يُعَدّ الشاعر العراقي هادي ياسين علي من الشعراء المقلّين في النشر وربما في الكتابة... ذلك لأنّه رسام أيضاً، وكثيراً ما يأخذه الرسم، إلى حدّ يجعله ينسى القصيدة أحياناً، رغم أنّ عمله في الرسم لا يبتعد كثيراً عن مشغله الشعري. لهذا السبب، ربما كان يكتب هادي ياسين علي نصوصاً تأمليّة، ونصوصاً عن الطبيعة، وخصوصاً بعد هجرته إلى كندا والانفتاح على الطبيعة الباذخة هناك كما سنرى ذلك في ديوانه الشعري الجديد «رجل وحيد»، الصادر عن «دار تموز» (دمشق/ 2011). إلى جانب الطبيعة والتأمل في الحياة، يكتب هادي نصوصاً عن الذكريات، والأخطاء، والمكان الأول، من دون أن يتخلّى عن ارتكاب الأخطاء ذاتها بوصفها أفكاراً وأحلاماً ينبغي المقامرة من أجلها حتى تنتهي أعمارنا، ومهما كانت النتيجة.
لكنّه يتوقّف أحياناً ويتساءل عن الطيش وضياع الأعمار، في البحث عن وهم نعرف كلُّنا أنّنا لن نصادفه ذات يوم. فهل الشعر متاهة ندور في دروبها للخروج إلى نور الأرض الأولى؟
في نصّه الطويل «مسودة النسيان»، يحاول هادي أن يتذكّر كلّ شيء، من أجل تدوينه، ومن ثم محاولة نسيانه، أو محوه من الذاكرة. لكن كيف يتأتى لشاعرٍ منفي أن يمحو ذاكرته، وهي كلّ ما يملك في المكان الغريب؟ «من أجل ماذا كان علي أن أذرع الحانات/ وأصب في كؤوسي بريق الألم/ وأعب من الهواء ما يفسد على الطريق قدمي/ وعلى ليالي مباهج مدعاة/ وأناقش أكرة الباب/ وأستدير غافلاً صوب الغفلة».
سبق لهادي ياسين علي أن أصدر مجموعة شعرية عن «دار الآداب» عام 1990 تحت عنوان «كلام التراب»، كذلك ترجمت العديد من نصوصه إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإسبانية والرومانية. في ديوانه الجديد، يندم وهو يراقب الطبيعة الأخاذة خالية من الناس، ويتألم حين يجد نفسه وحيداً في هذه الطبيعة الخلابة بلا حبيبة أو صديق... لا بل إنّ هذه الطبيعة تحيله على الخراب الذي عاشه في صحراء بلده، بحروبه وخيباته. «ماذا أفعل بهذه الروح/ بهذه الطرقات الشاسعة، الموحشة/ بهذه المتنزهات أخاذة الجمال، الفارغة/ بالطير التي تصدح بصمتي في فيافي الأيام/ ماذا أفعل بهذا النسيج الذي لا ينتهي/ وقد وهنت أصابعي منه/ ووهن خيالي من ابتكار نقوشه».
يوغل الشاعر في أخطائه، ويتساءل عن سبب هذه الأخطاء، لتبدو العملية كلعنة لا رادع لها. لا يقدّم الشاعر إجابات عن أسئلته المرة التي تقضّ مضجعه، وتجعله في تيه دائم. وقد يكون ذلك ما يطلق عليه لذّة الألم.
«من أجل ماذا/ أقود خطاي إلى التسمم/ وظهري أجعله مسنداً لخرابي/ وأوراقي أتركها للريح توزع دروبها/ وتسلمها للأسيجة والجدران والسطوح/ فيما أتلمس خطاي في التيه/ وأغذ خطى في الأخطاء».
يخلص هادي ياسين علي في نهاية ديوانه «رجل وحيد»، إلى أنّنا لا يمكن أن نتخلّص من سهام الزمن الذي هو السهم والقوس والهدف. ونحن نشبه ذلك تماماً... يعترف الشاعر في نهاية المطاف بأنّنا نمنح الزمن فرصة ليصيبنا. «مثل قوس مشدود إلى النهاية هو الزمن/ الأيام سهامه والسنين جرابها/ قوس مشدود إلى أقصاه/ متأهب من الأبد إلى الأبد/ نحن نسيج ذلك القوس ومعناه/ أما هدفه فهو مؤجل/ فيما يقول الغياب/ إننا القوس والسهم والهدف».