيرة الوراق وأهلها.
بل إنّ عدداً من تلك الوسائل عمد إلى تشويه تحرك الأهالي، بدءاً من القول بأنّ من يحركهم عناصر من جماعة الإخوان المسلمين، وصولاً إلى اتهامهم بالبلطجة. وأقدمت بعض هذه الوسائل على نشر تقارير تتهم الضحية الوحيد في الأحداث بأنّه تاجر مخدرات ذو سوابق ممتلئة بالجرائم! وبعيداً عن عدم صحة أغلب ما جاء في تغطية وسائل الإعلام المصرية، كان الرد الطبيعي عليها من الناس أن لجأوا إلى الفضائيات العربية والدولية والمصرية التي تبث من الخارج (المعارضة للنظام) لمعرفة تفاصيل ما يحدث في الوراق. وكذلك، لجأ العديد من الصحافيين الذين تواجدوا في مسرح الأحداث في الوراق، إلى كتابة شهاداتهم على ما حدث على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. وقال بعض الزملاء في أحاديث خاصة إنّهم فوجئوا بمعالجة صحفهم للأحداث في اليوم التالي. قالوا صراحة: «هذا ليس ما رأيناه ولا ما كتبناه». ما قام به الإعلام المصري في حادثة الوراق، دليل جديد على أزمة كبيرة يعاني منها منذ سنوات.
إلى جانب الفوضى المهنية في غالبية وسائل الإعلام المصرية، برزت أخيراً نتائج الحلف الذي حدث بعد «30 يونيو» (تاريخ الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي الذي حكم مصر عاماً واحداً 2012- 2013). هذا الحلف بات حقيقة مع كل حادثة كبرى، أو عندما يكون الاختيار بين أن تكون الصحافة مع الناس، أو مع السلطة. وفي كل مرة، يكون اختيار الإعلام هو السلطة، ولو كانت هو شخصياً (الوسائل الإعلامية) سيعاني من تبعات هذه «المجاملة المجانية». من بين الفئات التي تضررت من القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة بتحرير سعر الصرف، هي صناعة الإعلام ذاتها.
بل إنّ هناك تهديداً واضحاً حالياً بإغلاق صحف، أو على الأقل وقف إصداراتها الورقية. وعانت الفضائيات كذلك من تلك القرارت. مع ذلك، كانت وسائل الإعلام مدافعاً شرساً عنها، بل مثّلت حائط الصد الذي امتصّ القرارات، وأفرغ شحنات الغضب التي سيطرت على قطاع كبير من المواطنين. هذا الاتفاق غير المعلن بين ملاك الإعلام والسلطة، كان واضحاً منذ البداية بأنّ هدفه إعادة إحياء إعلام الستينيات بشكله وأسلوبه وحتى مفرداته التي قد تثير السخرية الآن. الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه، هو صاحب المقولة الشهيرة «يا بخت عبد الناصر بإعلامه»، وهو مَن غضب في إحدى خطبه لأنّ جريدة «التحرير» المصرية سخرت من الحكومة بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء، ووضعت عنواناً في صدر صفحتها الأولى «منوّره بالحكومة». المانشيت الذي أغضب الرئيس، كان بداية لعصر جديد عنوانه أنّ ما يغضب الرئيس لا يجب أن يكون موجوداً على صفحات الجرائد أو على شاشات التلفزيون.

إعادة إحياء إعلام الستينيات بشكله وأسلوبه وحتى بمفرداته


التحالف بين الفريقين (السلطة ورجال الأعمال) أنتج وضعاً مأساوياً للإعلام، ملخصه أنّ الإعلام تخلى عن أهم أسباب وجوده، ولم يعد معبّراً عن الجماهير ولا ناقلاً لصوتها لدى السلطة، بل أصبح إعلاماً ستينياً بامتياز ينقل صوت السلطة ويتبنى وجهة نظرها. حتى المواقع الإلكترونية التي حاولت الإفلات من هذه الحظيرة، كان الحجب من نصيبها. فالحكومة المصرية حجبت أخيراً حوالى 102 موقعاً إلكترونياً كان أغلبها يتبنى وجهة النظر التي لا تظهر في الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي (الخاص). وهذا ليس بعيداً عن حجب الأصوات المنتقدة للسلطة أو التي قد تنتقدها في يوم من الأيام على شاشات الفضائيات. فجأة أصبحت الشاشات متشابهة، لا صوت ينتقد السلطة ولا جنونها في التعامل مع متظاهرين يخرجون رفضاً للتنازل عن الأرض في مظاهرات جزيرتي تيران وصنافير الشهيرة. ولم تسمع صوتاً رافضاً لإحالة عمّال إلى محاكمة عسكرية عاجلة لأنهم نظموا إضراباً يطالب بمستحقات مالية. تجاهل الإعلام اعتصام عمّال المحلة الكبرى، كما لم يظهر على الشاشة من ينتقد أوضاع السجناء ولا القتل خارج إطار القانون، ولا التعامل مع أهالي سيناء، ولا غيرها من كوارث إدارة الدولة بعد «30 يونيو».
