القدس | كانت قصة «نداء صنصال/ غروسمان» الإسرائيلي المسمّى «نداء ستراسبورغ» (يرمي إلى إنشاء «تجمع عالمي للكتاب من أجل السلام») ستكون أقرب إلى نكتة سمجة، لولا ماكينة البروباغندا الإسرائيلية واستعمالها لمؤسسات أوروبية في تسويق القصة وبيعها عالمياً. الأول صاحب «فرضية» عنصرية في رصد التشابهات بين الإسلام والنازية، ومغرم بـ«إسرائيل» إلى حد لم يصدّقه الإسرائيليون أنفسهم، وإن لم يمانعوا في استعماله قليلاً باعتباره «كاتباً جزائرياً» هبط عليه الوحي الصهيوني.
والثاني أيّد جميع حروب إسرائيل العدوانية. ومع ذلك، لا يزال يسوَّق كـ«رجل سلام» بل صاحب مبادرات لا تنضب. هذان اللذان لا يستحقان سوى الاشمئزاز صارا صاحبي «نداء سلام» يريدان من «كتّاب العالم» السير وراءهما فيه. بوعلام صنصال (1949) الذي لا تجد عشرة أشخاص يحترمونه في المنطقة العربية، تنقل عنه «هآرتس» أنه تقريباً المثقف الجزائري الوحيد الذي يستطيع أن يتكلّم وأنّ بلاده غارقة في الظلام والجبن كسائر العالم العربي الذي انتظر كل هذه السنين مجيء صنصال ليخرجه من «ظلمات» العروبة والإسلام إلى نور السلام مع «إسرائيل» وقبلها أنوار الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي لا يستطيع كتم حنينه إليها. يمكن تلخيص صنصال بأنّه شاهد زور يمثل دور مثقف نقدي وصاحب رسالة سلام، في حين أن ما يجترّه من إنشاء، لا يمت بصلة حتى إلى واقع «عملية السلام» التي يجترّ أوهامها. لكنّ الأمر يبدو خطيراً حين تُجنَّد ميزانيات وماكينات إعلام ومؤسسات غربية سياسية وأدبية لتسويق «المبادرة»، وخصوصاً في أوساط عالمية ينقصها الاطلاع الجيد على ما جرى ويجري في منطقتنا. ومن هنا، تظهر أهمية تفكيك الغش والعنصرية والاستعمارية المبطنة في هكذا «مبادرات»، واتخاذ موقف نحو المؤسسات التي تصدّرها وتروّجها. ومن الضروري أن يضطلع الكتّاب والمؤسسات في العالم العربي بمسؤولياتهم في مواجهة عمليات التزييف التي تبدو الماكينة الإسرائيلية مشغولة بفبركتها وتسويقها. هكذا مبادرات لا يمكنها أن تصمد في وجود حد أدنى من وجهة النظر التي تكشف زيفها ومخادعتها. مثلاً، إذا نظرنا إلى نص «نداء ستراسبورغ»، فلن نصدّق حجم استغفال العقل والغش الذي ينطوي عليه «النداء». إنّه «السلام» حسب المواصفات الإسرائيلية، ومكتوب على مسطرة مدرسة الاستشراق الإسرائيلية. وإن حاول دايفيد غروسمان (1954) نسبته إلى بنات أفكار صنصال ليجعل الأخير كبشاً للعرس (حوار طويل مع صنصال في «هآرتس» بعنوان «من الجزائر مع الحب»، وفي نهايته تعقيب لعاموس عوز الذي يقول إنّه لم يسمع بصنصال قبل لقائه الأخير في القدس). حين جلب الإسرائيليون صنصالاً إلى مهرجان أدبي احتلالي في «ذكرى استقلال إسرائيل» في أيار (مايو) الماضي (الأخبار 12/5/2012)، بدا أنّ صنصال يسير على طريق اللاعودة وصار روحاً ميتة بأيدي الإسرائيليين يلعبون بها كيفما شاؤوا، ولا سيما في هذه الأيام التي تتسع فيها حملة المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل حول العالم، وينخرط فيها كتّاب هم بحق الضمير الحي في أوروبا وأميركا. صنصال لم يتورع عن امتداح كل شيء رآه في الكيان الاستعماري القائم على التطهير العرقي، بل امتدح حتى نظافة الشوارع وبدا منفوخاً ببعض التقريظ الصهيوني الذي ألقي على أسماعه، ذلك التقريظ الذي هو الوجه الآخر لاحتقارهم لصنصال وما يمثله. مهاجم الإسلام (وليس ممارسات أتباعه) بسطحية تدعو إلى الشفقة، لا يتورع عن منافقة الأصولية اليهودية وهو يلبس «الكيبا» ويصلي في «حائط المبكى» (أظهرته تسجيلات على الإنترنت)، الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي حوّل الاحتلال محيطه إلى حي استيطاني قام معظمه على أنقاض «حارة المغاربة» التي يبدو أن تاريخها لا يعني شيئاً لمن يمثل أمام الصهاينة دور كاتب جزائري. لكن، هل في كائن شائه كصنصال أي شيء من الجزائر، البلد العظيم حيث الوجدان العربي الأنقى في الانتماء لقضية فلسطين؟
