كيف يمكن أن نقرأ رواية الكاتبة الفرنسية آني إرنو (1940) «الاحتلال» (دار الجمل ــــ ترجمة إسكندر حبش)؟ أنقاربها بطريقة سيكولوجية أم بطريقة سوسيولوجية؟ وكيف يمكن أن نفهم الخطاب السردي لهذا العمل الأدبي الذي تحظى كاتبته باهتمام شديد من قبل النقاد والقراء على حد سواء؟ يمكن القول إنّ القراءتين صالحتان، إذا ما نظرنا إلى اللغة التي كتبت بها الرواية، تلك اللغة المتقشفة الخالية من كل تخييل. اللغة المباشرة، غير المتكئة على أي صورة فنية أو بلاغية.في الرواية الصادرة باللغة الفرنسية عن «دار غاليمار» العريقة عام 2002، اعتمدت الروائية تقنية بسيطة، هي تقنية الاعتراف، أو السيرة. تصلح هذه التقنية لكلتا القراءتين اللتين اقترحناهما في البداية. سيكولوجياً، يبدو اعتراف بطلة الرواية الطويل، مكتوباً على هيئة معاناة ممزوجة بهلوسات. كأنّه تنفيس عن حالة لا يمكن الفكاك منها، هي «الاحتلال». والاحتلال هنا ليس احتلالاً بالمعنى التقليدي السياسي الذي نعرفه، بل هو فعل تقوم به غريمة البطلة تجاهها؛ إذ تتلبسها تماماً. الغيرة تتحكم بعقل البطلة تماماً، وتسلبها كلّ منطقها وتفكيرها. قد تكون الغيرة هي التيمة الطاغية على الرواية بأكملها.
سوسيولوجياً، تبدو الغيرة مرضاً اجتماعياً يصيب الكثير من الناس، بغضّ النظر عن مستوى وعيهم، أو المعارف التي يتمتعون بها، أو طبقتهم الاجتماعية. ويتجلّى ذلك من خلال حبكة بسيطة. في هذا العمل الروائي الخشن، تلاحق الكاتبة تصرفات وعواطف بطلتها بكثير من الدقة. تلاحق عادياتها أيضاً، لتصل بذلك كله إلى الحقيقة القصوى. هذا الهاجس المرضي سيتواصل ويصبح مركّباً مع مرور الوقت، إلى درجة فقدان العقل، وبطريقة تدعو إلى السخرية. المأساة التي تعيشها هذه المرأة لا تستدعي كلّ هذا الهوس! فكرة الرواية البسيطة هي التي تشد القارئ هنا. امرأة تطرد عشيقها لأنها لا تريد أن تعيش حياة الأزواج العاديين. وما إن تعرف أن هذا العشيق قد ارتبط بعلاقة جديدة مع امرأة أخرى، حتى يصيبها جنون الغيرة. هكذا، تبذل أقصى جهدها لمعرفة كل شيء عن غريمتها، وحياتها وشخصيتها، بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة. تقضي جلّ وقتها في البحث عن هذه المرأة المجهولة، وتشغل بها كلّ تفكيرها، إلى درجة تشعر بأنّها صارت «مُحتلة» من تلك العشيقة الجديدة. فكرة الرواية الرئيسية، مأساة عاديّة، يمكن أن تمرّ في حياة أي شخص كان. لكنّ المثير فيها هو التفاصيل الصغيرة والمشاعر والانفعالات التي تدوّنها الكاتبة. يشعر القارئ في بعض مقاطع الرواية بالحيرة، ويبتسم مراراً أمام تصرفات هذه المرأة وأفكارها، التي تبدو مجنونة في بعض الأحيان: لكي تسمع صوت غريمتها، تتصل بأرقام كلّ سكان البناية التي تظنُّ أنّ غريمتها تسكن فيها!
لا تشذ هذه الرواية عن المشروع الذي تعمل عليه آني إرنو منذ بداياتها. هي تبني كلّ عمل روائي من أعمالها على تفصيل صغير أو حدث عابر كما هي الحال مع باكورتها «الخزائن الفارغة» (1974)، وروايتها الشهيرة «الساحة» التي نالت «جائزة رونودو» الأدبية الفرنسية العريقة عام 1984، وهي أيضاً رواية أوتوبيوغرافيّة. الفارق الذي يمكن أن يتلمّسه القارئ في «الاحتلال»، هو تلك الفضائحية التي تبدو للوهلة الأولى مبتذلة وفجّة، لكنّها في نهاية الأمر اعترافات ويوميات، تمثّل جزءاً مهماً من المتن الروائي، لا تكتمل من دونه الصورة.
تقول آني إرنو كأنّها تدوّن أحد اعترافاتها الأثيرة: «بعدما اجتزت زمن العمل المكثف، زمن الزواج والإنجاب، وبعدما دفعت غرامتي بأكملها إلى المجتمع، ها أنا أنذر نفسي للأساسي الذي لم أشاهده منذ المراهقة». يبدو هذا الاعتراف متأخراً. كأنّ «الاحتلال» هو العمل الذي تشرح من خلاله رواياتها السابقة، وطريقتها في الكتابة البيضاء التي لا يدرجها كثيرون ضمن الأدب الروائي. على أيّ حال، نستطيع أن نأخذ برأي المترجم الشاعر والصحافي إسكندر حبش الذي قدَّم للرواية. يقول: «من كتاب إلى آخر، تنجح إرنو في بناء عملها الأدبي الذي يذهب مباشرة إلى الأساسي، إلى الجوّاني والداخلي، إلى الحميمي، من دون أي تعقيدات أو التفافات. يذهب عبر هذه الكثافة المكثفة التي تفتح حقولاً متعدِّدة للقراءة الخاصة أمام القارئ».