هذه الحالة التلفزيونية يمكن تطبيقها على الصحف أيضاً. من يعود إلى القائمة التي اختارها «المجلس الوطني للصحافة»، المشكل بقرار من رئيس الجمهورية، لرئاسة تحرير الصحف والمجلات القومية، تؤكد على هذا التوجه. غالبية رؤساء التحرير الجدد ـــ إن لم يكن جلّهم ــــ اختيروا على أساس الولاء للرئيس ونظامه، وجميعهم كانوا مشاركين في المجموعة التي انشقت عن إجماع الصحافيين في أزمة نقابتهم مع النظام بعد اقتحام قوات الأمن مقر النقابة واعتقال اثنين من الصحافيين بتهم الدعوة إلى التظاهر ضد اتفاقية تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية. هؤلاء الذين دافعوا عن اقتحام الداخلية لنقابة الصحافيين ــــ بخلاف قرار الجمعية العمومية ـــ تم الاختيار من بينهم رؤساء تحرير الصحف والمجلات الحكومية في تصرف فج يثبت أنّ النظام مصرّ على ألا يكون هناك صوت مختلف واحد بين تلك المؤسسات. وبذلك، باتت هناك حقيقة واحدة أنّ لا إعلام في مصر، بعدما وضعت غالبية أو معظم الصحف (الورقية والإلكترونية) والإذاعات والفضائيات، ضميرها المهني على «الرف»، خوفاً من رقيب أو تماشياً مع أفكار سلطة. وسط هذه الحالة من التأميم المباشر وغير المباشر، فقدت وسائل الإعلام ما تبقى لديها من رصيد في الشارع، وباتت بلا أي تأثير حقيقي، أمام تأثير واضح لصحف وقنوات تبث من خارج الأراضي المصرية، سواء قنوات خليجية (قطرية تحديداً) أو إخوانية تبث من تركيا. وإن كانت هناك ملاحظات كبيرة على ما تفعله تلك القنوات من أخطاء مهنية، إلا أنّها تميزت بأنها الصوت الوحيد المختلف عن القطيع الإعلامي المحلي. وبالتالي، باتت هناك نسب مشاهدة عالية لتلك القنوات. وبدلاً من أن تبحث الحكومة المصرية عن حلّ لهذه الأزمة، بدأت تنكّل بالشركة التي تعد هذه الاستطلاعات، وتحديداً «إيبسوس» لاستطلاعات نسب مشاهدة الفضائيات. أخيراً، أصدرت الحكومة المصرية قراراً يقضي بإغلاق مكتب شركة «إيبسوس» العالمية لأبحاث السوق في القاهرة، بسبب «مخالفات متعلقة بالصحة والسلامة المهنية». هذا هو الإعلان الرسمي، بينما يقول مسؤولو «المجلس الوطني للإعلام»، إنّ الشركة ذات أهداف غير محايدة، «تخدم أهدافاً إخوانية».
وقبل أيام أيضاً، أصدرت مؤسسة «حرية الفكر والتعبير» تقريرها ربع السنوي عن حالة حرية التعبير في مصر للربع الثاني من عام 2017 (أبريل ــــ يونيو). رصد التقرير 108 انتهاكات لحرية الصحافة والإعلام، و169 انتهاكاً لحرية التعبير الرقمي، و44 انتهاكاً لحرية الإبداع.
وكشف أنّ الموقف العدائي من حرية الصحافة واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن مجرد تحرك أمني، بل إنّ هناك محاولات لتأصيله بتشريعات تتخذ الموقف نفسه. وركز التقرير على دور مجلس النواب في تبني تشريعات ومواقف شديدة العداء لحرية التعبير، سواء على مستوى اقتراحات القوانين الخاصة بالجريمة الالكترونية واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال التعتيم على مضمون مسودة قانون تنظيم الصحافة والإعلام، باﻹضافة إلى التدخلات اﻷمنية في عمل الصحافيين والمبدعين والملاحقات لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.