أما «نداء ستراسبورغ»، فبعد تخليصه من الكليشيهات الإنسانوية عن دور الكتّاب في صنع السلام وسرقة بعض مفردات ناشطي مناهضة الحروب (الضرورية لتمرير الخداع)، يستنتج القارئ أنّ خلاصة هذا «النداء» هي التحريض على الإسلام وحصر التطرف فيه وفي أتباعه، من دون إشارة إلى أي تطرف ديني آخر (أو سياسي) في كوكب الأرض، فضلاً عن بهارات التحليل المخابراتي الإسرائيلي من النوع المخصص لتحريض دول الغرب على الدول العربية وعلى الإسلام والمسلمين، فالخطر على البشرية قادم من «البلدان العربية الإسلامية» وفي طليعتها أفغانستان وإيران وبعض جيوب التطرف في أفريقيا. وحماية السلام بالطبع هي حماية «إسرائيل التي تحيق بها الأخطار بشكل غير مسبوق»، و«تحقيق السلام» و«حل الدولتين» أهم شروطه «التخلي عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لعام 1948». أما إيران، فيدقّ «نداء ستراسبورغ» طبول الحرب عليها، فالخطر الذي يشكّله «تسريعها لبرنامجها النووي لتحقيق ادعاءتها للهيمنة في المجال السياسي والعسكري والديني» يستدعي «السيطرة عليه والتصدي له... حتى لا تحذو دول عربية حذو إيران في ذلك». بل إنّ البيان كأنما يقدم دفاعاً استباقياً عن عدوان إسرائيلي محتمل على إيران، فـ«إسرائيل في مواجهة وضع مركّب ومعقّد قد تجد نفسها مدفوعة للتصرف وحدها. قرار ضرب إيران على الطاولة، رغم أن إسرائيل قد تجد نفسها بذلك على حافة خطر وجودي».
رعاة كرنفال ستراسبورغ الأوروبيون يراوحون بين فرنسيين وألمان، هم ذات اللوبي الصهيوني وذات الشخصيّات المحنّطة المستلبة إسرائيلياً: جماعة «جائزة الحرية» الألمانية، و«المجلس الأوروبي» www.coe.int وغيرهما. ولاستدراج أتباع لـ«المبادرة»، تم تجنيد مديري مهرجانات أدبية كمدير «مهرجان برلين للأدب» (راجع المقال أدناه) الذي راح يرسل الدعوات إلى الكتّاب في قائمة المهرجان، طالباً منهم التوقيع على النداء، ومدير «مهرجان أدنبرة الدولي للكِتاب». أما عربياً، فلم تحصد «المبادرة» سوى الاشمئزاز، وهي أصلاً غير موجّهة للعرب، بدليل ترجمتها إلى ثلاث لغات، ليس من بينها العربية. إنّها مبادرة ليست لأصحاب الشأن، وهدفها الوحيد كسر خطاب مقاطعة إسرائيل ثقافياً الآخذ في الانتشار في العالم وترويج معرفة مضلّلة. الطريف أنّ «المبادرة» مستنكرة حتى من وجهة نظر دعاة «الحوار» مع الإسرائيليين، وكان من الطريف أن نقرأ تصريحاً لكاتب فلسطيني يكتب بالانكليزية ممسوس بـ«محاورة» الكتّاب الإسرائيليين والبحث معهم عن «السلام»، يسخر من مضمون «نداء» صنصال وغروسمان ويصف ما جاء فيه بأنّه «كذب مثير للشفقة» في تقرير موسّع عنه نشرته جريدة الـ«غارديان» (10 أكتوبر). وفي حين أننا بحاجة فعلاً إلى نداءات سلام تحذّر من خطر السلاح النووي الإسرائيلي وتدعو الى وضع حد لجرائم إسرائيل وفاشيتها ودورها في تأجيج الصراعات في المنطقة العربية والعالم، وسعيها المستميت لإشعال حروب دينية ومذهبية جديدة؛ نراهم يخطفون «نداء السلام» ولا يجدون أفضل من شخص موتور مثل صنصال لتمرير الدعاية الإسرائيلية الممجوجة، ويحاولون تصوير شخص بحقده وجهله كأنه الماعز الحكيمة التي يشرب من حليبها غاندي. وبعد، ما الذي يمكن قوله عن هكذا «سلام» وهكذا «كتّاب»؟ لحسن الحظ، لا شيء أوسع من «مزبلة التاريخ».